خلال أقل من يومين، يتجه مواطنو الجمهورية التركية لصناديق الاقتراع للمرة الثانية هذا العام لانتخاب ممثليهم في البرلمان التركي، ومن بين أحزاب أربعة رئيسية هي العدالة والتنمية الحاكم، والشعب الجمهوري العلماني الأكبر في المعارضة، والحركة القومية صاحب الأفكار القومية التركية، والشعوب الديمقراطي المرتكز للولايات الكردية والذي يطرح نفسه كحزب يساري في بقية أنحاء تركيا، وبينما يصعب توقع نتيجة الانتخابات بشكل حاسم، إلا أن السيناريوهات المحتملة هي؛ إما خروج حزب العدالة والتنمية في المركز الأول بدون أغلبية برلمانية لتشكيل الحكومة، أو نجاحه في استعادته أغلبيته البرلمانية بالفعل وهي حالة سيشكل فيها الحكومة منفردًا دون الحاجة لائتلاف، وإما حصوله على أغلبية الثلثين بـ376، وإما خروجه أصلًا عن المركز الأول وبروز الحزب العلماني أو القومي كحزب أول في تركيا، والسيناريو الأخير بالطبع مستحيل بالنظر للواقع على الأرض، كما أن حصول العدالة والتنمية على أغلبية الثلثين مسألة شبه مستحيلة.
تنحصر الاحتمالات الواردة فعلًا إذن بين حكومة منفردة للعدالة والتنمية، أو ائتلاف حكومي مع أي من الأحزاب الموجودة، وبالنظر للخلافات الواسعة بين الحزب الحاكم والأكراد حاليًا، فإن حزب الشعوب الديمقراطي لا يمكن أن يأتلف معه في هذه اللحظة، كما أن حزب الحركة القومية وإن كانت أجندته أقرب بسبب قواعده المحافظة، فإن الائتلاف معه من ناحية أخرى يعقد تمامًا الملف الكردي وقد يُنهي أية آمال في الوصول لسلام مع الأكراد، مما يستتبع أن يكون الائتلاف في الأغلب مع حزب الشعب الجمهوري العلماني، والذي اتسم باعتدال خطابه العلماني، بعد عقود طويلة من التطرف ضد المتدينين، كما يميل ناحية يسار الوسط بعيد عن الشرائح القومية، بشكل يتيح له أن يساهم بجدية في حل الأزمة الكردية، والتي تقع على رأس قائمة الأولويات الآن.
يقول المتشائمون من ائتلاف “إسلامي علماني” كهذا أن التاريخ ليس في صالحه أبدًا، فالائتلافات بشكل عام ليست فقط نذير عدم استقرار، وعدم قدرة على الاستمرار لأكثر من ثلاث سنوات، كما حصل مع الائتلافات العشرين التي شهدتها الجمهورية التركية قبل العدالة والتنمية في أوائل الستينيات والسبعينيات والتسعينيات، والتي استعرضناها في مقال الأمس، بل إن ائتلاف يجمع حزبين بعيدين في أفكارهما، كالعدالة والتنمية من ناحية والشعب الجمهوري من ناحية أخرى، لن يستمر حتى لعامين، فالائتلاف الإسلامي العلماني الوحيد في تاريخ تركيا، والذي ضم حزب السلامة القومية بقيادة نجم الدين أربكان في السبعينيات، أكمل عامًا واحدًا بالكاد مع العلمانيين قبل أن يسقط نتيجة الاختلافات الواسعة.
شبح التسعينيات: الائتلافات التركية والاقتصاد
بشكل عام، وبغض النظر عن أيديولوجية الأحزاب الموجودة في الائتلافات التركية، يلفت النظر دومًا في تاريخ تركيا الاقتصادي نجاحها في تحقيق نمو واستقرار مالي واقتصادي تحت حكومات الحزب الواحد، والتي كانت محافظة في العادة، كحكومة عدنان مندرس في الخمسينيات، وحكومة سليمان دميرل في النصف الثاني من الستينيات، وحكومة توركوت أوزال في أواخر الثمانينيات، وأخيرًا حكومة العدالة والتنمية المستمرة منذ عام 2002، على العكس من الاضطراب الشديد الذي عاشته في أوقات الائتلافات وغياب هيمنة حزب واحد قوي، وهو ما يعزوه البعض لبنية النظام التركي نفسه، والذي لا يماثل نظريًا الأنظمة الديمقراطية في أوروبا، ولم يكن مناسبًا إلا لهيمنة حزب واحد.
لطالما كان وجود حزب واحد ومحافظ كبير في السلطة أيضًا واحدة من أسباب الاستقرار السياسي نتيجة تمتع تلك الأحزاب بروابط وطيدة مع الشرائح المحافظة في الأناضول، وقدرتها على توزيع الموارد بشكل أوسع للاستفادة من النمو في هذه المناطق، وهو على العكس من الائتلافات التي كثيرًا ما انشغلت أطرافها بمنافسة بعضها بعضًا، وفقدت تركيزها كذلك في إبعاد العسكر عن السلطة قدر الإمكان، فالأتراك كانوا يفضلون أنذاك حكمًا عسكريًا جيدًا على ائتلاف هش، وهو ما يفسر تفضيل كثير من الأتراك للانقلاب العسكري عام 1980 والذي وضع حدًا لاضطراب السبعينيات.
مرة أخرى، يلقي المحللون اللوم هنا على الجيش أولًا، والذي فصّل النظام التركي بشكل يجعله غير قابل لعملية تشكيل الائتلافات وعملها بنجاح، وهو أمر ينعكس بطبيعة الحال على الاقتصاد والذي يهم رجل الشارع التركي، وهو ما يدفع البعض الآن للقول بأن وجود ائتلاف لأول مرة منذ عام 2002 قد يؤثر سلبًا على الاقتصاد، والذي اهتز بالفعل نتيجة الأحداث الأخيرة من تراجع حزب العدالة والتنمية لتفجير أنقرة والحرب مع حزب العمال الكردستاني، ويشكل دعاية نوعًا ما لحكومة الحزب الواحد بقيادة العدالة والتنمية أملًا في تحقيق الاستقرار.
سجال البرلماني والرئاسي: هل ائتلافات اليوم غير ائتلافات الأمس؟
على الناحية الأخرى، يرُد آخرون قائلين بأن تشكيل ائتلاف في الوضع الحالي لن يكون أمرًا سيئًا كما يصوّر البعض، فالعامل الرئيسي الذي طالما أفشل الائتلافات، وهو هيمنة العسكر، لم يعد موجودًا، كما أن الحُكم شديد المركزي، والمستند لأنقرة وإسطنبول، تغير كثيرًا تحت حكم العدالة والتنمية نفسه بشكل يتيح الآن شكل أكثر تعددية للسلطة، علاوة على أن المرحلة الاستثنائية القادمة في تاريخ تركيا، وهي مرحلة تأسيس نظام ودستور جديدَين، لا يمكن أن تتم تحت هيمنة حزب واحد فقط، كما يريد البعض من داخل حزب العدالة والتنمية.
الرد من المعسكر الآخر هو أن أسباب فشل الائتلافات بشكل آني في التسعينيات والسبعينيات لم تعد بالفعل موجودة، غير أن هناك أسباب كامنة في الثقافة التركية، وفي بنية الدولة التركية كما تأسست من 1923 حتى الآن، تمنع ولا تزال من نجاح ائتلاف في حكم تركيا بشكل يحقق ازدهارًا اقتصاديًا ويرسم ملامح نظام سياسي جديد، فالأتراك يميلون في معظمهم لنظام أحادي الشكل، علاوة على أن تأسيس نظام جديد للجمهورية عن طريق ائتلاف وتعاون إسلامي علماني هو أمر مثالي أكثر من اللازم، فأوقات التحول السياسية نحو نُظُم جديدة تحتاج بالفعل إلى تشكيل سياسي أحادي كما تأسست الجمهورية على يد أتاتورك، وتأسست الخلافة العثمانية سابقًا بتوحيد القبائل التركية كلها تحت راية آل عثمان، وغيرها من أمثلة.
تلك السمات الثقافية التركية، مع خصائص الجمهورية بشكلها الحالي، هي التي دفعت برجب طيب أردوغان والكثير من أنصاره في الحزب وخارجه للدفع نحو نظام رئاسي، باعتباره أكثر ملائمة للأتراك، وللاتجاه نحو تدشين جمهورية جديدة، ولحل معضلة الحاجة لائتلافات في غياب حزب واحد كبير للأبد، فتعزيز مؤسسة الرئاسة على حساب البرلمان سيقلل تمامًا من وقوع الحكومات بسهولة بفقدانها الثقة في البرلمان، كما حدث كثيرًا تاريخ تركيا الحديث، ويضمن لها انتخاب رئيس وحكومة يستمران لآخر مدتهما بشكل يفرض استقرارًا اقتصاديًا وسياسيًا أفضل، كما هي الحالة الأمريكية والفرنسية.
هي حُجة قوية بالطبع لا شك في ذلك، وبها الكثير من الصواب، غير أن المخاوف التي يعبر عنها نقادها هي الأخرى مخاوف حقيقية، إذ يقول هؤلاء أن تركيا الرئاسية أيام أتاتورك لم تشهد مساحة واسعة من حرية الرأي والتعبير، بل واستُخدمَت لقمع الغالبية العظمى من المسلمين علاوة على الأكراد، وهو للمفارقة الإرث الذي عانى منه أردوغان نفسه وفصيله السياسي في أول ظهوره فيما بعد، فلماذا قد يحاول تكراره إذن؟ وهل كونه من ذلك الفصيل الذي يشكل الأغلبية يسمح له بالفعل بأن يكون أتاتوركًا؟ أم أنه يجب رفض فكرة هيمنة شخص واحد بشكل عام أيًا كان انتماؤه؟
علاوة على ذلك، يقول أنصار النظام البرلماني أن تركيا تحت النظام الرئاسي ستصبح غير مناسبة للممارسة الأكراد للسياسة بشكل مفتوح ومباشر، فإن كان البرلمان يتيح للأكراد اختيار الحزب الذي يريدون، وبعدد واضح من المقاعد يتيح لهم التأثير على العملية التشريعية وربما الدخول في ائتلاف مستقبلًا، فإن النظام الرئاسي يعني انتقال السلطة التنفيذية في الأغلب لرئيس تركي، حيث يصعب اختيار رئيس كردي من أقلية لا تمثل أكثر من 25%، كما أن الحكومة التي سيختارها الرئيس ستضم الأكراد الذين يختارهم هو بشكل غير مباشر، على عكس عملية توزيع الحقائب الوزارية الأكثر سخونة في النظام البرلماني.
***
يستمر السجال إذن، بين من يقولون من ناحية بأن تشكيل ائتلاف، إن اضطر العدالة والتنمية لذلك، لن يجلب المزيد من عدم الاستقرار، وأن النظام البرلماني مناسب أكثر من أي وقت بعض الإصلاحات التي أنهت دور العسكر، بل إن تجربة ذلك النظام لعقود طويلة مقبلة هو الطريقة الوحيدة لإثبات كونه مناسبًا بالفعل، وأن فشله في السابق كان استثناءً ليس إلا، ومن يقولون من ناحية أخرى أن الأوضاع الحالية لا تسمح بالتجارب، وأن واقع أفضلية نظام حزب واحد، ومن ثم نظام رئاسي، يتعلق بثقافة الأتراك وليس بأوضاع استثنائية فقط، وأن الجمهورية الجديدة، على غرار كل نقاط التحول في التاريخ التركي، لا يمكن أن يدشنها ائتلاف أو تحالف بين إسلامي وعلماني، ولكن مجموعة سياسية متجانسة تتمتع بظهير شعبي يعطيها الشرعية الكافية للقيام بذلك.
لن ينتهي السجال بالطبع يوم الأحد بالانتخابات، ولكن نتيجة الانتخابات ستحدد الكثير، فإن أجبرت النتيجة داوود أوغلو على التوصل لائتلاف، ستكون تلك تجربة حية لنجاح ائتلاف كهذا من عدمه، وما إن كان غياب هيمنة العسكر فعلًا هو السبب الوحيد في فشل الائتلافات أم لا، أما إذا خرج الحزب بأغلبية برلمانية، فإن حكومته الجديدة ستحتاج لإثبات نفسها هي الأخرى في قدرتها على تحقيق استقرار العقد الماضي، والعودة إلى المسار الذي كانت تسير في تركيا اقتصاديًا وسياسيًا بعد توتر الأوضاع في الأشهر الأخيرة، وهو أمر إن لم يحدث سيثبت الرؤية القائلة بأن لحظة التحول التاريخية التي تمر بها تركيا فعلًا لا تسع حزبًا واحدًا فقط، وإن لم يحدث، فسيكون على الأرجح بداية لرسم الحزب للنظام الذي يريد منفردًا.