منذ الانقلاب على محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب في مصر، في 3 يوليو 2013، والسجون المصرية تعج بأعداد كبيرة من معارضي السلطات، الذين توفي بعضهم، نتيجة ما يقوله حقوقيون ومعارضون “الإهمال الطبي”، وهو ما تنفيه الجهات الأمنية.
وبحسب حقوقيين، ومعارضين، فإن السلطات المصرية تقوم باحتجاز هؤلاء لمدد طويلة في سجون ومقرات شُرطية وُصفت بأنها “غير آدمية”، خاصة في ظل ما يصفونه “الغياب المتعمد للرعاية الصحية فيها، ما تسبب في وفاة أكثر من مئتي موقوف أمني، منهم على الأقل حتى الآن 40 من المعارضين السياسيين، فضلا عن تدهور الأوضاع الصحية لمئات آخرين”.
وعادة، ترفض الأجهزة الأمنية بمصر، اتهامات معارضين، بالإهمال الطبي، وتقول إنها توفر كامل الرعاية للسجناء داخل أقسام الشرطة والسجون، وأن التعامل مع جميع المحبوسين يتم وفقا لقوانين حقوق الإنسان.
وفيما تعتبر جماعة الإخوان المسلمين أن الاعتقالات التي تنفذها السلطات بحق أعضائها وقياداتها “سياسية”، تنفي وزارة الداخلية مرارا وفي بيانات رسمية وجود أي معتقل سياسي لديها، مؤكدة أن كل من لديها في السجون متهمون أو صادر ضدهم أحكاما في قضايا جنائية.
وبتوزيع حالات الوفاة لمعارضين سياسيين على هذه السجون، يقول معارضون إن “العقرب” أحد ملحقات سجون منطقة طرة، جنوبي القاهرة، يحتل النصيب الأكبر من هذه الحالات، إذ توفي خلال الفترة الماضية، خمسة من نزلائه، فيما توزع البقية على سجون ومقرات شرطية أخرى.
وضمت قائمة وفيات سجن “العقرب” كلا من، فريد إسماعيل، العضو البارز في حزب الحرية والعدالة المنحل بقرار قضائي (الذراع السياسي لجماعة الإخوان)، وعصام دربالة، رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، والقياديين السابقين بجماعة الجهاد الإسلامي، مرجان سالم، ونبيل المغربي، وعضو جماعة الإخوان، عماد حسن، وجميعهم توفوا في الفترة ما بين مايو إلى سبتمبر الماضيين.
وفي 13 أغسطس الماضي، نقلت تقارير إعلامية عن أهالي 12 من قيادات المعارضة المحتجزين في السجن نفسه، نقل هؤلاء إلى مستشفى سجن طرة “المخصصة للسجناء” في وضع صحي حرج، منهم نائب رئيس محكمة النقض الأسبق، محمود الخضيري، والقياديان بحزب الاستقلال مجدي قرقر، ومجدي حسين، وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان، رشاد بيومي، وهو ما لم تؤكده أو تنفيه السلطات المصرية.
فكيف يموت السجناء في العقرب، ولماذا تتدهور صحتهم منذ تعيين اللواء مجدي عبد الغفار وزيرا للداخلية، في 5 مارس الماضي؟ سؤال طُرح على طبيب جراح، خرج للتو من سجن “مزرعة طره” المجاور للعقرب، بعد اعتقال دام سنة وستة أشهر.
الطبيب الذي فضّل الإشارة إلى اسمه بحرفي “س.ع”، لدواع أمنية، قال إن “أوضاع الرعاية الصحية في السجون عامة، وسجن العقرب على وجه الخصوص سيئة للغاية، وأن هناك تعمد لقتل السجناء”.
وأضاف أن “هناك إجراءات طبية من المفترض أن تقوم بها إدارة السجون، لحفظ سلامة المرضى من السجناء، كإعداد ملف طبي لكل سجين، تُسجل فيه الأمراض المصاب بها، ومن ثم يُقدم له الدواء والطعام المناسب لحالته الصحية، وتسجل فيه أيضا توقيتات فحوصاته الطبية اللازمة، وهو الأمر الذي لم يحدث، بل أن الإدارة منعت الدواء والفحص الطبي عن هؤلاء المرضى”.
وبحسب الأمين العام المساعد السابق لنقابة الأطباء، عبدالله الكريوني، فإن مرضى السكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض الكلى والكبد، والسرطان، هم الأكثر عرضة للوفاة، في ظل الظروف “السيئة” من الرعاية “المتعمد غيابها” في سجن العقرب.
ويقول الكريوني، إن “مرضى إرتفاع ضغط الدم لفترات طويلة لا يجوز أن يكون الطعام المقدم لهم يحتوي على الملح، وإن حدث، فإن ذلك يتسبب في نزيف للسجين، ومضاعفات أخرى تؤدي إلى الوفاة، كما أن مريض السكري لابد أن يتناول الفواكه والخضروات بكثرة على حساب الكربوهيدرات، والمواد النشوية والسكرية”.
أما مريض الكبد، فلابد أن يُمنع عنه اللحوم في مراحل معينة، بحسب المتحدث السابق الذي أشار إلى أن تلوث مياه الشرب تفاقم من إصابة مرضى الكلى.
وكان حزب “البناء والتنمية” الذي ينتمي إليه عصام دربالة، والذي توفي في الثامن من أغسطس الماضي، عقب ارتفاع ضغط الدم وارتفاع السكر لديه، أصدر بياناً يندد فيه بما وصفه “اغتيال دربالة” عن طريق الإهمال الطبي، مشيرا إلى أن الوفاة سببها “منع إدارة السجن من دخول أدوية مرض السكر إلى دربالة منذ أشهر، ورفض محاولات نقله للمستشفى”.
وفي هذا الصدد، فنّد الطبيب “س.ع”، أشكال ما أسماه “كيفية إماتة السجناء السياسيين”، أولها أن “المرضى السجناء يحتاجون أحيانا لخروج عاجل من محبسهم إلى مستشفى السجن أو غيرها من المستشفيات، وهو أمر يتطلب رفع طلب من المريض إلى مأمور السجن (قائد السجن)، وبدوره يرفعه المأمور إلى مصلحة السجون، وعند الموافقة يتم تجهيز ما يسمونه ترحيلة (قوة أمنية لمصاحبة السجين المريض)، ولكن دائما ما يتم إلغاء هذه الترحيلة لأي سبب، وعند الإلغاء يقوم المريض بتكرار دورة تقديم الطلب وانتظار الموافقة التي تستلزم على الأقل 10 أيام”.
وحتى إن وصل المريض بترحيلته إلى المستشفى، يقول الطبيب نفسه، “من الطبيعي أن لا يجد سريراً لإجراء الفحص الطبي، أو تعطل الأجهزة الطبية، أو إذا حالفه الحظ وأجرى الكشف الطبي وطلب منه طبيب المستشفى فحوصات طبية، فإن قوة الترحيلة تعيد المريض للسجن مرة أخرى، ليقدم طلب لترحيلة جديدة لإجراء هذه الفحوصات”.
ووفق “س.ع”، فإن “إدارة السجن منعت إدخال الأدوية، كما أنها منعت صرف أدوية من عيادة السجن، وأن القائمين على السجن لا يستجيبون عادة لاستغاثات المرضى، خاصة بعد إغلاق العيادات في الساعة الثالثة عصرا، الأمر الذي يتسبب في دخول كثير منهم نوبات إغماء أو غيبوبة”.
ومن حالات الوفاة التي شهدها سجن “العقرب”، وفاة القيادي في حزب الحرية والعدالة، فريد إسماعيل (58 عاما)، الذي رفضت سلطات السجن نقله إلى مستشفى خارج المكان لتلقي العلاج، رغم إصابته بمضاعفات مرض السكري و”فيروس سي”، وحجزه انفراديا لعدة أشهر ، ومنع الدواء عنه، مما تسبب في دخوله غيبوبة كبدية، ونزيف، وجلطة بالمخ، ثم وفاته في 13 مايو الماضي.
وبحسب أمين عام مساعد نقابة الأطباء، فإن “شكاوى من أهالي السجناء بالعقرب وغيره من السجون تفيد بأن أطباء يساعدون إدارة السجون على تعذيب المعتقلين، بالامتناع عن الكشف الطبي، وعدم صرف أدوية للمرضى، والتعنت في مساعدة السجناء المصابين بأمراض مزمنة في الخروج لإجراء فحوصات طبية، كما أن عديد من الأطباء ليس على مستو عال من الكفاءة أو عدم قدرته على تغطية عدد المرضى الهائل بالسجن الواحد”.
الطبيب “س.ع” اتفق مع الكريوني فيما سبق، وقال إن “عدداً من الأطباء (الضباط) التابعين للإدارة الطبية للسجون، يمتنعون عن تقديم الخدمة الصحية للسجناء المرضى، ويقومون بتعيين مسجون جنائي (يسمونه في السجن “مُسير) تكون مهمته اختيار عدد محدد من المرضى كي يجرى الطبيب عليهم الكشف الطبي”.
محمد أبو هُريرة، المحام بالتنسيقية المصرية لحقوق الإنسان، يشير إلى أن قانون تنظيم السجون رقم 396، لسنة 56، ينص على أن كل محكوم عليه (أي صدر ضده حكم اولي أو نهائي) إذا تبين للإدارة الطبية بمصلحة السجون أنه مصاب بمرض يهدد حياته يتم الإفراج عنه صحياً، بعد اعتماد مدير عام السجون وموافقة النائب العام”.
لكن أبو هريرة، يؤكد وجود “خروقات وانتهاكات بالجملة لحقوق السجناء، خصوصا السياسيين المعارضين، وأن الحقوقيين رصدوا كل ما يحدث في السجون، وخاصة العقرب، حيث يمنع السجناء من العلاج والطعام، والتريض، وتكدس مقرات الاحتجاز، أو معاقبة السجناء بحبسهم انفراديا لمدد طويلة”.
وأشار أنهم كمحامين “تقدموا بعشرات الشكاوى لمصلحة السجون والنائب العام، ضد هذه الإجراءات، ولكن لم يلتفت إليهم أحد”.
وكان مركز “النديم” للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف والتعذيب، وثق خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، تنوع حالات الإهمال الطبي التي أدت إلى الإصابة بأمراض الكبد والكلى، والطحال، ونزيف، وارتشاح في الرئة، وأزمات صدرية، وأمراض القلب، وضمور الأطراف، وانتشار الجرب، والانفصال الشبكي، والانهيار العصبي، والتسمم من أكل السجن، والتهاب الزائدة الدودية، والتهاب الغدة النكافية، والتهاب حاد بالمعدة والرئة، والربو الشعبي، وتوقف العلاج الطبيعي في حالات الكسور والخلع وغيرها من الأمراض والمضاعفات.
كما أن هناك شهادات لأهالي سجناء في “العقرب”، أدلوا بها عقب زيارات ذويهم منتصف سبتمبر الماضي، قالوا فيها إن السجناء فقدوا ما يزيد عن نصف أوزانهم، وبدا عليهم الهزال الشديد، وكذلك منعهم من شراء طعام من كانتين السجن (تابع لإدارة السجن يبيع أطعمة مطبوخة للسجناء)، فضلاً عن تقديم السجن لوجبات غذائية قليلة جدا”.
وعن سياسة التجويع هذه، تحدث “س.ع” قائلا إنها “عملية قتل بطيء، لأن نقص الطعام والمواد الأساسية التي يحتاجها الجسم البشري من بروتين، وفيتامين، وكربوهيدرات، ونشويات وسكريات يتسبب في إصابة الجسم بالضعف والهزال، وبالتالي يفقد السجين القدرة على الوقوف، وتصبح مناعته ضعيفة في مواجهة الأمراض، فضلا عن تأثير ذلك على المرضى بالأساس بمضاعفات خطيرة من الطبيعي أن تُسرّع من الوفاة”.
خالد، شقيق عماد حسن، أحدث المتوفين في سجن “العقرب”، يقول إن أخيه، اُعتقل في 13 أغسطس من العام الماضي، واُحتجز منذ البداية في السجن المذكور، وأنه رغم التضييقات التي كانت تمارس ضده إلا أن حالته لم تصل لهذا السوء الذي وصلت له في مايو الماضي، عقب تولي مجدي عبدالغفار، مسؤولية وزارة الداخلية بشهرين، إذ لوحظ على “عماد” الهزال الشديد، وأخبر أسرته في إحدى الزيارات أنه يشعر بألم مستمر في بطنه، وأنه يتقيأ باستمرار.
ونقلا عن أخيه، علم خالد أن عماد أصيب ليلة عيد الفطر المنصرم، وأنه أخذ يتقيأ دما، ثم أصيب بالإغماء، وأن إدارة السجن رفضت في البداية طلب الطبيب في نقله لمستشفى “ليمان طرة”، ثم استجابت بعدما هددهم السجناء بالإضراب عن الطعام.
وعلى مدار أسبوعين، مكثهم عماد، في المستشفى، لم يُجْر له تحاليل أو فحوصات، ولم يصرف له الطبيب دواء لحالته سوى محاليل لعلاج الهزال، ثم أُعيد مرة أخرى للسجن، فساءت حالته أكثر، فنقلوه إلى مستشفى الأمراض الباطنية، وفيها أجريت له فحوصات في نهاية أغسطس الماضي، عرفوا من خلالها أنه أصيب بسرطان في المعدة، وأوصى الطبيب باستئصال الورم السرطاني، ولكن إدارة قسم المعتقلين المرضى بالمستشفى تباطأت في إجراء الفحوصات قبيل العملية الجراحية، حتى توفي السجين في 25 من الشهر اللاحق عن عمر ناهز 41 عاماً.
وفي 26 أغسطس الماضي، زار وفد من المجلس القومي لحقوق الإنسان سجن “العقرب” عقب تصاعد قضية السجناء السياسيين بداخله، ولكن الزيارة خلفت أزمة داخل المجلس، بعدما اعترض عدد من أعضائه على التقرير الختامي للزيارة معتبرينه منافيا للواقع، وأن المجلس اُستخدم لتجميل وجه السلطة وليس للدفاع عن “المظلومين”.
وفي مؤتمر صحفي، آنذاك، قال محمد فائق، أمين عام المجلس، وهو يعرض تقرير الزيارة إن “الشكاوى التي قدمتها أسر قادة الإخوان غير صحيحة على الأقل بنسبة 50%”، مشيراً إلى أن “السجون خالية من أي تعذيب منهجي”.
وقال تقرير المجلس الحكومي أيضا، إنه اطلع على الملفات الصحية لأصحاب الشكاوى المقدمة للمجلس، والتى تضمنت عدم توفير الرعاية الصحية لهم، من بينهم خيرت الشاطر، نائب المرشد العام للإخوان، وتأكد لوفد المجلس من فحص ملفاتهم الصحية، توفر العناية الطبية اللازمة، سواء داخل مستشفى السجن، أوخارجه بالمستشفيات الجامعية القريبة من منطقة سجون طره.
وتأسس سجن العقرب عام 1993 في عهد الديكتاتور حسني مبارك حيث خُصص لحبس معارضي النظام السياسيين، “شديدي الخطورة”.
المصدر: الأناضول