في البدء كانت الكلمة، ومن الكلمة خُلق الحجر، ومن الحجر نطقت الحناجر التي قالت لا في وجه من قالوا نعم، أمام الدبابات يقف بثبات دون ترنح، يحمل في يمينه القلم وفي يساره الحجر، يبسط يديه للرياح، يحين من كتفه اليمين التفاتة، وفي حركة مباغتة يضرب بقدمه اليسرى الأرض ثم يلتف حول نفسه مُختالًا، على ألحان “يا زريف الطول” يدبك، وعلى وقع المدافع يستشهد؛ هذه هي قصة الفلسطيني، بين الحرب والأغنية، الانتفاضة والتعب، الحجر والأدب.
في الوقت الذي نتوقع فيه جفاف الحرف وعقم الفكرة جرّاء الاحتلال والقمع والتهجير الذي حملته أكتاف الفلسطينين منذ عام 1948، كانت الجراح رعشة تدفقت جرّاءها ينابيع الرواية والشعر والمسرحية، وفي الوقت الذي شح فيه المعنى وكثرت فيه الدماء كانت فلسطين قادرة على استنفار الأقلام التي جندت نفسها في أدب المقاومة.
في الأحداث الأخيرة بتنا نصحو وننام على أخبار عمليات الطعن التي يقوم بها شبان من مختلف الأعمار، ومعظمهم ليسوا منتظمين ضمن فصائل، الأمر الذي أثار جنون قوات الاحتلال، كيف تحول الحجر إلى سكين؟ وكيف يُهزم الخوف على يد طفل أو شاب حينما يطعن مستوطنًا؟ ولكن لحظة! ألم يقلها مُظفر النواب في قصيدته “عبدالله الإرهابي”؟ ألم يشحذ بكلماته الحناجر ويوقظ الضمائر؟ ألم تمر هذه القصيدة من قبل بين عيني شباب القدس كلما لاح أمامهم جندي إسرائيلي أو خطر؟
يا عبدالله اشحذها
نفذها تنفيذًا نفذها !
في الليل تسلل
هنالك جندي مُحتل
أخنقه بهذا الجورب يا عبدالله
لعلك تشفي واحدًا بالألف من الحقد بقلبي
هذا الجورب سكين
هذا الشهيد سكين
فرشاة حلاقته سكين!
يطل من الباب شبان يحملون نعشًا على أكتافهم، فيه الشاب الذي ربته بدموع عينيها وكفاف قلبها وشغاف روحها، فيه من كانت ترى أن خيباتها جميعًا تختفي أمام عينيه، وحزن الأرض كله يبتسم لابتسامته، تطلق زغرودتها التي ادخرتها طويلًا، وتطلقها بملء حنجرتها، بكل ما فيها من ألم كان فيه المُكفن الربابة والجرح.
“ثم هل تعرفين من هو الذي يجبرنا على أن نزغرد فعلًا؟ لا ليس أهلنا وأقاربنا وجيراننا، لا ليسوا هم، الذي يجبرنا على أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم، نزغرد حتى لا نجعله يحس لحظة أنه هزمنا، وإن عشنا، سأذكركِ أننا سنبكي كثيرًا بعد أن نتحرر، سنبكي كل أولئك الذين كنا مضطرين أن نزغرد في جنازاتهم، سنبكي كما نشاء، ونفرح كما نشاء، وليس حسب المواعيد التي يحددها هذا الذي يُطلق النار عليهم وعلينا”.
الملهاة الفلسطينية، أعراس آمنة، إبراهيم نصر الله
إن الأرض التي روتها دماء فارس عودة وفية، لم تمتصها كلها، بل أبقت على قليل منها كي يُزهر منها إخوان لفارس يشبهونه في الخفة حتى وهم يستشهدون، في مشهد لم أكن أصدقه رأيت فارس يُبعث من جديد، هكذا أمامي تمامًا يظهر شاب في المواجهات الأخيرة، وهو عاري الصدر، يحمل في يده “مُقليعة” يُثبت فيها حجرًا، يبدأ برفع قدمه اليمنى ثم اليسرى ثم العكس وهو يمشي للخلف وأكتافه تصعد وتهبط كنسر يحرك جناحيه بإيقاع منضبط حتى يستطيع الطيران.
“وفي يوم راحت أمه وراءه إلى المنطار وكان الرصاص لا يوصف، ومن خوفها عليه كانت تحتضن كل ولد تراه وتقول: فارس! تتخيله فارس فتتفاجأ به يرد: أنا مش فارس، فارس عند الدبابات. بدأت تصرخ وتركض باتجاه الدبابات فأوقفها شرطي فلسطيني وقال لها: هنا يهود ارجعي! أنت ستموتين وفارس لن يحدث له شيء لأنه يقذف الحجر وهو يدبك، يرقص أمامهم يمين وشمال فلا يستطيعون إصابته.
قطعة من أوروبا، رضوى عاشور
على لسان الأدب، قادر أنا أن أتجدد وأن أبعث ما كان جيفًا، لي حضوري المؤقت وأثري الدائم، لي نفحة في كل روح استفزها متى أشاء، وأنا في فلسطين مأساة وملهاة، حاضر في كل حجر، وبُعثت مؤخرًا في السكاكين اشحذها وأشد على السواعد التي تحملها.
منذ عام 1948 استطاع الأدب أن يخط نكبات الشعب الفلسطيني ونكساته وانتصارته على حد سواء، استطاع أن يؤرخ تفاصيلًا لم نكن لنعرفها أو نختبرها لولا ما خطته أقلام الأدباء.
على صفحات الشهداء في مواقع التواصل الاجتماعي نرى غسان حاضرًا ونرى ناجي في صورهم، ونقرأ ما كتبوه عن أحاسيسهم عندما يكتب لهم مريد قصة تغريبته وعودته المشروطة بقوانين من لا يملك ولا يستحق، عرّفنا تميم على القدس بقصيدة فبتنا ننشد أبياتها كلما رأينا على شريط الأخبار عمليات الطعن، ووصفت لنا رضوى مشهد استشهاد فارس عودة وهو يدبك فرأينا الشباب يلوحون بكوفياتهم أمام الدبابات ويدبكون كما لو أنهم في عرس؛ هو عرس هذا الجيل الذي تربى على هذه الأدبيات المُقاومة واستلهم منها صورًا أراد تحقيقها أمام عدوه، لأنه بات يعرف أنه لن يهزم إسرائيل سوى الحرف والدم.