بعد ثلاثة عشر يوما فقط من إعلان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أن العسكر في مصر يقوم “باستعادة الديمقراطية” أخطأتني رصاصة مرت على مسافة بضع بوصات من رأسي في نفس الوقت الذي كان الجيش يفتح نيران مدافعه باتجاه المتظاهرين السلميين في قلب القاهرة.
إلا أن الرصاصة التالية لم تخطئني في ذلك اليوم من شهر أغسطس من عام 2013، حيث أصابتني في ذراعي وحطمت عظامي، ولم يغن عني جواز سفري يومها شيئا، (أنا أحمل الجنسيتين المصرية والأمريكية)، ولم يوفر لي أي قدر من الحماية.
كان ذلك بعد دقائق قليلة فقط من تعرض مصورين صحفيين، بمن فيهم البريطاني ميك دين، للإصابة بطلقات نارية قاتلة في الرأس، فيما وصفته منظمة “هيومان رايتس واتش” بـ “اليوم الأكثر دموية في تاريخ مصر الحديث”.
لقد كنت، بالإضافة إلى الكثيرين من الصحفيين والمصورين، نستهدف بالقتل لمجرد أننا كنا نغطي ما كان يقوم به العسكر في مصر من جهود “لاستعادة الديمقراطية” من خلال الفض العنيف لاعتصام سلمي نظم للاحتجاج على الانقلاب العسكري الذي وقع في الثالث من يوليو وأطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر.
بعد مرور خمسة وعشرين يوما على تصريح كيري، قبض علي في داخل بيت عائلتي واعتقلت مع ثلاثة صحفيين آخرين.
وعلى مدى 21 شهرا أعقبت ذلك تعرضت أنا وزملائي المساجين السياسيين إلى تعذيب بدني ونفسي ممنهج كان من الشدة والتنكيل بحيث لم أفق بعد من صدمته رغم مضي خمسة شهور على إطلاق سراحي من المعتقل.
وكانت قد نظمت لنا بمجرد وصولنا “حفلات استقبال” في زنازين مكتظة بالمعتقلين، حيث اصطف الحرس والضباط في خطين متوازيين، وأجبرنا على الهرولة بينهم على امتداد المسافة وسط الصفين، على نمط رقصة سول ترين سوى أننا كنا نتلقى الترحيب من قبل ضربات تنهال علينا بالهراوات والسياط والأحزمة، ونالني من الضرب ما نالني، ونال ذراعي الذي كان ما يزال يعالج من آثار الكسر نصيبه من الضرب، على مدى ساعتين كاملتين.
بعد بضعة شهور أجريت لي عملية جراحية مرتجلة لإزالة صفيحتين معدنيتين من ذراعي. وقام بدور الجراح أحد النزلاء معي في الزنزانة، مستخدماً شفرة حلاقة وكماشات كأدوات لإجراء العملية الجراحية.
وبعد أن بدأت إضرابا مفتوحا عن الطعام احتجاجا على اعتقالي غير القانوني، وضعت تحت “الرقابة الطبية” في زنزانة للعزل الانفرادي داخل السجن الخاضع للحراسة المشددة، كدت تقريبا أموت في عشر مناسبات، وذلك بسبب الإصابة بغيبوبة ناجمة عن انخفاض حاد في مستوى السكر في الدم وبسبب الإصابة بانصمام رئوي.
ثم نقلت إلى غرفة بلا شبابيك مساحتها 2.5 متر في 3 متر، في الطرف الأقصى من السجن.
وهنا تعرضت لتعذيب نفسي شديد بسبب الحرمان من أي تواصل مع البشر، فيما عدا ضباط السجن الذين كانوا يحرضونني على الانتحار من خلال إدخال شفرات الحلاقة إلى زنزانتي وتعمد تعرية أسلاك الكهرباء داخلها، وكانوا طوال الوقت يرفعون أصواتهم بإرشادات صريحة موجهة إلي حول كيفية تحقيق ذلك المصير. كما استخدموا والدي، وكان سجينا سياسيا – وما يزال، سلاحا ضدي.
وبعد مرور 643 يوما على إعلان كيري، أطلق سراحي ورحلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ونظرا لما اكتسبته قضيتي من صيت سيء وبفضل الجهود الدولية فإن كل ما عانيته ومررت به جرى بعلم سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في القاهرة.
أما بالنسبة لما يزيد عن 40 ألف سجين سياسي، ممن لا يدري بهم أحد أو لا توجد لهم ارتباطات دولية، فلا رقيب ولا حسيب على أي مستوى من المستويات: فقد تم طرد جميع المنظمات غير الحكومية وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان إلى خارج مصر، ويتعرض الصحفيون لغرامات عالية وللسجن إذا ما نقلوا إلى الإعلام أي معلومات تشذ عما تقدمه الدولة من روايات رسمية.
بعد ثلاثين يوما على إطلاق سراحي، أعلن دافيد كاميرون إستراتيجيته لمكافحة التطرف في بريطانيا، إلا أنه أخفق في رؤية كيف سيؤدي مد السجادة الحمراء أمام الجنرال السيسي لاستقباله في واحدة من أعرق الديمقراطيات البرلمانية في العالم إلى تسعير ألسنة لهب النار ذاتها التي يقول إنه بحاجة لأن يطفئها.
أعلم علم اليقين، وبناء على تجربة شخصية مررت بها، الشعور باليأس والإحباط الذي يسود أجواء المعتقلات والسجون المصرية، وكم سمعت تقارير ساخرة صادرة عن المسؤولين المصريين تفيد بأن العالم المتقدم قد تخلى عن مثالياته وقيمه وأغمض عينيه حتى لا يرى الانتهاكات التي ترتكبها الدولة التي يهيمن عليها العسكر.
بعد واحد وستين يوما على إطلاق سراحي، التقيت بوزير الخارجية كيري وشرحت له الظروف داخل السجون المصرية، وألححت عليه بضرورة التفكير في إحداث تغيير في السياسة من شأنه أن يبطئ من التآكل الحاصل في الثقة بنموذج الديمقراطية والحرية لدى السجناء السياسيين من نشطاء الربيع العربي.
لقد قام النظام في مصر بخلق حالة من الاستقطاب داخل البلد وعمد إلى خنق الحريات وسد جميع منافذ التعبير السلمي والمعارضة السياسية وكل أشكال العمل الحر داخل المجتمع المدني ووسائل الإعلام، وتسبب في مقتل وجرح وسجن وتشريد الآلاف المؤلفة من الناس.
ولم تبق قوانين منع الاحتجاجات ومكافحة الإرهاب مجالا لأي حوار بناء داخل مصر، ناهيك عن أن تسمح بأي نوع من المعارضة أو الاختلاف.
ولا يقتصر ذلك فقط على المعسكر الإسلامي الذي يتعرض للشيطنة بشكل دائم، بل لقد وصل القمع إلى كل صوت معارض على امتداد الطيف الأيديولوجي والسياسي.
ولقد أضحت البيئة الحالية أرضاً خصبة لتنامي التطرف، وخاصة بعد أن وجد الكثيرون من شباب مصر، الذين وقع إقصاؤهم عن العملية السياسية، أنفسهم يثيرون التساؤل حول قيم الحرية والديمقراطية التي كانوا في يوم من الأيام يعتزون به ويعلقون عليها الآمال، بعد أن شاهدوا العالم الحر يلتزم الصمت تجاه ما يمارسه السيسي من قمع وبطش.
في هذه الأثناء تستمر الحكومة في تسخير كل الموارد المتاحة من أجل خنق أي معارضة سياسية بدلاً من أن تستخدمها في تنفيذ خطة ناجعة لمواجهة التطرف. لقد منحني الإضراب الذي خضته عن الطعام مجالاً إيجابياً لمقاومة الظلم والتطرف في نفس الوقت، إلا أن هذا لا ينطبق بحال على الآلاف من السجناء، رغم أنهم مايزالون يتعلقون بالأمل.
لن تؤدي زيارة السيسي إلى المملكة المتحدة إلى النيل من قيم ومبادئ العالم الحديث فقط، بل سوف تهدد أيضا أمن واقتصاد ومصالح المملكة المتحدة واللاعبين الكبار الآخرين الذين يستثمرون في مستقبل مصر.
إذا كان كاميرون لا يرغب في سحب دعوته للضيف نزولا عند المبدأ، فإن عليه أن يفعل ذلك انسجاماً مع إستراتيجية مكافحة التطرف التي جاء بها بنفسه.
المصدر: الغارديان – ترجمة عربي 21