مر عقدان تقريبًا منذ أن عقد روبرت كوك، وزير الخارجية الذي كان قد استلم منصبه للتو، مؤتمره الصحفي الذي بات الآن سيء الصيت في جناح لوكامو داخل وزارة الخارجية، حينها، أعلن السيد كوك بكل اعتزاز أن حكومة طوني بلير، التي كانت لتوها قد أحرزت نصرًا انتخابيًا شهيرًا، سوف تنتهج “سياسة خارجية أخلاقية”، لا مجال بتاتًا للشك في نزاهة كوك – أو على الأقل في سذاجته.
يخبرنا التاريخ بأن هذه السياسة ذات النوايا الحسنة لقيت حتفها، حينما غرقت في المستنقع النتن لعملية غزو العراق في عام 2003.
واليوم، يعمد دافيد كاميرون إلى إنشاء مقاربته الخاصة به تجاه الشؤون الخارجية، ولكنه على النقيض مما فعله روبين كوك من قبل لم يعلن سياسته على الملأ، وذلك لأن نسخة السيد كاميرون مناقضة تمامًا للنموذج الأخلاقي الذي بشر به روبين كوك، ورغم أن رئيس الوزراء لا يقول ذلك صراحة، إلا أن بريطانيا في عهد كاميرون تسعى وراء ما كان الراحل السيد كوك سيطلق عليه مصطلح “سياسة خارجية مرتشية”.
لا يكاد يوجد طاغية متعطش للدماء، ولا دكتاتور مستبد ينكل بشعبه بكل ألوان التعذيب ويرتكب بحق أمته المجازر الجماعية، لا يتورع دافيد كاميرون عن توجيه دعوة له لزيارة بريطانيا.
دعونا نتفحص برنامج رئيس الوزراء المزدحم بالمواعيد لهذا الخريف، في وقت مبكر من هذا الشهر وصل إلى بريطانيا في زيارة رسمية رئيس الصين، وهو البلد التي ذاع صيته السيء في مجال انتهاكات حقوق الإنسان وفي مجال قمع الأقليات.
شعر معظم البريطانيين أنه كان من المخزي أن يحل زي جينبينغ ضيفًا على قصر باكنغهام بالاس، بينما يتذلل له كل من رئيس الوزراء ووزير المالية، ولكن، إذا كان ذلك مدعاة للشعور بالعار فما هو آت أشد وأبلى، بل وأخزى.
في هذا الأسبوع يصل إلى بريطانيا رئيس مصر المشير السيسي في زيارة رسمية، وتأتي هذه الزيارة بعدما يزيد قليلاً عن عامين منذ أن استولى السيسي على السلطة في مصر، من خلال انقلاب عسكري أطاح بالحكومة المنتخبة ديمقراطيًا.
منذ تلك اللحظة قتلت قوات الأمن بالرصاص ما يقرب من 1500 متظاهر، بينما وصل عدد المتظاهرين الذين اعتقلوا حتى الآن ما يقرب من واحد وأربعين ألفًا.
لقد شهدت الشهور القليلة الماضية توجهًا جديدًا مزعجًا؛ حيث بات المواطنون المصريون يتعرضون للتوقيف والاعتقال في الشوارع، وفي بعض الأوقات يختفون ولا يعثر لهم على أثر.
وبالرغم من كل الفظاعات التي يرتكبها النظام، إلا أن بريطانيا بقيت صديقة لمصر ثابتة في موقفها، قبل ما يقرب من ثلاثة شهور قام مايكل فالون، وزير الدفاع المغمور في حكومة دافيد كاميرون، بزيارة تملق إلى مصر لكي يشيد برؤية السيسي لما اعتبره “مجتمعًا أكثر ازدهارًا وأكثر ديمقراطية”.
بالفعل، ما فتئت حكومة كاميرون تخشى التسبب بأي إزعاج لنظام السيسي، لدرجة أنه لم يحدث بتاتًا أن وصف أي من وزرائها استيلاء العسكر الدموي على السلطة بأنه كان انقلابًا.
وبحسب ما تقوله منظمة “صحفيون بلا حدود” التي تحظى بالاحترام والتقدير، اعتقل في مصر خلال العام الماضي وحده 46 صحفيًا، وهو رقم يتجاوز عدد الصحفيين الذين اعتقلوا في أي بلد آخر باستثناء أوكرانيا التي لقي فيها 47 صحفيًا المصير نفسه، بعض هؤلاء الصحفيين مازالوا يقبعون داخل سجون مصر في أسوأ الظروف، لماذا بحق السماء وجهت الدعوة لهذا الرجل المتعطش للدماء لزيارة بريطانيا حيث سيحتفي به رئيس وزرائنا وسيشيد به؟
بكل المقايسس، يعتبر المشير السيسي جلادًا وطاغية يتحمل المسؤولية عن أعمال التعذيب والقتل الجماعي، يحلو لدافيد كاميرون الحديث عما يطلق عليه مصطلح “القيم البريطانية” ويخص بالذكر منها الكياسة والرفق والسماحة.
إن دعوته للسيسي تجعل مثل هذه اللغة مدعاة للسخرية، والآن نسمع تقارير تفيد بأن رئيس قازخستان، وهو كائن بهيمي متوحش يدعى نور سلطان نزرباييف، سيحل قريبًا ضيفًا على لندن، وبذلك تكتمل سلسلة الضيوف الطغاة لدى رئيس الوزراء.
بوصفي وطنيًا بريطانيًا، آمل ألا يكون ما سمعناه صحيحًا، كل ما يحتاج المرء إلى معرفته عن رئيس قازخستان هو أنه واحد من مجموعة مختارة من الجلادين والقتلة، الذين يتلقون النصح والإرشاد من وكالة الاستشارات التابعة لطوني بلير، والآخذة بالازدهار (كما أن بلير يقدم المشورة للسيسي أيضًا).
كما أن الأمير أندرو، سيء الصيت، هو الآخر صديق للرئيس نزار باييف، وبالفعل في عام 2007، اشترى زوج ابنة الرئيس منزل الزوجية الذي كان يملكه الأمير بجانب قلعة ويندسور، واسمه صانينغهيل، مقابل مبلغ ضخم يدفع على الريبة يقال إنه 15 مليون جنيه إسترليني.
أبرمت هذه الصفقة المريبة ليس بعد وقت طويل من تعرض عضو كبير في المعارضة القازخستانية وحراسه وسائقه للقتل رميًا بالرصاص، من وكالة الأمن القازخستاني حسبما يزعم.
تفيد التقارير بشيوع ممارسة التعذيب في قازخستان، وإزاء ذلك لا يملك المرء إلا أن يشعر بالتقزز كلما تذكر أن الرئيس نزار باييف قد يزور البلاد.
من باب الإنصاف بحق رئيس الوزراء البريطاني، هناك حجة براغماتية قوية لدعوة الرئيس الصيني للقيام بزيارة رسمية؛ فسواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا، برزت الصين كأكبر وأنشط اقتصاد في العالم، ولا مفر من التجارة مع الصين، أما دعوة السيسي أو نزار باييف إلى لندن فأمر مختلف تمامًا.
قبل أن يدخل إلى مقر رئاسة الحكومة في رقم 10 داونينغ ستريت، كان إدراك رئيس الوزراء لما يعتبر “الخارج” مقتصرًا على قضاء رحلة استجمام ممتعة في فلل جنوب أوروبا، منذ ذلك الحين يبدو أنه خلص إلى أنه من الأفضل له أن يتخذ قراراته بناء على المصالح التجارية، وليس بناء على أي شيء آخر.
إذا كنتم تستصعبون تصديق ذلك، فما عليكم سوى التأمل فيما جرى الأسبوع الماضي حين كشف النقاب عن أن القواعد الضابطة لسلوك الوزراء – التي ترشد أعضاء الحكومة حول معايير الأخلاق والنزاهة – قد تم تغييرها بهدوء.
قام السيد كاميرون بإزالة المادة التي تتطلب من وزرائه الالتزام إما بالقانون الدولي أو بالمعاهدات الدولية، التي توقع عليها بريطانيا من أجل إقامة العدل؛ وبذلك تكون الأخلاق قد ألقي بها من النافذة.
بالعودة إلى الماضي، يمكن القول إن محاولة روبين كوك وضع الفضيلة في قلب السياسة الخارجية باءت بالفشل الذريع.
العالم الذي نعيش فيه غاية في القبح، ولا تملك دولة ذات مصالح تجارية كبيرة عزل نفسها عن هذا العالم؛ ولذلك يمكن للبعض أن يجد ما يقوله دفاعًا عن البراغماتية التي يمارسها السيد كاميرون.
أما أنا، فأرى أنه ذهب بعيدًا في براغماتيته؛ فهو من خلال دعوته للرئيس السيسي إلى لندن يقوم بأكثر من مجرد تنظيف سمعة واحد من أبشع طغاة الأرض في زمننا هذا، أجده يحيل القيم البريطانية إلى مسخرة ويعرض البلد إلى الازدراء أمام أمم العالم.
المصدر: ديلي ميل – ترجمة: عربي 21