بشهت زهرا (أو جنة زهراء) هي المقبرة الأكبر في العاصمة الإيرانية طهران، حيث تغطي مساحة 5 كيلومتر مربع تقريبًا، أي ضعف مساحة موناكو البلد الصغير المُحاط بفرنسا، وتضم أكثر من مليون قبر، وهي تحتوي على قسم كبير مخصص للشهداء يضم كل من قتلوا في الحرب مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي، غير أن أحدًا قد زاحم شهداء الثمانينيات مؤخرًا ووجد له مكانًا هو الآخر.
ورود حمراء وصفراء تناثرت على ذلك القبر الجديد، إلى جانب صورة المتوفي التي غطاها علم الجمهورية الإسلامية، بينما قرأت اللافتة الموضوعة مشيرة له: “محمد حسن خليلي، عضو بالـ”باسيج” (القوة الشبابية التابعة للحرس الثوري)، توفي وهو يحمي ضريح السيدة الزينب،” توقفت اللافتة عن شرح المزيد، غير أن الكثيرين يعلمون أن ضريح السيدة زينب يقع في ضواحي العاصمة السورية دمشق.
كثيرون مثل خليلي لقوا حتفهم أثناء الصراع السوري القائم منذ بضعة سنوات، والذي قررت إيران أن تلقي بثقلها فيه لحماية النظام السوري بتأسيس قوات الدفاع الوطني (المعروفة بالشبيحة) نظرًا لخبرتها بمسألة الميليشيات، وكان القتلى في البداية من الشباب أمثال خليلي أو “المتطوعين” كما تسميهم إيران، والذين مات منهم 400 كما صرحت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية (إرنا) نفسها في شهر واحد فقط، غير أن القتلى مؤخرًا أصبحوا من الرُتَب الكبيرة بالحرس الثوري نفسه.
لم يكن غريبًا أن تشهد طهران بضعة جنازات شعبية مهيبة في الأسابيع الماضية إذن، والتي فقدت فيها ما لا يقل عن ثلاثة جنرالات (قارن ذلك بأربعة جنرالات فقط في 2014 كلها)، لتتوجه هي الأخرى إلى بهشت زهرا لدفن جنرالاتها، والذين مات أبرزهم، وهو حسين همداني، بينما كان يقدم الدعم في معركة حلب مؤخرًا، وهي المدينة شديدة الأهمية استراتيجيًا لنظام الأسد وحلفائه في إيران وروسيا خاصة في هذه الأيام بينما تجري مفاوضات للخروج بحل سياسي يؤثر فيها بالطبع الواقع على الأرض.
حسين همداني
همداني هو أحد المحاربين القدامي الذين خاضوا الحرب مع العراق، وتم تعيينه نائبًا لقائد الحرس الثوري عام 2005، وله سجل طويل في قمع الحراك الشعبي يسبق توجهه لسوريا، فقد ساهم في إخماد تمرد الأكراد عام 1979، وكذلك في قمع تظاهرات 2009 التي اندلعت بعد انتخاب أحمدي نجاد لفترة رئاسية ثانية، وهو معروف في إيران بخبراته في حروب الميليشيات والتنسيق بينها وبين القوات النظامية، كما قال أحد مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية، وقد وضع اسمه على قوائم العقوبات الدولية عام 2011.
بالتبعية، أرسلت الجمهورية الإسلامية حسين همداني لسوريا منذ وقت مبكر بعد اندلاع ثورتها، كما صرح رئيس الحرس الثوري محمد علي جعفري بنفسه عام 2012، ليتولى دورًا مركزيًا في تأسيس قوة الشبيحة، وتدريبها للتعامل مع الانتفاضات الشعبية بعُنف تمامًا كما فعل رجاله في طهران نفسها في 2009 أثناء ظهور ما عُرف بالـ”ثورة الخضراء،” والتي استخدم فيها قوات الباسيج آنذاك لقمع مئات الآلاف ممن نزلوا للشوارع من الشباب الإيراني.
صُدِم الإيرانيون بالطبع في الثامن من أكتوبر الماضي، وفقدوا إلى جانب نظام الأسد المنشغل بمعركة حلب شخصًا محوريًا، حين لقى همداني حتفه في هجوم للدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش) قُرب حلب، لتقيم له الدولة جنازة رسمية في حين أرسل المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، بنفسه، تعازيه لأسرته.
صورة من جنازة حسين همداني في طهران
قليلة هي التفاصيل التي تخرجها إيران للعلن عن قتلاها من الجنرالات، غير أن تعقب أماكن سقوطهم فقط كفيل برسم خارطة للنشاطات الإيرانية وبالتالي فهم استراتيجيتها في سوريا، فإلى جانب همداني المقتول في حلب، قتل في 13 أكتوبر اثنان من قيادات الحرس الثوري في جنوب سوريا، كما أفادت وكالات الأخبار الإيرانية، وفي 22 أكتوبر قتل الجنرال رضا خاوري، قائد مجموعة الفاطميون بالحرس الثوري، حول محافظة حماة، وفي وقت سابق من العام، بيناير الماضي، قتل الجنرال محمد علي اللهدادي، مع ستة من مقاتلي حزب الله، بضربة جوية إسرائيلية بجنوب القنيطرة، المتاخمة لهضبة الجولان المحتلة.
إيران إذن تعمل على جبهتين رئيسيتين، أولها تعزيز موقع النظام في المدن الكبرى والاستراتيجية التي سقطت منه، مثل حلب وحماة، وثانيها ترسيخ قوتها الخاصة وقوة حزب الله بالجنوب، أولًا لتعزيز الممر الذي تسيطر عليه من جنوب العراق لجنوب لبنان، ويُبقى نفوذها حيًا بمنطقة المشرق، وثانيًا لتوطيد وجودها وحصارها لإسرائيل من الشمال، عبر حزب الله في جنوب لبنان، وميليشياتها الجديدة في جنوب سوريا بالقرب من الجولان، وهو ما يفسر كون قتلاها في الجنوب في أحيان كثيرة عن طريق نيران إسرائيلية، في حين يقع قتلاها بالشمال بأيدي الثوار أو الدواعش.
“ليس ثمة حل عسكري للأزمة في سوريا، في النهاية سيجلس الجميع ويتفاوض،” هكذا تحدث وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في نيويورك مؤخرًا بابتسامته المعروفة، والتي تظهر وجه إيران الدبلوماسي للعالم، وتخفي على الأرجح أفعالها الدموية المتزايدة في سوريا، وهي كلمات دبلوماسية لا تُسمن ولا تغني من جوع، إذ أن ظريف يعلم جيدًا، كما يعلم بوتين، أن الحرب استمرار للتفاوض بسُبُل أخرى، وأن المعارك المشتدة حاليًا، والتي سقط فيها جنرالات إيران أكثر من أي وقت سابق، تشتد نظرًا لرغبة أطراف كثيرة في حل قريب وعدم قدرتهم على الاستمرار في المعركة لوقت طويل.
الروس والإيرانيون مستنفزون ماليًا بسبب هبوط أسعار البترول، ويحاولون في معركة النفس الأخير أن يعززوا موقع النظام السوري قبل أن يجلس الجميع للتفاوض للخروج بأفضل صفقة، الروس جوًا والإيرانيون برًا رُغم اختلاف وجهات نظرهم في ملفات عدة أبرزها التعاون مع إسرائيل الذي تقوم به روسيا، وعلى الناحية الأخرى أيضًا يشتد الإصرار التركي على المنطقة العازلة تأمينًا لمصالح أنقرة في شمال سوريا، وتحجيم الأكراد بعيدًا عن الفرات عبر الضربات الجوية، كما قال رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو بالأمس، إذ صرّح بأن الطائرات التركية ضربتهم بالفعل مرتين حين تجاوزوا نهر الفرات في الأيام القليلة الماضية.
ظهور الأسد مرتين مع بوتين ومع وزير الخارجية العُماني المعروف بدوره الدبلوماسي في عقد الصفقات بالشرق الأوسط، وظهور مركل في إسطنبول مع علمها بإصرار تركيا على المنطقة العازلة لوقف تدفق اللاجئين ناحيتها هي الأخرى، مع عقد اجتماع رباعي أمريكي روسي تركي سعودي، يشي لنا ربما بقُرب موعد الجلوس على الطاولة، غير أن كافة الأطراف بينما تشتبك مع الصراع من الجو، أو عبر حلفاء لها في الداخل، فإن إيران ستظل تشهد على الأرجح سقوط دماء لها نتيجة تدخلها المباشر برًا، ولعل تلك الدماء تضيع هباءً إذا ما قرر الأسد التخلي عن أصدقائه الإيرانيين، الذين يؤرقون بالأساس الرياض وواشطن وربما أنقرة، لصالح الميل لروسيا والحصول على اتفاق يحفظ بنية النظام السوري.