ليس هناك أدنى شك بأن الحكومة الإسرائيلية قد وقعت في شر أعمالها، وحصدت مرًا جنى ما زرعت، وشوكًا ثمر ما بذرت، وتورطت في انتفاضة شعبية تعرف آثارها، وتدرك نتائجها، وقد عاشت مثيلاتها، ودفعت فيها أثمانًا كبيرة، وتنازلت عن أشياء كثيرة، وتعرف أنها إن بدأت فلن تنتهي قبل أن تحقق بعض أهدافها، ويومًا بعد آخر سيكبر حجرها، وسيتعاظم أثرها، وسيتضاعف مناصروها، وستقف معها دول وحكومات، شعوب وجماعات، وأحزاب ومنظمات، وحينها ستنتظم أكثر، وستقوى شوكتها وتقسو، وستتواصل فعالياتها، وتتعدد أشكالها، وستكون صيرورتها نضالًا، واستمرارها مقاومة، وستلحق بها كل الأجيال الفلسطينية، ولن يُبقي الشباب صبغتها، بل سيلونها إلى جانبهم الشيوخ والرجال، والصبية والأطفال.
يجهد الإسرائيليون أنفسهم، يجلدون ذاتهم، يعتبون على بعضهم، ويتلاومون فيما بينهم، كل يحمل الآخر المسؤولية عما جرى، وأنه المسؤول عن تدهور الأوضاع وفوضى البلاد، وقد كان كيانهم في ظل اضطراب العرب وانشغالهم في غنى عن انتفاضة توحدهم، وثورة تجمعهم، وقدس تصحح بوصلتهم، وأقصى يعيد قبلتهم، وقد كان بالإمكان العمل بصمت وهدوء، وحكمة وروية، بعيدًا عن الإعلام واستفزازات المتدينين المتطرفين، الساسة المتشددين، والمستوطنين المتهورين؛ الذين أشعلوا فتيل الانتفاضة، وألقوا فيها المزيد من الحطب، بما جعل إطفاءها صعبًا، والسيطرة عليها مستحيلة.
يفكر الإسرائيليون، الأمنيون والعسكريون، السياسيون والاستشاريون، الإستراتيجيون والباحثون، وكل من عنده رأي ومشورة، وخبرة وتجربة، وفكرة ومقترح، في أفضل السبل لإنهاء الانتفاضة والسيطرة عليها، والتحكم في مسارها وعدم السماح لها بالتمدد والانتشار، والتوسع والقوة، وهم يسابقون الزمن ويسرعون الخطى في محاولات محمومة لاستباق الانتفاضة وقطع الطريق عليها، أو وضع العقبات أمامها، قبل أن تشب عن الطوق أكثر، وتفلت من العقال الإسرائيلي والدولي، ويشتد ساعدها وتقوى.
بعضهم ينادي باستخدام القوة المفرطة ضد الفلسطينيين جميعًا، والعنف الشديد والقتل المتواصل، والمباشرة في إطلاق النار على كل مشتبه فيه، أيًا كان رجلًا أو امرأة، دون أن يُعطى الفرصة للدفاع عن نفسه، أو لبيان أنه لا يحمل سكينًا ولا سلاحًا، ولا ينوي الهجوم أو الاعتداء، وأنه لا يشكل خطرًا على أحد.
ويدعو هذا الفريق الحكومة الإسرائيلية إلى السماح للمواطنين الإسرائيليين جميعًا بالدفاع عن أنفسهم أمام هذا الخطر الذي أثر على حياتهم، وانعكس على كل تصرفاتهم، وجعلهم يخافون من أنفسهم، ويشكون في بعضهم، فيقتلون بعضهم البعض خطًا، فلا تحاسبهم على تصرف، ولا تحاكمهم بتهمة القتل أو الشروع في القتل، ولا تسمح لأي جهة دولية بمحاكمتهم ومساءلتهم.
يعتقد أصحاب هذا الرأي أن القوة المفرطة الموجعة، المثيرة للألم والباقية الأثر هي الحل الأنجح والأسرع، وهي السبيل الوحيد لإرغام الفلسطينيين على التراجع، وإجبارهم على القبول بالعودة إلى الهدوء الذي كان يسود المناطق، فعندما يعلمون أن ضريبة العنف كبيرة، وأن خسارتهم لا تتوقف عند قتل المشتبه فيه أو المعتدي، وإنما تطال أهله فيُعتقلون، وبيته فيُدمر، ومنطقته فتُغلق، وبلدته فتحُاصر، وغير ذلك من أشكال ووسائل العقاب الجماعي، التي تدفع المواطنين الفلسطينيين إلى كبح جماح بعضهم، ومنعهم من القيام بأي أعمال من شأنها أن تثير سلطات الاحتلال عليهم، مما يجعلهم شرطة يراقبون ويمنعون، وأولياء أمور يخافون ويقلقون.
أما غيرهم فيرى أن إشغال الفلسطينيين بما هو أكبر سينسيهم الانتفاضة، وسيصرفهم عنها، وسيجبرهم على تجاوزها وعدم العودة إليها، ولا شيء يشغل الفلسطينيين ويدخلهم في كرب أعظم ومحنة أشد، كالحرب على قطاع غزة، التي هي ضرورة وحاجة إسرائيلية، وهي كائنة لا محالة، اليوم أو غدًا، إذ إن الجميع يعرف أنها حرب مفتوحة، وأن معركتها قادمة وإن تأخرت، وأن تصفية الحساب مع فصائلها لم تنته بعد، وأن تأديبهم لم يتم أصولًا، ولم يطال المسؤولين عن الاعتداءات حكمًا.
يقف وراء هذا الرأي عدد كبير من المسؤولين الأمنيين والعسكريين الكبار، الذين مازالوا في الخدمة الرسمية، وممن شاركوا في الحروب الأخيرة على قطاع غزة، ولكنهم يعلمون يقينًا أن حملاتهم العسكرية على قطاع غزة لم تنجح، ولم تحقق أهدافها المرجوة، وأن النصر فيها مشتبه فيه مع قواها المقاومة، التي تعتقد أنها انتصرت وكسرت شوكة الجيش فيها، ومنعته من تحقيق نصرًا حاسمًا عليها، ولهذا فإنهم يرون أن الحرب على غزة تحقق أكثر من هدف في آن واحد، فهي تشغل الفلسطينيين عن انتفاضهم، وتجبرهم على تجنب الأخطر والأصعب، وتحقق الانتقام من غزة ومنظماتها، وتعيد الهيبة لجيشهم المهزوز وقيادته المحبطة.
لكن غيرهم وهم في غالبيتهم ساسة وأمنيون وعسكريون متقاعدون، ممن عركتهم الأحداث وعرفوا خواتيم المعارك، التي طحنتهم بأحداثها وعلمتهم بأنيابها؛ فإنهم يرون أن حل الانتفاضة لا يكون بالقوة، ولا بإدخال المنطقة في حرب قصيرة ومعركة محدودة، بل يكون ذلك باستيعابها والسيطرة عليها، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، وإعادة الاعتبار لهم ومنحهم بعض التسهيلات الممكنة والامتيازات المطلوبة، وتقديم بعض التنازلات ولو بدت أنها موجعة قليلًا، أو فسرت أنها خضوع وتراجع، كتقليص عدد الحواجز العسكرية المنتشرة بالمئات على الشوارع والطرقات ومداخل البلدات، وإعادة الانتشار في الأماكن المكتظة بالسكان العرب، وتغيير بعض القوانين التي من شأنها أن تقيد حرية المستوطنين الإسرائيليين الذين يستغلون القوانين لصالحهم، ويزيدون بتصرفاتهم من لهيب الانتفاضة المستعر.
هي أفكار إسرائيلية مبعثها الفزع، وسببها الخوف، ودافعها القلق، لا نقلل من أهميتها، ولا نستخف بخطورتها، ففيها الصريح الواضح، العنيف القاسي، والهمجي الوحشي، الذي اعتدنا عليه ولم يغب عنا يومًا، وقد اعتمده الاحتلال ومازال على مدى العقود السبعة التي مضت، ولكنه لم يحقق ما أرادوا، ولم يصل بهم إلى أهدافهم المرجوة، كما أنه لم يخف الفلسطينيين ولم يرعبهم، ولم يمنعهم ولم يكسر شوكتهم.
لكن فيها أيضًا الخبيث الماكر، المخادع المناور، وهو الأخطر والأسوأ، الذي يحاول أن يدس للفلسطينيين السم في الدسم، وأن يغريهم بالكذب والضلال، الزيف، السراب، والخداع، ولعلهم في النهاية ينجحون ويتمكنون، إن وجدوا إلى جانبهم ناصرًا عربيًا، معينًا فلسطينيًا، ومؤيدًا دوليًا، وهو ما نخشاه ونقلق منه، وإن كنا نعلم أنه لا يكسر الفلسطينيين العدو مهما تجبر، إلا أن يخدعه الصديق إن تنكر، فلنحذر العصا الإسرائيلية على قسوتها مرة، ولنحذر الجزرة المدسوسة المغشوشة ألف مرة.