عشرون ائتلافًا هي حصيلة تاريخ تركيا السياسي الحديث حتى يومنا هذا، وهي ائتلافات لم ينجح أي منها في الاستمرار لأكثر من ثلاث سنوات، فيما يعتبره البعض إشارة لضرورة وجود حكومة حزب واحد لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي، بينما يقول آخرون أنه يدل على عطب كامن في المنظومة السياسية التركية نفسها يجب إصلاحه، والإصلاح كما يقول أنصار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبعض أنصار حزب العدالة والتنمية، هو أن تتحول تركيا للنظام الرئاسي الأكثر استقرارًا جملة واحدة، تمامًا كما كانت محكومة عن طريق الرئاسة أيام مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، في حين يقول نقاد الحزب في معظمهم، وأيضًا بعض أنصاره، أن كل ما تريده تركيا هو حل الإشكاليات الجوهرية في تأسيس الجمهورية، كملف الأكراد وعلاقة الدين بالدولة وكتابة دستور جديد، لتحظي بنظام برلماني صحي ليس إلا، وأن سنوات أتاتورك مسألة استثنائية نظرًا لكونها غير ديمقراطية أصلًا.
بغض النظر عن صحة أي من حجج هؤلاء من عدمها، نستعرض هنا الائتلافات العشرين التي مرت في تاريخ تركيا السياسي الحديث، وكلها بدءًا من سنوات الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين؛ منذ أول حكومة هشة بعد أول انقلاب، وحتى الحكومة الأخيرة قبل صعود حزب العدالة والتنمية، لنتعرف على أسباب فشلها، وما الذي تقوله عن إمكانية تشكيل ائتلاف إذا ما اضطر حزب العدالة والتنمية إلى تشكيل ائتلاف بالفعل بعد انتخابات نوفمبر التي تجري خلال أيام.
الستينيات: فشل محاولات إينونو للم الشمل
شهدت تركيا في الخمسينيات أول انتخابات حرة ونزيهة، بعد وفاة أتاتورك عام 1938 واتجاه خلفه، عصمت إينونو، الأكثر ليبرالية وديمقراطية، لإجراء انتخابات حقيقية، ليصل الحزب الديمقراطي بقواعدة المحافظة والريفية بالأساس للبرلمان بأغلبية ويشكل حكومة حزب واحد، وهو حكم استمر لعشر سنوات، حتى انقلب الجيش لأول مرة عام 1960 وأعدم رئيس الوزراء عدنان مندرس، تاركًا ساحة سياسية بدون فصيل يحظى بدعم جماهيري واضح، لتشهد تركيا في تلك الفترة أربعة ائتلافات فاشلة.
لم يكن هناك سوى عصمت إينونو، رفيق أتاتورك الموجود على رأس حزب الشعب الجمهوري العلماني، ليبدأ في تولي مهمة تشكيل ائتلاف هو الأول في تاريخ الجمهورية، وقد اتجه إينونو إلى حزب العدالة، وهو خليفة الحزب الديمقراطي المحافظ، كمحاولة منه لكسب المحافظين وتهدئة الأجواء معهم بعد أن أقصاهم الانقلاب بعُنف، غير أن الحكومة دامت لسبعة أشهر فقط نتيجة الخلافات بين الحزبين حيال ملف العفو عن المسجونين من الحزب الديمقراطي السابق، لتسقط في يونيو 1962.
“حكومة إينونو الثالثة”: عنوان لصحيفة تركية قديمة
في نفس الشهر، شكل إينونو ائتلافًا ثانيًا مع حزبين من الأحزاب الأصغر التي خرجت من ثوب الحزب الديمقراطي، وهما حزب تركيا الجديدة الليبرالي، وحزب فلاحي الشعب الجمهوري القومي، وهو ائتلاف كان محكومًا بشكل أو آخر بضغوط العسكر، والذي حاول الانقلاب مرتين أخرتين في مطلع الستينيات لولا ثِقَل وهيبة إينونو وصلاته التاريخية بمؤسس الجمهورية، غير أن غياب الدعم الجماهيري لتلك الحكومة، والتي ظهر تراجع الحزبين الصغيرين فيها مع الانتخابات المحلية مقابل صعود حزب العدالة، أدى لسقوطها بعد عام ونصف، في ديسمبر 1963.
محاولة أخيرة مع ائتلاف ثالث قام بها إينونو بالتعاون مع المستقلين من أعضاء البرلمان، وهو ائتلاف استمر لعام وشهرين وصولًا لفبراير 1965، حين قررت الأحزاب التي أعطت الثقة للحكومة برلمانيًا وبضغوط من العسكر رفض الميزانية السنوية المطروحة، لتسحب الثقة من الحكومة ويبدأ الإعداد لانتخابات برلمانية جديدة، وهي انتخابات سبقها تشكيل ائتلاف رابع كمُشرف على مرحلة ما قبل الانتخابات، وكان رئيس الحكومة المؤقت حينها هو سُعاد خيري أورجوبلو المستقل، ليترك منصبه بعد الانتخابات لحزب العدالة الذي اكتسح الانتخابات مرتين بقيادة سليمان دميرل وشكل حكومتين وصولًا لعام 1971، حين تدخل الجيش بمذكرة احتجاج وقام بانقلاب ناعم استقال دميرل على إثره.
السبعينيات: عقد الائتلافات المضطرب
بعد تلقي المحافظين لضربة ثانية من العسكر، وتراجع دور عصمت إينونو الكبير في السن الآن، ازداد تدخل الجيش في السياسة، ليفرض نهاد أريم كرئيس للوزراء من صفوف حزب الشعب الجمهوري، والذي قدم استقالته من الحزب ليقود الحكومة كمستقل، وهي حكومة وافق عليها إينونو رئيس حزب الشعب، غير أن أصوات الشباب المتذمرة في صفوف العلمانيين وبقيادة اليساري الصاعد بولنت أجاويد لم يعجبها واستقالت من الحزب، في إشارة واضحة آنذاك على أن إينونو الهادئ والذي فشل في الستينيات، يزداد ضعفًا أكثر وأكثر.
بولنت أجاويد (يمين) مع عصمت إينونو (يسار)
تولت حكومة أريم الأولى التكنوقراطية في مارس من العام 1971، والتي حظيت بدعم البرلمان ولكن استمرت لتسعة أشهر فقط حين استقال 11 وزيرًا بحجة عدم القدرة على الاضطلاع بالإصلاحات التي وعدوا بها، ليتقدم أريم بالاستقالة هو الآخر، غير أن الرئيس العسكري جودت صوناي اختاره مجددًا ليتولى تشكيل حكومة ثانية تكنوقراطية أيضًا، وهي حكومة نالت الثقة من نفس الأحزاب التي أسقطت أريم سابقًا، في إشارة على نفوذ وضغوط العسكر على الساحة السياسية أنذاك، ورُغم ذلك سقط الائتلاف بعد استقالة أريم في مايو 1972.
مرة أخرى، اتجه الرئيس صوناي لاختياراته الخاصة، وهو فريد مَلَن وزير الدفاع بحكومة أريم والعضو بحزب الثقة القومي الصغير، ليشكل الائتلاف السابع الآن في تاريخ الجمهورية بدعم أحزاب البرلمان رسميًا ودعم العسكر فعليًا، غير أنه بانتخاب رئيس جديد هو فخري قوروتورك اضطر فريد للاستقالة بعد أقل من عام، كما قضى الدستور التركي أنذاك، ليكلف الرئيس بتشكيل حكومة جديدة تبدأ مع رئاسته.
لم تتغير سوى الأسماء مع دخول قوروتورك القادم من الجيش أيضًا، والذي يبدو أنه أولى الاقتصاد أهمية، ليختار نعيم تالو وزير التجارة السابق والذي شكل ائتلافًا استمر تسعة أشهر فقط حتى إجراء انتخابات أكتوبر 1973، والتي نجح فيها حزب الشعب الجمهوري لأول مرة بقيادة بولنت أجاويد الشاب الآن في كسب ثقة الأتراك والخروج أولًا بـ33% وإن كان بدون أغلبية، مقابل17% لحزب العدالة، و12% لحزب السلامة القومي الإسلامي الجديد على الساحة بقيادة نجم الدين أربكان.
بولنت أجاويد (يمين) رئيس حزب الشعب الجمهوري مع نجم الدين أربكان (يسار) رئيس حزب السلامة القومية الإسلامي
في إطار استراتيجيته بتشجيع أحزاب المحافظين الصغيرة لتفتيت أصوات اليمين، قرر أجاويد تشكيل ائتلاف مع أربكان، وهو الائتلاف الأول في تاريخ الجمهورية بين الحزب العلماني العريق وحزب إسلامي صِرف، وكما كان متوقعًا، فإن الخلافات في الرؤى بين الرجلين أفشلت الحكومة، ليُعلِن أجاويد خلال أقل من عام استقالته، وتتولى حكومة مؤقتة لستة أشهر بقيادة المستقل سعدي إرماق بدون ثقة البرلمان المفكك، مرة أخرى في دلالة على ضعف الساحة السياسية وغياب قوة حزبية حقيقية وهيمنة العسكر، وهي حكومة استمرت حتى نجح دميرل في تشكيل ائتلاف يميني واسع، ضم حزبه المحافظ وحزب السلامة الإسلامي وحزب الحركة القومية (كما يظهر الرجال الثلاثة في الصورة الأولى للمقال،) وهي حكومة بقيت لفترة أطول نسبيًا بين مارس 1975 ويونيو 1977.
أجريت انتخابات جديدة في يونيو 1977، ليخرج أجاويد مجددًا بالصدارة دون أغلبية، ويشكل واثقًا من نفسه الآن حكومة أقلية، غير أن أجاويد الذي لم تكن علاقته جيدة مع العسكر، ولا هو حاول جذب اليمين في ائتلاف بأي شكل، فشل في الفوز بثقة البرلمان، لتستمر حكومته شهر واحد فقط، ويعود دميرل مع الإسلاميين والقوميين مجددًا في ائتلاف يميني لستة أشهر، حيث سقط ائتلافه، الثاني عشر في تاريخ الجمهورية، باستجواب برلماني في يناير 1978، وعاد أجاويد بائتلاف مع بعض المستقلين ظل لأقل من عامين قبل أن يستقيل إثر تراجع حزبه في انتخابات مجلس الشيوخ الصغير، ويتجه دميرل هذه المرة لتشكيل حكومة أقلية انتهت بانقلاب 1980.
التسعينيات: عودة الائتلافات
تسعة ائتلافات إذن شهدتها تركيا في عقد السبعينيات الأكثر اضطرابًا في تاريخها، وهي ائتلافات تلاشت بعد الانقلاب الأعنف في سبتمبر 1980 وطوال ذلك العقد، والذي نشأ فيه حزب محافظ هو الوطن الأم بقيادة توركوت أوزال أدار العلاقة مع الجيش بشكل جيد، وفتح الاقتصاد، وكسب ثقة شرائح واسعة، ليحكم بأغلبية الحزب الواحد حتى عام 1991، حين وصل أوزال لمقعد الرئاسة تاركًا حزبه لخلفه الضعيف مسعود يلماز، في نفس الوقت الذي عاد فيه دميرل بعد عفو سياسي عن قيادات السبعينيات التي اعتُقلت في أعقاب انقلاب 1980.
شهدت السنوات الأحد عشرة، بين 1991 و2002، سبعة ائتلافات، أولها كان عقب انتخابات 1991، والتي فاجأت الجميع بعودة دميرل الكبير في السن الآن ليحصل على المركز الأول بحزب الطريق القويم الجديد، بينما تراجع حزب الوطن الأم للمركز الثاني، وحصل حزب الشعب الاجتماعي بقيادة أردال إينونو، ابن عصمت إينونو، على المركز الثالث، ليشكل دميرل ائتلافه مع الأخير لأكثر من عامين حتى يونيو 1993، حين اضطر للاستقالة إثر اختياره كرئيس للجمهورية من البرلمان، وضرورة خروجه من السلطة التنفيذية كما ينص الدستور.
أردوغان، عضو حزب الرفاه أنذاك، مع تانصو تشيللر
خلفت دميرل في قيادة حزبه تانصو تشيللر، لتستمر في الائتلاف مع الحزب الاجتماعي وتكون أول رئيسة وزراء في تاريخ الجمهورية، وهي حكومة استمرت أكثر من عامين حتى أكتوبر 1995، حين انضوى الحزب الاجتماعي تحت لواء حزب الشعب الجمهوري، وطالب رئيس الأخير دنيز بايقال بانتخابات مبكرة، وبينما حاولت تشيللر وحدها تشكيل حكومة أقلية، إلا أنها فشلت واتجهت للصناديق.
في انتخابات ديسمبر 1995 حل الإسلاميون أولًا ممثلين بحزب الرفاه لأول مرة في تاريخ الجمهورية بـ21%، في حين حل حزب الوطن الأم ثانيًا بـ20%، والطريق القويم بـ19%، كما حقق المفاجأة أيضًا بولنت أجاويد العجوز الآن بحلوله رابعًا بحزبه الجديد اليسار الديمقراطي، ليتفوق على حزب الشعب الجمهوري العلماني الذي حل خامسًا، ورُغم تفوق أربكان، إلا أن الحزبين الثاني والثالث المحافظين شكلا الائتلاف السابع عشر في تاريخ الجمهورية، ليستمر ثلاثة أشهر فقط بقيادة يلماز نتيجة الخلافات بين الحزبين، والتي انسحبت تشيللر على إثرها لتشكل ائتلافًا مع حزب الرفاه بقيادة أربكان.
عام واحد أمضاه أربكان في السلطة قبل أن يستقيل بناءً على طلب الرئيس دميرل، والذي وعده بتشكيل تشيللر لحكومة جديدة سيكون فيها حزبه، غير أن دميرل، خاضعًا لضغوط المؤسسة ضد الإسلاميين كما قيل أنذاك فيما عُرف بالانقلاب الناعم، اختار يلماز وحزب الوطن الأم، والذي ائتلف مع أجاويد من يونيو 1997 حتى يناير 1999، قبل أن يسقط الائتلاف نتيجة فضيحة مالية تضمنت تعاملات الحكومة مع القطاع الخاص، ليفقد الائتلاف ثقته، ويقوم الرئيس باختيار أجاويد ليشكل حكومة أقلية لخمسة أشهر.
صحيفة حريّت العلمانية تطالب أجاويد بالاستقالة عام 2002: “اتركها الآن سيادة رئيس الوزراء”
أخيرًا، اتجه أجاويد لتشكيل ائتلاف مع حزب الحركة القومية بقيادة دولت بغشلي وحزب الوطن الأم بين عامي 1999 و2002 بعد حصوله على أكبر عدد من المقاعد في انتخابات 1999 التي تفتت فيها أصوات اليمين بين أربعة أحزاب، وكان هذا الائتلاف هو الائتلاف العشرون الذي شهدت تركيا تحت حكمه أزمتها الاقتصادية وهبوط قيمة عملتها حتى بدأ ضغط الرأي العام على أجاويد ليستقيل حتى من بين العلمانيين، ليستقيل ويدعو لانتخابات مبكرة كتبت نهايته ونهاية كل النخب التسعينية القديمة، وفتحت الباب لحزب العدالة والتنمية.
***
يتساءل كثيرون الآن ما إذن كان حريًا بحزب العدالة والتنمية بالفعل أن يشكل ائتلافًا مع حزب الشعب الجمهوري في يونيو الماضي، أم أن قرار أردوغان بالاتجاه لانتخابات جديدة مبكرة لتفادي الائتلاف كان صحيحًا، والمدافعون عن مواقف الحزب حتى الآن يقولون بأن تاريخ الائتلافات التركية يوضح تمامًا ضرورة تجنبها قدر الإمكان، غير أن المدافعين عن ضرورة الائتلاف يقولون بأن الظروف تغيرت، أيهما أقرب للحقيقة إذن؟ وهل يمكن أن تتضرر تركيا فعلًا من ائتلاف جديد أم لا؟ للحديث بقية.