جاءت مرحلة الإعادة في انتخابات الكنيست المصري لتثبت أن هذا النظام يقف دون ظهير شعبي، يحمل كفنه بين يديه، وخشبته على كتفيه، في انتظار الموجة الثورية التي تواريه التراب، ثم تضع على قبره شاهدا من الرخام كُتب عليه بالدم الأحمر (هنا يرقد نظام عسكري مستبد عميل مجرم، ولد في 23 يوليو 1952، وقتله الشعب المصري في 25 يناير 2011)!
هذا النظام بانتظار من يجهز عليه، ولكن هيهات أن يستطيع أحد أن يفعل ذلك منفردا، نظام ميت، ولا يجد من يحرر له شهادة الوفاة، نظام ميت، ولكن يتظاهر بالحياة ولا يجد من يقول له في وجهه (أنت ميت)!
لقد أثبتت عشرات التجارب، أن التغيير لن يأتي إلا باتحاد المصريين جميعا، وها هي الانتخابات المزعومة تثبت أن الأرض مهيئة للاتحاد والاصطفاف.
بقي الآن أن يقف المصريون جنبا إلى جنب، كبيرهم مع صغيرهم، غنيهم مع فقيرهم، مسلمهم مع مسيحيهم، بناتهم مع شبابهم … وأي تقسيمات تفرق بين الناس ستكون في صالح بقاء النظام المستبد.
من هذا المنطلق أستغرب من بعض الذين يحاولون تصوير الدعوة للاصطفاف الوطني الثوري وكأنها جريمة!
لقد اختلف المصريون بعد الثلاثين من يونيو، ولكن الخلاف لا ينبغي أن يصل إلى أهداف ثورة يناير نفسها، وكل من يرفع راية الاصطفاف تحت شعارات العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية … ينبغي أن نضع يدنا في يده.
أما المبالغة في تحميل الآخرين وزر الدماء فهذا عمل غير سليم وطنيا، وهو عمل محرم دينيا، أقول ذلك للطرفين، فالرسول عليه الصلاة والسلام في فتح مكة سامح الجميع، وحتى من أهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمهم عفى عن غالبيتهم في آخر الأمر، بشفاعة من بعض أصحابه، أو بتطاول الزمن.
يرى البعضُ الإخوانَ المسلمين (والإسلاميين عموما) مجرمين لا يمكن التسامح معهم، ويرى الإسلاميون الطرفَ الآخر مجرما لا يمكن غفران ذنبه، ويعيش الانقلاب ويترعرع على تغذية هذا الخلاف، ويتناسى الطرفان سابقة الجهاد والثورة، وامتزاج دماءهم على الأسفلت.
ليس من حق طرف أن يقول للطرف الآخر جئت متأخرا، أو أين كنت؟، أو لا بد أن تعتذر عما بدر منك حين كنت في السلطة، أو لا بد أن تعتذر عن الدماء التي سالت بسببك … كل هذا لا يجوز مع غالبية الذين عملوا في السياسة.
أما الذين ينطبق عليهم تحمل الدماء والمشاركة في سفكها فستجدهم خارج تيار الثورة الذي ندعوه للاصطفاف أصلا، غالبية من حرض على الدماء وفوض ستجدهم خارج التيار المعبر عن الثورة.
لقد سامح الرسول الكريم حاطب بن أبي بلتعة رغم ارتكابه لجريمة الخيانة العظمى (بلغة عصرنا) ساعة فتح مكة.
جاء في سيرة ابن هشام وغيرها، لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله من الأمر في السير إليهم، وفي بعض الروايات جاء أنه كتب إليهم (إن محمدا قد نفر، فإما إليكم وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر) !
ثم أعطاه امرأة وجعل لها جُعْلا (مكافأة) على أن تبلغه قريشا.
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فأمسكا بالمرأة، وحين جاء الكتاب إلى الرسول عليه السلام، استدعى حاطبا رضي الله عنه، وقال له : “يا حاطب ما حملك على هذا؟”
فقال: “يا رسول الله … أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيَّرتُ ولا بَدَّلْتُ، ولكنني كنت امرءا ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم”!
أي أنه ليس له (عزوة) في مكة، وخاف أن يبطشوا بأهله وأبنائه.
حينها صرخ عمر بن الخطاب : “يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
يعلق الشيخ الغزالي رحمه الله على هذه القصة في كتابه الرائع “فقه السيرة” :
“وقد استكشف النبي صلى الله عليه وسلم خبيئة حاطب، فعرف أنه لم يكذبه في اعتذاره، إنهم مقبلون على معركة كبيرة قد ينهزمون فيها، فتقوم العصبيات القديمة بحماية الأقارب الشاردين، ويبقى حاطب لا حمى له، فليتخذ تلك اليد عند قريش، حيطة للمستقبل … وبهذا التقدير السمح علمنا الإسلام ألا ننسى الحسنات والفضائل لمن يخطئون حينا بعد أن أصابوا طويلا”.
هذا ما فعله صحابي من أهل بدر في يوم فتح مكة، فما بالك ببعض الذين فعلوا أقل من ذلك في عصرنا هذا؟ ودوافع ذلك كثيرة، خوفا من الإخوان، أو خوفا من العسكر، أو ظنا بأن هذا الفصيل أو ذاك يضمر الشر، أو عشرات الأعذار الأخرى.
إن المبالغة في تسفيه الآخرين، وفي تحقير رموز التيارات الأخرى، وفي سب المخالفين لنا في الرأي لمجرد أنهم اختلفوا في تقديرهم للأمور في لحظة نتج عنها ما نتج … كل ذلك ليس منهجا وطنيا، وليس خلقا إسلاميا، ويصب في نهاية الأمر في صالح عدو الجميع … في صالح استمرار النظام المستبد العميل.
قال تعالى : “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ? كَذَ?لِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى? رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”
لا تشتموا مرسي يا معشر الليبراليين، لا تشتموا البرادعي يا معشر الإسلاميين، هكذا يقول الله سبحانه، إذا شتمت كبراء خصومك فسوف يسبون كبراءك أنت، وهنا لا مجال لذكر من هو على باطل ومن هو على حق، الله سبحانه يقول ذلك : (كَذَ?لِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي أن كل إنسان يرى دينه أفضل دين، وشيوخه أفضل شيوخ، وفصيله أفضل فصيل … هكذا خلق الله الناس !
والله سبحانه خلق الدار الأخرى ليفصل فيها في أمور لن تنتهي في الحياة الدنيا، (ثُمَّ إِلَى? رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
في الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865) قتل ما يقرب من سبعمائة ألف إنسان في أربع سنوات، وفي النهاية قرر الرئيس الأمريكي العظيم “إبراهام لينكولن” أن يحتوي الولايات الجنوبية التي تمردت، وبعد أن انتهت الحرب وقسوتها بدأ بعملية دمج شاملة كاملة لهذه الولايات (برغم قلة الموارد ونضوب خزينة الدولة)، وبدأت مشاريع البنية التحتية والمواصلات التي تربط ولايات الجنوب بولايات الشمال، وبذلك تم احتواء جميع آثار الحرب الأهلية، وأصبحت أمريكا دولة قوية فتية، وبدأت مسيرتها لتصبح قوة عظمى تؤثر في العالم كله.
“إبراهام لينكولين” لم يسمح لمرارات الحرب بالسيطرة على قرار الدولة أو توجهاتها برغم دعوات الانتقام التي كانت تسيطر على غالبية الرأي العام آنذاك.
سيقول قائل إن الرسول عليه الصلاة والسلام فعل ذلك بعد أن انتصر، وكذلك “إبراهام لينكولين”، وهذا صحيح، ولكن كلاهما كان يعلم جيدا أنه لا بد من تعايش الأمة بعد انتهاء الحرب، أما الآن فنحن لا نرى أحدا يقدم رؤية للتعايش تجمع الناس، بل نرى الاستبداد يعيش على مخاوف الناس من الانتقام.
ونرى كثيرا من الناس يريدون أن يقاوموا الانقلاب ولكنهم يشعرون أن سقوطه يعني أن تنصب مشانق جديدة، وربما يكونون هم أول من يعلق عليها !
من أهم أسباب إسقاط الانقلاب هو التسامح مع الذين غيروا مواقفهم، خاصة ممن لم يشاركوا في التحريض على القتل، ولم يفوضوا في ذلك، وإذا لم نفعل ذلك فأبشروا باستمرار الظلم والاستبداد إلى الأبد !
لن يتحقق قصاص، ولن يخرج معتقل، ولن يعود طالب لمدرسته، ولن يقتص من معتد على الأعراض، ولن تعود أموال صودرت، ولن تقوم دولة قانون … إلا إذا اتحدنا جميعا.
إن من يتعنت في مطالبات غير منطقية ويزايد على الشرفاء … لو عاش في عصر الرسول لاتهمه بأنه قد فرط في وباع دم شهداء المهاجرين والأنصار.
كيف سامح الرسول عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد، وهو المتسبب في قتل عمه حمزة، وفي قتل مصعب بن عمير، والعشرات من كبار الصحابة في يوم أحد؟!
كيف قال لأهل مكة (اذهبوا فأنتم الطلقاء) وهم من كذبوه وأخرجوه وقتلوا أهله وأصحابه وأحبابه؟
لقد فعل ذلك لأن الحياة لا بد أن تستمر، ولأن تلك ضريبة التغيير.
إن من طبيعة صراع التغيير ومن صعوباته أنه يكون ضد أهلنا، وأحبابنا، نحن الآن نصارع مستعمرا (محليا)، يتحدث بلغتنا، ويستخدم أناسا لا بد أن نعيش معهم في النهاية، وأن نبدأ في تغييرهم بالتدريج (بعد نجاح الموجة الثورية القادمة).
هذا ما فعله الرسول عليه الصلاة السلام في مكة، فقبل من العرب ومن أهل مكة أسلامهم وهو يعلم أنهم ما أسلموا، وهو يعلم أن بعضهم ما زال يعبد أصنامه في بيته خفية، لذلك قال لعائشة (يا عائشة .. لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إسماعيل) !
ولهذا جعل الله سهما (للمؤلفة قلوبهم) !
وهؤلاء القوم ارتد غالبيتهم بعد وفاته عليه السلام !
وإذا افترضنا أن شخصا ما أخطأ في تقديره السياسي (في فترة حكم مرسي أو حتى بعد الانقلاب) لا ينبغي أن نقف عند نقطة الخلاف الأزلية المتعلقة بمن الذي أيد حكم العسكر، لأن جميع التيارات فعلت ذلك، ومن يقاوم المدرعة اليوم – عن حق – احتمى بها بالأمس – على باطل – في شوارع القاهرة وهي تضرب المتظاهرين المعارضين، ومن يستنكر بطش أجهزة الأمن اليوم كان يباركه حين كان في السلطة ويبرره.
خلاصة القول … أرى نظاما كخيال المآتة، بإمكاننا إسقاطه بأقل مجهود، ولكنه لن يسقط إلا بعد أن يتحد الجميع، وهو يعيش على خلافاتنا، وأجهزته الأمنية تغذي هذه الخلافات بكل الطرق.
هذه المقالة ليست دفاعا عن وثيقة، ولا عن شخص بعينه، وليست مع تيار ضد تيار، ولا مع عودة شخص أو فصيل … بل هي كلمة ينبغي أن تقال، وهي موجهة للجميع، وهي صالحة لكل زمان ومكان ما دامت فكرة الثورة والتغيير قائمة.
كما أن هذه المقالة ليست تفريطا في القصاص، بل هي تؤكد على قصاص عادل، قصاص لا انتقام
عشوائي، قصاص لا ثأر شخصي أهوج.
من أراد أن يثور لوحده فالطريق أمامه، ولكن تذكروا أن جميع محاولات التغيير دون اصطفاف فشلت، منذ عشرات السنين وحتى عام 2011 فشل الجميع، ولم يتحقق النجاح إلا باصطفاف الجميع سويا يدا واحدة.
ما زلت أسير في شوارع القاهرة … أنظر حولي لعلي أجد رجلا عاقلا يقول لي (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)!
يا معشر العقلاء من معارضي الانقلاب من سائر التيارات … دلوني على دار أبي سفيان!
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين …