لا تكف الألسنة حول الحديث عن تقسيم جديد للمنطقة العربية على غرار سايكس بيكو 1916، الملفت للانتباه أن الحكم على مثل هذا التقسيم يدور رحاه بالدرجة الأولى حول بلدان المشرق العربي.
أنا أتعجب كثيرًا من هذا التفكير؛ فليس هناك عوامل حقيقية دالة على أن التقسيم سيحدث وأن أوروبا اليوم تسعى إلى تفتيت الدول العربية إلى دويلات صغيرة، مع العلم أن سايكس بيكو كانت تمهيدًا لغزو فرنسي بريطاني للمنطقة بعد الثورة العربية الكبرى وخروج الدولة العثمانية من بلاد العرب.
العجيب أن هناك فارق كبير بين الظروف الإقليمية التي مرت بها سايكس بيكو والظروف التي تعيشها المنطقة اليوم؛ ففي تلك الفترة كانت تطلعات أوروبا إلى احتلال البلاد العربية من أجل تأمين خط اتصالاتها مع دول شرق أسيا التي كانت مستعمرة منها، بالإضافة إلى الاستفادة من الثروات الموجودة في الدول العربية والقضاء على الإمبراطورية العثمانية واقتسامها، كلها عوامل اجتمعت جميعًا وسعت من خلالها فرنسا وبريطانيا لعملية الغزو، مستغلة حالة الضعف لدى الجيش العثماني، فقامت بالتحضير من أجل احتلال المناطق العربية وتقسيمها إلى دويلات وأقاليم، وقد ساعد على ذلك عامل مهم وهو الجهل المنتشر والأمية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت في المجتمع بالإضافة إلى فرنسة الكثير من الكتاب والمفكرين العرب الذي درسوا في بلدانهم وساهموا في نشر صور زاهية لمستقبل البلدان العربية في حال رحيل العثمانيين من البلاد العربية.
كل هذه العوامل كانت من أهم الأسباب التي عززت تطبيق اتفاقية سايكس بيكو التي فتت البلاد العربية إلى دول وإمارات.
أما اليوم فلو نظرنا إلى العوامل السابقة التي نشأت على إثرها دول اليوم نجد أنه لا يمكن ولا بأي حال من الأحوال تكرار نفس السيناريو بنفس الصور ونفس الطريقة.
إن العقلية العربية اليوم تختلف تمامًا عن واقع العرب عام 1916؛ فانتشار الوعي والثقافة سبب رئيسي في عدم تحقق التقسيم، ومخطئ من يعتقد أن ما يدور في المنطقة من أحداث وأوضاع يعول عليها أن تكون سببًا رئيسًا في إمكانية تقسيم الوطن العربي من جديد وذلك لسبب بسيط وهو وضوح الرؤيا اليوم أكثر من السابق؛ فالصورة العامة تعطي نموذجًا مختلفًا من إمكانية تغيير جغرافية المنطقة، وفي تقديري لو تم ذلك فاﻻحتمالية الوحيدة هي ابتلاع دول من دول على أبعد تقدير.
وهناك عامل مهم جدًا يحول بين التقسيم وهو الصراع الطائفي الذي وصل إلى مرحلة الوجودية أو البقاء بين السنة والشيعة على مبدأ نكون أو لا نكون؛ فالصراع الطائفي السني الشيعي لن يكون عامل تقسيم بقدر ما سيكون عامل امتداد، ونحن نلاحظ تغلغل إيران في المنطقة في كل من العراق وسوريا اليمن ولبنان والبحرين والكويت يقابله تمدد لتنظيم داعش في كل من سوريا والعراق وليبيا في فصل جديد من فصول الصراع المذهبي بين السنة والشيعة ومحاولة كل منهما بسط نفوذه على الأرض، وهذه العوامل بنت تحالفات جديدة إقليمية ودولية تسعى إلى تقويض هذا الصراع الذي وصل ذروته، محاولة درء أي خطر قد يهدد أراضيها وكيانها المستقل.
وبالتالي لا يمكن استبعاد ازدياد دموية الحرب أكثر فأكثر وتدخل أطراف إقليمية فيها لتتشابك الأمور ويتخذ الصراع شكلاً دراميًا أكثر؛ ولهذا فإن الحديث عن أي تقسيم في ظل صراع شيعي سني لا يمكن لجمه أبدًا لا باتفاقات ولا بمؤتمرات ولا بمصالحة، يعطي فرصة لكل واحد أن يبسط نفوذه على الأرض أكثر.
وعليه فإن التقسيم بات صعبًا جدًا إلا إذا تدخلت الدول الكبرى بشكل مباشر وأرسلت قواتها على الأرض لتقوم بإنشاء معايير تقسيم جديدة للدول التي تعيش صراعًا.
وعدا كل ذلك فإن أي تقسيم فهو محض خيال لأن العبرة أُخذت من سايكس بيكو والأمة العربية ستقاوم وبشدة أي تقسيم جديد حتى لو أشتدت الأزمات، فمن الصعب الحديث عن تقسيم في ظل معركة قائمة لا يمكن معرفة متى تنتهي أو على أي الأوجه ستنتهي.