ترجمة وتحرير نون بوست
أعمال العنف الحالية الجارية بين إسرائيل وفلسطين التي اندلعت مباشرة بعد الجدل حول صفقة الأسلحة الإيرانية، والتي كشفت عن الصدع المتزايد في الدعم الأمريكي لإسرائيل، أدت إلى تصدر الصراع للخطاب السياسي في الولايات المتحدة؛ فغياب أي ذكر حقيقي لإسرائيل وفلسطين خلال أول مناظرة رئاسية ديمقراطية يحمل دلالات كبيرة، وهو يخبرنا بأنه في الوقت الذي تُظهر فيه استطلاعات الرأي بأن القاعدة الشعبية الديمقراطية تتحول بشكل مطرد بعيدًا عن دعم إسرائيل، يتردد أبرز المرشحين للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي أيضًا في الحديث عن إسرائيل، وسيكون من المثير للاهتمام حقًا أن نرى ما إذا كانوا سيغيرون مواقفهم في الأشهر القليلة المقبلة، بالنظر إلى حجم الأخطار التي ستظهر تباعًا.
أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة بأن اللاتينيين، وهم من أهم القواعد الانتخابية، يبدون تعاطفهم مع الفلسطينيين، منضمين بذلك لفئة الشباب، التقدميين، السود، والأمريكيين الأسيويين، وهذ النظرة للأمور لا يدعمها مؤيدو الحقوق الفلسطينية فحسب، بل يتشاطرها معهم أيضًا مؤيدو وداعمو إسرائيل في الداخل الأمريكي.
كل شيء يبدو اليوم على المحك، وهذا أمر يستدعي اهتمامنا، وإليكم هنا بعض ما يكشف عنه المشهد السياسي الأمريكي:
بادئ ذي بدء، دعونا ننظر في ردود فعل وزارة الخارجية الأمريكية بشأن تصاعد العنف بين إسرائيل وفلسطين؛ ففي 13 أكتوبر، ظهر وزير الخارجية جون كيري ليقول، “ما سيحدث هو أنه ما لم نضغط لتحقيق ذلك، فإن حل الدولتين يمكن أن تتم سرقته من أيدي الجميع، لقد كان هناك زيادة هائلة في المستوطنات على مدى السنوات الماضية، واليوم نعاني من هذا العنف بسبب تنامي حالة الإحباط”.
ولكن بعد اتهامها بإلقاء اللوم في العنف على بناء المستوطنات، سارعت وزارة الخارجية للتراجع عن بيان 13 أكتوبر، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية جون كيربي للصحافيين، بأن كيري لم يحاول إلصاق اللوم في أحداث العنف الأخيرة على إسرائيل خلال خطابه مساء يوم الثلاثاء في جامعة هارفارد، عندما قال لجمهوره بأن هناك زيادة هائلة في المستوطنات على مدى السنوات الماضية، واليوم نعاني من هذا العنف بسبب تنامي حالة الإحباط، لأن الفكرتين، كما يقول كيربي، لا تترابطان لتحققا علاقة سبب ومسبب.
بجميع الأحوال، من الصعب أن يصدق أي شخص هذا البيان الموارب، وهذه الطريقة بالتعامل المتخبط تشير بالضبط إلى الحالة الزئبقية التي تحكم الخطاب السياسي الأمريكي حول إسرائيل وفلسطين.
من المرجح للغاية أن يكون كيري يدرك بالضبط من هو المسؤول عن اطراد أحداث العنف، وردة فعل كيري على بيان بنيامين نتنياهو الغريب والمروع، الذي ألقى فيه اللوم في المحرقة اليهودية على مفتي القدس، توضح نفاد صبر كيري المتزايد حول سلوك الحكومة الإسرائيلية، فعلى الرغم من أنه صرّح بعد لقائه بنتنياهو في 22 أكتوبر في برلين بأنه “متفائل بحذر”، إلا أن هذه الجملة الواهنة، التي يُلزم الطبيب بقولها رأفة بالمريض وهو على سرير الموت، طغى عليها بيان كيري الذي جاء ردًا على أطروحة نتنياهو حول المحرقة.
“علينا أن نوقف التحريض، علينا وقف العنف، وأعتقد أنه من المهم، ومن المهم جدًا، إنهاء جميع أشكال التحريض وجميع أعمال العنف، وإيجاد طريق إلى الأمام لبناء احتمالية، ليست موجودة اليوم، لعملية أكبر” قال كيري.
وهذه المرة لم تتملص وزارة الخارجية الأمريكية من تصريح كيري، بل زادت عليه، حيث قال جون كيربي بأن تصريحات نتنياهو “تحريضية”، “غير صحيحة واقعيًا”، وتتناقض مع “الأدلة العلمية”.
دعونا الآن نتحول عن تصريحات وزارة الخارجية، وننتقل لنرى ما لدى مرشحي الرئاسة ليقولوه حول هذا الموضوع.
كما هو متوقع، التزم المرشحون الجمهوريون بالصمت أو أعلنوا عن تأييدهم لإسرائيل بدون خجل أو مواربة؛ فمثلًا السيناتور تيد كروز صرح بأن على الولايات المتحدة أن تتوقف عن إلقاء المحاضرات على الإسرائيليين، واقترح مرة أخرى أن يقدم كيري استقالته، مما يدل على أن كروز لا يمكنه التعامل مع الفكرة الأساسية التي تقول بأنك إذا كنت تدعم بلادًا بمليارات الدولارت سنويًا، وتسلحها بمعدات وأسلحة عالية التقنية، وتغطيها دبلوماسيًا، فقد تسمح لنفسك أحيانًا بتوجيه كلمة أو كلمتين حول الطريقة التي تنفق بها هذه البلاد كل هذه الموارد.
أما بن كارسون فقد أعلن بالمثل عن دعمه المطلق لإسرائيل، في اتجاه يبدو وكأنه تعويض جزئي عن استخدامه لمصطلح المحرقة اليهودية “الهولوكوست” كمدخل للتعبير عن سهولة الوصول إلى السلاح، حيث جاء في تصريحه “ما التأثير الذي كان سينعكس على آلة هتلر الحربية لو حصل ضحاياه على وصول أكثر سهولة إلى الأسلحة؟ إنه شيء لن نستطيع أن نعرفه أبدًا على وجه اليقين”.
أما بالنسبة للديمقراطيين، فلم يتحدثوا كثيرًا حول العلاقة مع إسرائيل، فخلال المناقشة الأولى، تحدث جيم ويب بإيجاز عن صفقة إيران، ومن ثم لم يتم التطرق للموضوع أبدًا، والأمر كان كما وصفته صحيفة هآرتس الإسرائيلية بقولها، “هيلاري كلينتون والسيناتور بيرني ساندرز لم يعلقا على هذه النقطة، ودعما على حد سواء سياسية استرضاء إيران، غافلين عن مناشدات الدولة اليهودية، وساندرز كان أول ديمقراطي يعلن بأنه سيقاطع خطاب رئيس الوزراء نتنياهو أمام مجلس الشيوخ، أما كلينتون فوقفت صامتة إبان خلاف أوباما مع حكومة القدس، ولم تصدر أي تعبيرات عن القلق إزاء تراكم صواريخ حزب الله والعناصر الإيرانية قرب الجولان”.
ولكن مع ذلك، يمكننا ملاحظة وجود فرق ملموس في الطريقة التي يتحدث فيها بيرني ساندرز وهيلاري كلينتون حول إسرائيل وفلسطين؛ فعلى الرغم من أن ساندرز فقد العديد من أفراد أسرته في المحرقة، ولكن موقفه يعد أكثر توازنًا، وبغض النظر عما قالته صحيفة فوروود حول كونه “يساريًا باستثناء موقفه من إسرائيل”، فإن ساندرز يبدو يساريًا للغاية عند مقارنته بكلينتون.
ولتوضيح ذلك يمكننا استجلاء موقف ساندرز من إسرائيل في مقابلة أجرتها معه مجلة البلاي بوي في عام 2013، وهو الموقف الذي لم يتغير، حيث جاء سؤال المحاور، “إذا كان لديك السلطة اللازمة، كيف ستتفاوض لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في ظل الأصولية الشديدة التي تحكم تلك القضية؟”، وأجاب ساندرز، “الكراهية والعنف والخسائر في الأرواح التي تحدد أسس هذا الصراع تجعل الحياة العادية عبارة عن نضال مستمر لكلا الشعبين، علينا أن نعمل مع هؤلاء القادة الإسرائيليين والفلسطينيين الملتزمين بالسلام والأمن والدولة بدلًا من الشعارات الجوفاء والعنف، يجب أن يتضمن حل الدولتين تنازلات من كلا الجانبين لتحقيق سلام عادل ودائم في المنطقة، ويجب على الفلسطينيين الوفاء بمسؤولياتهم لإنهاء الإرهاب ضد إسرائيل والاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، في المقابل، يجب على الإسرائيليين إنهاء سياستهم المتمثلة بالاغتيالات المستهدفة، ومنع بناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، ومنع تدمير منازل الفلسطينيين، وأعمالهم التجارية وبنيتهم التحتية”.
وفي هذا العام كرر ساندرز ذات الموقف بقوله، “يجب على الولايات المتحدة العمل مع البلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم للقتال من أجل أمن إسرائيل ووجودها، وفي الوقت عينه، القتال من أجل إقامة دولة فلسطينية، حيث يستطيع مواطنو هذا الدولة التمتع بمستوى معيشي لائق، والحال ليس كذلك بالتأكيد في الوقت الراهن”.
في بيانه حول أعمال العنف الحالية التي تطفق بالبلاد، اعترف أوباما أيضًا بمسؤولية كلا الجانبين، حيث قال، “في هذه اللحظة الحساسة في القدس، من الأهمية بمكان بالنسبة للزعماء الإسرائيليين والفلسطينيين والمواطنين العاديين العمل بشكل تعاوني لخفض التوترات، نبذ العنف، والسعي لإيجاد سبيل للمضي قدمًا نحو السلام، لقد مات عدد كبير جدًا من الإسرائيليين، ومات الكثير من الفلسطينيين أيضًا”.
ولكن في تصريحاتها حول ذات الموضوع، انحازت كلينتون بشكل أكبر نحو موقف كروز، مبتعدة عن موقف أوباما، حيث لم تتطرق في تصريحها لذكر أي ضحية من الفلسطينيين، “أنا قلقة حول موجة الهجمات الأخيرة ضد الإسرائيليين، بما في ذلك أكثر من عشرة هجمات منفصلة حصلت منذ يوم السبت الماضي، أفكاري وصلواتي تتجه للضحايا وأسرهم، الرجال والنساء الذين يعيشون في القدس، تل أبيب، وأماكن أخرى، لا يمكنهم أن يحملوا مشترياتهم أو يتوجهوا للصلاة دون أن ينظروا بهلع خلف ظهورهم، إنه أمر خاطئ، ويجب أن يتوقف، ليس هناك مكان للعنف، الحوار فقط يمكن أن ينتج سلامًا دائمًا”.
رغم قيام الجمهوريين بتشجيع الديمقراطيين لكي لا يخافوا من انتقاد إسرائيل، فقد لاذ الساسة الديمقراطيون بالصمت حول هذا الشأن، ومن ناحية أخرى، أثبتت القاعدة الشعبية الديمقراطية بأنها أكثر صخبًا من سياسييها، وأكثر استعدادًا لتنأى بنفسها عن إسرائيل، والاستطلاعات تبين الشرخ العميق الحاصل ما بين القاعدة الشعبية الديمقراطية والقاعدة الجمهورية حول مسألة إسرائيل وحقوق الفلسطينيين، وأعتقد بأن هذا الشرخ يظهر بجلاء من خلال فارق العشر نقاط الذي يبين بأن غالبية الديمقراطيين يشعرون بأن المكسيك هي حليف أفضل من إسرائيل.
وفي الوقت عينه، يبدو بأن القاعدة التصويتية اللاتينية الحاسمة، لا تتواءم مع مواقف القاعدة الشعبية الديمقراطية فحسب، بل إنها تقف بموقف منتقد لإسرائيل أيضًا، وذلك وفقًا لما توصل إليه فريق بحث موالٍ لإسرائيل، يسمى “مشروع إسرائيل”، وهو مشروع يسعى لتلميع صورة إسرائيل بين الأمريكيين اللاتينيين، أو أي فئة أخرى.
وفقًا لمشروع إسرائيل، الأمريكيون من أصل لاتيني، وهم المجموعة العرقية الأسرع نموًا في الولايات المتحدة، يتمتعون بوجهات نظر معادية نسبيًا لإسرائيل لأنهم يجهلون شؤون الشرق الأوسط، ويتأثرون بوجهات النظر الكاثوليكية التقليدية المعادية لإسرائيل، حيث يقول ألان إيلسنر، مدير المجموعة في الأمريكيتين، “إسرائيل أكثر شعبية بين الأمريكيين الأكبر سنًا، الجمهوريين، المحافظين، والإنجيليين، وأقل شعبية بين النخب الليبرالية، الأمريكيين من أصل أفريقي، والديمقراطيين”، ويوضح إيلسنر بأن مشروع إسرائيل يركز جهوده على “المجموعات التي تعادي إسرائيل”.
وفي ذات السياق، لحظت دولة إسرائيل هذا الاتجاه، ليس فقط بين اللاتينيين، بل على النطاق الشعبي العام، حيث حذر ستيوارت أيزنستات، سفير الولايات المتحدة السابق لدى الاتحاد الأوروبي، في مقابلة له مع صحيفة واشنطن جويش ويك العام الماضي، من أن الملونين في الولايات المتحدة قد يرون اضطهاد الفلسطينيين مماثلًا للاضطهاد الذي يعانون هم أنفسهم منه، حيث جاء في المقابلة، “المشكلة هي، وكلامي هنا موجه لأبناء الجالية اللاتينية والأسيوية والأمريكيين الأفارقة، أنهم يرون أنفسهم على أنهم أقليات”.
ولمكافحة هذا التحالف الطبيعي، ناشد أيزنستات الجماعات الموالية لإسرائيل لتوضيح أن النضال من أجل العدالة في فلسطين “ليس قضية حقوق مدنية، بل إنه صراع مختلف تمامًا، يتم فيه استخدام العنف، والتشكيك بحق إسرائيل في تكوين دولة”.
نقاط الصدع مع إسرائيل، تتمثل بأن المزيد والمزيد من الأشخاص، سواء من الأقليات أو من غيرهم، يرون أن اضطهاد الفلسطينيين وحرمانهم من حقوقهم هي حالات تتطابق بعمق مع ما يحاربونه هنا في الولايات المتحدة، وهذا ينطبق بصفة خاصة على مجتمع السود، وما يؤكد ذلك البيان التضامني الذي صدر مؤخرًا عن 1200 شخصًا من الفنانين والمثقفين ومنظمات السود في أمريكا، وبذات الوقت يتضامن المزيد والمزيد من اللاتينيين، وكذلك الأمريكيين الأسيويين، مع السود بذات الموقف، علمًا أن هاتين المجموعتين هما الطبقتان الأكبر نموًا ديموغرافيًا في الولايات المتحدة.
من الجدير بالذكر هنا أن أول تنظيم أكاديمي وطني أمريكي يدخل ضمن حملة المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل كان في الواقع جمعية الدراسات الأمريكية الأسيوية، وهي مجموعة صغيرة تتألف في معظمها من الباحثين الشباب الأمريكيين وغيرهم من الأسيويين، والطلاب والناشطين.
أخيرًا، فإن أي مرشح سياسي أمريكي لمنصب رئيس الجمهورية يتجاهل اليوم هذه الاتجاهات على مسؤوليته الخاصة، وسيكون من المثير حقًا رؤية ما إذا كانت كلينتون ستتزحزح حتى ولو لشبر واحد عن موقفها الحالي باتجاه موقف أكثر عدالة.
المصدر: صالون