عجيبٌ أمرها مدينةُ الخليل، مثخنةٌ بالجراح، ومسربلةٌ بالدماء، ومقيدة الأطراف، ومكبلة بالقيود والأغلال، ومحتلة الأرض ومسكونة القلب، والاستيطان ينخر في كل مكانٍ فيها، والمستوطنون يجوبون بالسلاح في شوارعها، ويعتدون بوحشيةٍ على سكانها، وقد احتلوا طرقاتها وأزقتها الضيقة، وسكنوا بيوتها، وسوروا أسواقها، وملأوا طرقاتها وأغلقوها بمكعبات الأسمنت الضخمة، وسيطروا على حرمها الإبراهيمي، واستولوا على أغلبه، ومنعوا الآذان من على مآذنه، وكانوا قد سفكوا دماء المصلين فيه، ولكنها تأبى إلا أن تتقدم الصفوف وتسبق الجميع، وتعلم الكل دروسًا في التضحية والفداء، والمقاومة والجهاد، فما إن يرتقي منها شهيدٌ حتى يتبعه آخر، ويتلوه جديد، في مدينة الخليل أو في بلداتها وقراها، أو من الخليل ولكن في عموم الوطن فلسطين.
ويبقى اسم مدينة الخليل يتقدم الأسماء، ويسبق البلدات، وفي كل يومٍ تزف شهيدًا أو أكثر، وتحيي عرسًا أو تقيم احتفالًا، ولكنها تذيع قبل الشهادة نبأ طعنٍ أو دهسٍ، وإن كان بعضهم يقتلون اشتباهًا وريبة، وخوفًا وجزعًا، خاصةً في محيط الحرم الإبراهيمي وفي الطرق المؤدية إليه، إذ فيها وفي المدينة القديمة سقط أكثر الشهداء ودارت أغلب العمليات، ولكن معين شباب الخليل لا ينضب، وسيلهم لا يتوقف، وهديرهم لا يهدأ، ولا هم يتراجعون، ولا يجبنون ولا يخافون، بل يتدافعون ويتزايدون، ويتنافسون ويتزاحمون، في مسيرةٍ نحو الشهادة يخشاها العدو، ولا يعرف كيف يفسرها ولا السبيل إلى مواجهتها، إذ كيف يصدون رجلًا أقسم على الله سبحانه وتعالى أن ينتصر أو يستشهد، وأن ينتقم ويثأر، أو يزرع في الأرض جسده ويروي ثراها بدمه، لتنبت من بعده رجالًا يصبغون الأرض، ويلونون سماء الوطن.
إنهم يعلمون أنهم على الحق، وأنهم يقاتلون من أجل حق، ويصدون عدوًا بحق، اغتصب أرضهم وعاث فيها فسادًا، قتلًا واعتقالًا، ومصادرةً وبناءً، وجعل الحياة فيها مرةً ذليلة، والإقامة فيها حزينة أليمة، فماذا تراهم يفعلون، وكيف يتصرفون، ليس إلا أن يثبتوا أنهم رجالٌ لا يطأطئون الرأس، ولا يحنون الجبهة، ولا يهينون النفس ولا يسلمون الراية، ولا يخضعون للقوة القاهرة، ولا للاستعباد المذل، فما عيشهم إلا عزًا أو عيش الآخرة، وهذا ما عرفه عنهم الإسرائيليون وخافوا منه، حتى غدت مدينة خليل الرحمن التي يدعون أنها المدينة المقدسة التي اشتراها أنبياؤهم بأربعة شواقل، وسكنها أجدادهم وبنى فيها ملوكهم حصونًا وقصورًا، تطاردهم كشبح، وتلاحقهم ككابوس، فبزت غزة ونافستها، وهي التي ظنها المحتلون أنها ملعونة، وأن الموت يسكن في جبناتها وتحت أقدام جنودها، ويقفز من جوفها موتًا سراعًا، حتى هربوا منها، يضربون كعوب أقدامهم ببعضها فرحًا، أنهم من الموت نجو، وفي الحياة كتب لهم فيها يومٌ آخر.
العدو الإسرائيلي بجيشه ومستوطنيه ومتدينيه وحكومته وأجهزته الأمنية، ينتقمون من مدينة الخليل ويثأرون لأنفسهم منها، فيحاولون قتل أكبر عددٍ من شبانها وفتياتها، ويبادرون لقتلهم دون تحذيرٍ منهم أو اشتباهٍ فيهم، فمن بين قرابة سبعين شهيدًا هم شهداء انتفاضة القدس، قدمت محافظة الخليل وحدها ثلاثين شهيدًا، وما زال عدد الشهداء في ازدياد، وأفواج الراغبين في الثأر والانتقام يتتابعون ويتزايدون، فما منعهم دمٌ مهراق، ولا صور أجساد الشهداء التي في الأرض تغرس، وسرادقات الزفاف تنصب، ووفود المهنئين لا تتوقف، وأمهات الشهداء قد حبسن دموعهن، وأخفين حزنهن، وكظمن غيضهن، ولكنهن أقسمن أن يلدن أبطالًا وأن يأتين بأولادٍ ينتقمون وأن ينجبن أجيالًا يحملون الأمانة ويرفعون الراية ويمضون على طريق المقاومة.
كأن العدو الصهيوني قد صمم أن ينتقم من أبناء محافظة الخليل أكثر من غيرهم، ليكسر شوكتهم، وليحد من شره اندفاعهم نحو الشهادة، ويمنع غيرهم من الالتحاق أو المواصلة، فقتل الفتيات واستهدف الأمهات، ونكل بهن أحياء وشهيدات، واحتجز جثامين الشهداء، ومنع ذويهم من استلامهم للصلاة عليهم ودفنهم، وما زال يرفض تسليمهم، في الوقت الذي يعجل بهدم بيوتهم، واعتقال إخوانهم وأقربائهم، ليضغط بذلك على العائلات ويرهقها، ليعلم المقاومون أن أهلهم من بعدهم لن ينعموا بالراحة، ولن تستقيم لهم الحياة كما يرجو الشهيد ويتمنى.
لكن فلسطين كلها وأهلها جميعًا لا يتركون الخليل وحدها، ولا يتخلون عنها، ولا يتركونها تقاتل ويتولون بعيدًا عنها، ولا يقولون لها كما قال اليهود لنبيهم عند القتال وساعة الحرب، اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون، بل يقولون لها ولأبنائها، نحن معكم وإلى جانبكم، نساندكم ونؤيدكم، ننصركم ونخفف عنكم، ونقاتل معكم ونصمد وإياكم، نصنع النصر معًا، وننسج خيوط العزة سويةً، فإن كنتِ قد سبقت فأنت لنا الرائد ولزحفنا القائد، نتأسى بك ونقتدي، ونتعلم منك ونهتدي، فافعلي يا خليل الرحمن ما تؤمرين، فستجدينا معك إن شاء الله من الصابرين.
شهداء الخليل فلذات أكبادها، ومن عيون عائلاتها، ينتمون إلى بطونها الكبيرة، وأسمائها اللامعة الشهيرة، الذين تضرب شهرتهم في عمق الأرض ومدى التاريخ، وهم قرة عين أهلهم ومهجة فؤادهم، وليسوا فقراء ولا معدمين، ولا بائسين ولا محبطين، بل إنهم يغلون شبابًا، ويمورون ثورةً، ويتقدون حيويةً، ولكنهم لا يستعظمون الحياة أمام فلسطين وقدسها، وأمام الأقصى وأهله.
إنهم رجالٌ ينتمون إلى فلسطين وينتسبون إلى هذا الوطن، قد عرفوا أن الكرامة تعني الرأس المرفوع، والقامة المنتصبة، والصوت العالي المسموع، والإرادة الحرة، والعزة والشمم، والإباء والسنم العالي، وهذا كله لا يكون بالذلة والخنوع ولا بالخوف والجزع، إنما يكون بالقوة والبأس والشدة والعزم، فمضوا وكأنهم يشقون طريقهم إلى مجدٍ هم يعرفونه، وشرفٍ يرومون نيله، فهنيئًا لنا بهم، وهنيئًا لفلسطين بخليلها وأبنائها.