خُتم مصير الشرق الأوسط بالخنادق المملوءة بالدماء بعد الحرب العالمية الأولى، فمن الجمر المستعر تحت رماد الإمبراطورية العثمانية، بزغت أحلام الحرية الوطنية ، والتي بددتها الإمبريالية الأوروبية، استبداد ما بعد الاستعمار، والاستعمار الجديد.
بعد مرور قرن كامل على ذلك الزمن، لم يتغير شيء، وتغير كل شيء، ومع أفول أحلام وكوابيس 100 سنة خلت، والتي فاضت بالوهم وخيبة الأمل، يحق لنا أن نتساءل، ما الذي يحمله القرن المقبل للمنطقة؟
محاولة التنبؤ بشيء معقد وعشوائي ويصعب سبر غوره، كمستقبل المنطقة، هو أمر متهور وطائش في أفضل وصف له، وفكرة حمقاء في خضم هذه الأوقات الصاخبة والمضطربة للغاية، ولكنني لا أنوي في هذا الموضع التنبؤ بمستقبل المنطقة من خلال التحديق بالكرة البلورية السحرية.
بدلاً من ذلك، وكالبستانيين أو المزارعين، من الضروري أن نحدد الآفة أو الأعشاب الضارة التي تخنق مجتمعاتنا، ونسلط الضوء على البذور والبراعم التي تحمل آفاق الغد الأفضل حتى نتمكن من رعايتها.
الاستيقاظ من الكابوس
في عام 2011، وبشجاعة عظيمة، وتصميم ورؤية نافذين، قرر ملايين العرب إيقاظ مجتمعاتهم من السبات الكابوسي اللامبالي، ليوجهوها قدماً نحو حلم المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والكرامة، ولكن اليوم، وبالنسبة لعشرات الملايين، تحول هذا الحلم إلى كابوس، فأبواب الجنة كانت ملغومة بباب مخفي أسقط الآمال إلى الدرك الأسفل من الجحيم.
الحديث المبكر عن “الربيع العربي” مهد الطريق أمام الانعكاسات القاتمة للشتاء العربي، فبالنظر إلى الغيوم الثقيلة والكئيبة التي تخيم بظلالها على منطقتنا، يبدو بأننا سنخوض في غمار عاصفة خطيرة مقبلة.
العراق وسورية واليمن وليبيا سقطوا جميعاً بالهاوية، في حين أن العديد من البلدان الأخرى، بما في ذلك بلدي الأم مصر، يرتعشون على حافة الهاوية، معرضين لخطر السقوط بها في أي وقت.
على الرغم من دورها الفاعل في زعزعة استقرار المنطقة من خلال وكلائها، فإن دول الخليج، باستثناء البحرين، لم تشهد حتى الآن أي اضطرابات كبيرة، ومع ذلك، فهي أشد ضعفاً بكثير مما تبدو عليه للوهلة الأولى.
ساعد على تحفيز هذا الوضع السيء في دول الخليج، تداعي الاحتياطي المالي لهذه الدول الذي كانت تسترضي من خلاله غضب الشعب الثائر، تبعاً للانهيار الهائل الذي شهدته أسعار النفط العالمية، وفي ذات الوقت، يبدو بأن الحرب في اليمن على طريق التحول لكارثة طويلة الأمد على غرار كارثة فيتنام.
مع تدخل ثلاثة دول أعضاء في مجلس الأمن عسكرياً في سورية، أصبحت القوى العالمية الكبرى عرضة اليوم لخطر ابتلاعها ضمن الثقب الأسود الهائل لمنطقة الشرق الأوسط، ولكن مع ذلك، تشعر هذه الدول بأن الوضع يستحق هذه المخاطرة الكبرى، سيّما جرّاء تنافسها لاكتساب حصة ضمن الشرق الأوسط الجديد، كما حصل تماماً في فترة الانهيار الإقليمية لما بعد سقوط الدولة العثمانية منذ قرن من الزمان.
إذا أضفنا لما تقدم الصراع السعودي- الإيراني، فضلاً عن التحالفات والعداوات قصيرة الأجل والمتغيرة باستمرار للقوى الإقليمية الأخرى، سيصبح من الواضح أن الشرق الأوسط يقف على حافة خطر غرقه التام ضمن حربه العالمية الخاصة.
الشتاء قادم
وسط هذه الكآبة والشؤم، هل هناك أي بصيص أمل يلوح في الأفق؟
في أجزاء كثيرة من الشرق الأوسط، فصل الشتاء هو في الواقع فترة خصبة، حيث تحصل فيه أخيراً النباتات العطشى والتي جفت إثر قيظ حرارة الشمس الحارقة على القوت الذي تحتاجه للنمو، والتربة الاجتماعية والسياسية في المنطقة تُظهر علامات هذا النوع من النمو في فصل الشتاء.
الكثير أخطأ في قراءة الوضع الحالي لمنطقة الشرق الأوسط على أنه علامة على ظهور إحدى الثنائيتين، القوة السلطوية الاستبدادية التي لا تقهر، أو الإرهاب المستبد الأصولي الديني.
ولكن بدلاً من ذلك، فإن العنف الشديد الذي نشهده هو علامة دامية على احتضار ثلاثة أشكال من الاستبداد تسود المنطقة منذ فترة طويلة، احتضار الدولة الاستبدادية العربية، الديماغوجية الإسلامية، والهيمنة الأجنبية، وتمخض هذه الوفيات عن ولادة شرق أوسط أفضل هو أمر يعتمد على ما إذا كان سيتم رعاية بذور التغيير التي تظهر براعمها حالياً للوصول بها لمرحلة الإزهار التام.
الأنظمة العربية والتنظيمات الإسلامية يخشون على حد سواء من التفكير الحر والتعبير عنه، لأنه سلاح يمكن التعويل عليه للعصيان الشامل، ولكن القمع الوحشي والقتل الممنهج لم يستطيعا فعل أي شيء يذكر لوقف انتشار “سلاح الدمار الشامل” هذا.
وفي النهاية، لا يمكن لأي قدر من البطش الإجرامي الممارس من قِبل الأنظمة أو التنظيمات الإسلامية أن يجبر العرب على التخلي عن عطشهم للمعرفة وجوعهم للتعبير عن أفكارهم.
على الرغم من ظهور الأمور على العكس ذلك، إلا أن الأرضية الأخرى التي تحولت بشكل كبير تتمثل بالدين؛ ففشل شعار “الإسلام هو الحل”، بالتلازم مع بلطجة الأصوليين، أقنع الملايين من العرب بأن العلاقة بين الدين والسياسة يجب أن تتغير.
صعود الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والاستغلال السياسي للدين من قِبل العديد من الأنظمة، وخاصة في دول الملكيات المطلقة، أظهرت الحاجة الملحة للعلمنة، وإذا لم يتحرك الدين إلى مناطقه التي يستحقها – الفردية والروحية – في المستقبل القريب، فلن يكون هناك مكان أنسب لصب جحيم الغضب من المنطقة التي يزدهر فيها التعصب والمتعصبين.
انعدام التساوي ما بين الجنسين هو مجال آخر تضرم فيه ثورة خفية تحت سطح القشرة الواهية التي تغطيه، ففي العديد من البلدان، اكتفت النساء من إرغامهن على الانتظار لتحصيل حقوقهن، وأصبح الجو مواتياً لقيام الثورة، خاصة في ظل دعم حملة التساوي من قِبل الكثير من الحلفاء الذكور.
ولكن حتى تزهر هذه البراعم وتزدهر، لا بد لعصر النفط، الذي تعاظمت نقمته على نعمه، أن يصل إلى نهايته.
عندها فقط، ربما سيضحي لدى شعوب الشرق الأوسط متنفساً كافياً لكسر النير المشترك الذي فرضته عليهم الديكتاتورية المحلية والهيمنة الأجنبية، ولبناء منطقة لا حدود من الرخاء والعدالة.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية