في نهاية أيام الحملة الانتخابية، وقبل الدخول في مرحلة الصمت الانتخابي وبروز النتائج الأولية، استطاع عدد من المحللين والمختصين في الشأن التركي الجنوح لقراءة مبدئية لما ستؤول إليه نتيجة الانتخابات التشريعية التي تمت في تركيا في جو من الشفافية والنزاهة والاحترافية، وهي قراءات لها ما يدعمها في المشهد السياسي التركي، من خلال عمق ما يتم طرحه من أفكار وحملات إعلامية ودعائية وقوة تواصلية لافتة في كل وسائل التواصل والاتصال.
النتيجة الكبرى التي حققها حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات وتقدمه الكبير على سائر قوى المعارضة وتمكنه منفردًا من تشكيل الحكومة التركية، لم تتمثل فقط بالأرقام والنتائج المعلنة بفوزه الكبير، بل بأمور أهم منها في السياسة التركية الداخلية والخارجية، ومن أهمها :
جاء هذا الاستفتاء الثاني خلال أقل من نصف سنة على شعبية الحزب شعبيًا، وتوافق الشارع مع أطروحاته وبرامجه التنموية، واستفتاء على شخصية البروفيسور أحمد داود اوغلو في قيادة الحزب والدولة، وهي استفتاء واضح وصريح على قناعة الشارع التركي بأنه لا يوجد أي حزب آخر قادر على طرح ما يطرحه حزب العدالة والتنمية، ولو كان من خلال اتحاد أحزاب المعارضة مجتمعة، لا على مستوى البرنامج الانتخابي، ولا على مستوى الحضور الدولي.
هذا الفوز إضافة لدلالات أرقام الأحزاب ونسب التصويت في الداخل والخارج التركي جاء انتصارًا فعليًا لتركيا الموحدة في مواجهة حملة شرذمتها وتقسيمها وبث الطائفية فيها من خلال التركيز على العرقية الكردية والعلوية ونحوها، وأن الشعب التركي حتى في مناطق الأكراد اختار أن يعيش موحدًا وواحدًا.
لقد شكلت هذه الانتخابات إعادة لتصويب المسار بعد انتخابات السابع من يونيو المنصرم، وهي إعلان شعبي على أن الشارع التركي اختار من يطرح له واقع الأمن والرفاهية والاستقرار والتقدم، وليس من يطلق بها الشعارات فقط.
السؤال هنا متعدد الأوجه، فهل وعت الأحزاب الخاسرة سبب صفعها مجًددا بالإرادة الشعبية وتأييدها المطلق لحزب العدالة والتنمية؟ وهل ستنكسر هيمنة القوى الخارجية على المشهد التركي بعد فشل مخالب القطط لديهم في تحقيق أهدافهم؟ وهل فهمنا نحن في العالم العربي صورة المشهد وجمالية التنافس الحر والنزيه في فضاء حرية التعبير واتخاذ القرار؟ وهل ستبقى تركيا تعتمد سياسة الصمت – أو الحراك الخجول – تجاه تدخل الغرباء فيها أم ستحسم خيارها بقوة الشعب الهادرة؟
لقد حصل حزب العدالة والتنمية على ما كان يطمح إليه من تفويض شعبي حر ومباشر وبإشراف عالمي ومحلي، فهل سينطلق في مساره الجديد وقد وعى درس السابع من يونيو؟
كلي تفاؤل بأن هذا النصر المميز والكبير والواضح لأردوغان (برغم خروجه رسميًا من المعادلة كرئيس للجمهورية) ولداود اوغلو وقيادات الحزب الإستراتيجية لتبدأ تركيا بعده مرحلة جديدة، مرحلة تسعد بها مكة والقاهرة والقدس وتونس والجزائر صنعاء ودمشق وبغداد قبل أنقرة وإسطنبول، وما لدى تركيا يؤهلها لتكون اللاعب الأقوى اليوم في الملفات الإقليمية التي تحتاج لدولة قوية مقتدرة لديها تفويضها الشعبي الحقيقي لاتخاذ القرار داخليًا وإقليميًا ودوليًا.
وإني هنا إذ أعلن عن سعادتي الشخصية بهذه النتيجة، وتفاؤلي غير الحذر بما يحمله لتركيا والمنطقة، لأتقدم بالتهنئة للشعب التركي بكل مكوناته على هذا الالتفاف وهذه العملية الشعبية الشاملة والتي استوعبت المجتمع التركي بكل مكوناته، وكان المنتصر فيها هو تركيا قبل كل اسم آخر.