الصورة الكاملة لفوز العدالة والتنمية بالانتخابات التركية

بينما تتوالى أصداء انتصار العدالة والتنمية في انتخابات أول أمس، ويسعى الكثيرون جاهدين لفهم التحول في مزاج الناخبين في تركيا خلال ستة أشهر فقط، سيكون مفيدًا أن نلقي نظرة على النتائج بالتفصيل لفهم توجهات الناخبين في كل من المدن الكبيرة، والمناطق الكردية، والولايات الجنوبية الساحلية، وولايات قلب الأناضول، إذ سيساعدنا ذلك على رسم خريطة لفوز العدالة والتنمية بدقة، من حيث الولايات التي ارتفع فيها بشكل أكبر، وسيساعدنا أيضًا على رسم ملامح الخسائر التي عاناها كل من حزب الحركة القومية التركي، والذي تلقى الهزيمة الأكبر، وحزب الشعوب الديمقراطي الذي خسر أيضًا ولكن حافظ على إنجازه الأهم الذي حققه في يونيو وهو دخول البرلمان.
نتائج الانتخابات البرلمانية التركية بحسب الحزب الأكثر حصولًا على الأصوات في كل ولاية: العدالة والتنمية بالأصفر، والشعب الجمهوري بالأحمر، والشعوب الديمقراطي بالبنفسجي
لنأخذ أولًا نظرة عامة على مستوى تركيا كلها، والتي شارك فيها 85.3% في ارتفاع عن انتخابات يونيو التي شارك فيها 83.9%، وهي زيادة طفيفة في نسبة التصويت بيد أنها انعكست في زيادة ملحوظة بأعداد الناخبين، أولًا لأن المواطنين المقيّدين في قوائم الانتخابات زادوا بحوالي 400 ألف مواطن، كما أن نسبة الأصوات الصحيحة أعلى هذه المرة عنها في يونيو، فهناك الآن 47.8 مليون صوت صحيح من أصل 48.5 مليون تم الإدلاء بها، من أصل حوالي 57 مليون ناخب مقيّد، بينما في يونيو كان هناك 46.1 مليون صوت صحيح من أصل 47.5 مليون تم الإدلاء بها، من أصل 56.6 مليون ناخب مقيّد، وهو ما يعني ازدياد أعداد المصوتين بحوالي مليونين، أو مشاركة مليون ونصف لم يشاركوا في يونيو إن حذفنا المقيّدين الجدد.
النتيجة النهائية من بين تلك الأصوات كانت حصول العدالة والتنمية على 23.66 مليون صوت، من 18.86 في يونيو، ليزيد بحوالي 4.8 مليون صوت، وحصول الشعب الجمهوري العلماني على 12.1 مليون صوت، من 11.5 في يونيو، ليزيد بحوالي 600 ألف، وهبوط حزب الشعوب الديمقراطي الكردي من 6 ملايين في يونيو لـ5.1 ملايين ليفقد 900 ألف، وهبوط حزب الحركة القومية التركي من 7.5 لـ5.7، ليفقد 1.8 مليون ويصبح الخاسر الأكبر.
إسطنبول وأنقرة وإزمير
هي المدن الثلاث الأكبر في تركيا والتي تمثل حوالي 30% من كتلتها التصويتية، وقد شهدت المدن الثلاث، وبخاصة إسطنبول، ازديادًا في أعداد المصوتين فيها عن يونيو الماضي، ذهبت لكل من العدالة والتنمية والشعب الجمهوري العلماني، خاصة في إسطنبول، في حين شهدت نفس المدن تراجعًا قويًا لحزب الحركة القومية، وتراجعًا أقل لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي، غير أن تراجع كل منهما، كما سنوضّح، لا يكفي لشرح صعود الحزبين الكبيرين.
نتائج منطقة إسطنبول 1: صعود قوي لحزب العدالة (أصفر) وتقدم جيد لحزب الشعب (أحمر) لا يكفيهما هبوط طفيف في أصوات الشعوب (بنفسجي) والحركة القومية التركي (أزرق)
شهدت إسطنبول في المُجمَل، بتقسيماتها الرئيسية الثلاث، زيادة أعداد المصوتين بحوالي مليونين، من سبعة ملايين مصوت في يونيو لتسعة ملايين في نوفمبر، وهي زيادة تشير لنزول عدد كبير ممن لم يشارك في المرة السابقة، وقد توزعت الزيادة بالتساوي تقريبًا على كل من حزب العدالة والتنمية، والذي رفع رصيده من 3.5 مليون إلى 4.5 مليون، وحزب الشعب الجمهوري العلماني الذي رفع رصيده أيضًا من 1.7 مليون إلى 2.8 مليون، آخذين في الاعتبار أن الحزب القومي التركي فقد حوالي 150 ألف، وبينما فقد الكردي 120 ألف صوت، أي 270 ألف صوت بأقصى تقدير، مما يعني أن تحوّل هؤلاء الناخبين إلى الحزبين الكبيرين لم يكن السبب الرئيسي في فوز العدالة والتنمية أو العلمانيين، بل حشدهم لأصوات جديدة.
بالنسبة للعاصمة أنقرة، والمنقسمة لمنطقتين انتخابيتين كبيرتين، فقد شهدت أيضًا ارتفاعًا في أعداد المصوتين بحوالي 250 ألفًا، وقد ارتفعت فيها أصوات العدالة والتنمية بـ300 ألف، بينما ارتفع العلمانيون بـ80 ألفًا، في حين خسر القوميون حوالي 90 ألفًا، وحزب الأكراد 30 ألفًا، ومرة أخرى فإن ما خسره الحزبان الصغيران لا يفسر أبدًا صعود العدالة والتنمية الكبير، والذي يليه أصلًا صعود آخر في أصوات العلمانيين، فحتى إن افترضنا أن أصوات العلمانيين كلها جديدة، في حين ذهبت أصوات الحزبين الخاسرين للعدالة والتنمية (حوالي 120 ألفًا،) فإن العدالة والتنمية يظل فائزًا بما لا يقل عن نصف الأصوات الجديدة، ومستفيدًا بالتالي من الحشد أكثر منه بخسائر الآخرين.
الأصوات في إزمير 2: العدالة يهبط بحوالي مائة ألف من 2011 إلى يونيو 2015 (حزيران)، وهي أصوات يذهب نصفها للقوميين بينما يرتفع الشعوب مع العلمانيين، ليعود العدالة بأصوات أكثر في نوفمبر 2015 ولكن لا يصل لنفس مستوى 2011، مما يعني استعادته لأصوات المحافظين الذين ذهبوا للقوميين، ولكن ليس لبعض الأكراد ممن صوتوا له في 2011، والذين اتجهوا على الأرجح للعلمانيين كما يشير ارتفاع رصيدهم بشكل ملحوظ
في إزمير، المطلة على بحر إيجة والمنقسمة لمنطقتين انتخابيتين كبيرتين، وهي واحدة من معاقل العلمانيين التقليدية، خرج حزب الشعب الجمهوري فائزًا كعادته بل وزاد رصيده بـ60 ألف صوت، غير أن العدالة والتنمية، والذي حل ثانيًا، قد رفع أصواته بـ150 ألفًا، بينما خسر القوميون 50 ألفًا، والأكراد حوالي 35 ألفًا، لتؤكد النتائج مرة أخرى أن خسائر الحزبين ليست كافية لشرح صعود العدالة والتنمية، خاصة بالنظر لزيادة أعداد المصوتين في المدينة بحوالي مائة ألف صوت، والتي ذهب معظمها على الأرجح للعدالة والتنمية، مع غالبية أصوات القوميين ممن كانت أصلًا جزءًا من قاعدته الانتخابية في 2011 قبل أن تتجه للقوميين في يونيو الماضي، في حين يبدو أن غالبية الأكراد ممن تركوا حزب الشعوب قد اختاروا حزب الشعب، كما يشير الرسم البياني أعلاه لانتخابات المنطقة الثانية في إزمير.
الولايات الكردية
الولايات الكردية هي الأخرى شهدت تحولات انتخابية كبيرة عن يونيو، حيث خسر فيها حزب الشعوب الديمقراطي الكثير من الأصوات والمقاعد، وهي أصوات اتجه معظمها لحزب العدالة والتنمية كما تشي النتائج، بيد أن بعضها اتجه للامتناع عن التصويت بالكلية كما يشي بذلك هبوط الأعداد الكلية للمصوتين في بعض المدن بالجنوب الشرقي، في حين يبدو أن أصوات العدالة والتنمية في بعضها الآخر كانت مجددًا تعتمد على الحشد، وليس بالضرورة خسارة الحزب الكردي.
لنأخذ المدينة الأكبر وهي دياربكر، حيث فقد حزب الشعوب 60 ألفًا من ناخبيه، بينما رفع العدالة والتنمية رصيده بنفس الرقم، ورفع العلمانيون أيضًا رصيدهم بحوالي خمسة آلاف، مما يشير تقريبًا لاتجاه قطاع كبير من الأكراد للعدالة والتنمية مجددًا، أما في مدينة أورفا فقد خسر الشعوب 65 ألفًا، وخسر القوميون 20 ألفًا، والعلمانيون أيضًا حوالي عشرة آلاف، بينما قفز حزب العدالة بـ165 ألفًا، في إشارة واضحة لحشد ما يقل عن نصف ناخبيه من قطاعات جديدة، وهي تحولات يجدر التذكير أنها لم تؤثر على أسبقية حزب الشعوب الحاصل على المركز الأول في دياربكر والعدد الأكبر من المقاعد، غير أنها قللت المسافة بينه وبين العدالة الذي خسر بشكل أكبر في يونيو واستعاد بعض المقاعد هذه المرة.
ولاية سيرت بالجنوب الشرقي شهدت انتقال 12 ألف صوت من الشعوب الكردي للعدالة والتنمية، في إشارة على توجه بعض الأكراد للحزب الحاكم من جديد
الظاهرة البارزة أيضًا، وإن لم تكن غالبة بأعداد كبيرة، كانت هبوط نسبة المصوتين في أكثر من ولاية ذات أغلبية كردية، في إشارة لعزوف البعض عن المشاركة الانتخابية بعد أن كان الحشد هو السبب الرئيسي في فوز حزب الشعوب في يونيو، وهو ربما يشير لنا لعدم رضا قطاع من الأكراد عن أي من الأحزاب الموجودة، على سبيل المثال شهدت ولاية وان الشرقية خسارة حزب الشعوب لـ57 ألفًا، بينما تقدم العدالة بـ48 ألفًا فقط، في حين خسر القوميون ثمانية آلاف وتقدم العلمانيون بمليونين ونصف، وإن اعتبرنا أن أصوات القوميين اتجهت للعدالة كما هو متوقع، فإن ما أخذه من الشعوب الكردي يكون 40 ألفًا فقط، مما يعني ما لا يقل عن 15 ألف صوت كردي غائب هذه المرة.
ولايات حقاري، المتاخمة للعراق، وبيتليس وموش وتونجلي (درسيم) وقارس وأغري شهدت هي الأخرى هبوط أعداد المصوتين الكلية ببضعة آلاف، كانت كلها بشكل واضح من الشريحة الكردية، فولاية أغري هبط فيها الشعوب بـ40 ألفًا بينما تقدم العدالة بـ20 فقط، مما يشير لعزوف 20 ألف كردي عن التصويت، وكذلك ولاية حقاري هبطت فيها أصوات الشعوب، رُغم فوزه بمقاعدها الثلاثة، بتسعة آلاف، بينما ارتفع العدالة بخمسة آلاف مع الأخذ في الاعتبار خسارة القوميين لألف وخمسائة، مما يعني أن العدالة أخذ من الأكراد ثلاثة آلاف ونصف، وبالتبعية فإن ما لا يقل عن أربعة آلاف كردي قد عزفوا عن التصويت في حقاري.
التصويت في ولاية وان يُظهر هبوط عدد المصوتين الكلي بحوالي 15 ألفًا في إشارة لعزوف بعض الأكراد، فحزب الشعوب هنا فقد حوالي 57 ألف صوت بينما حصل العدالة على 48 ألفًا منها ثمانية من القوميين
يتكرر الأمر في ولاية شرناق المجاورة لحقاري، إذ هبط عدد المصوتين بحوالي ألفين، رُغم احتفاظ حزب الشعوب بكافة المقاعد، فقد هبطت أصواته بخمسة آلاف بينما استعاد العدالة ستة آلاف، مع ملاحظة أن القوميين خسروا ثلاثة آلاف، وهو ما يعني حصول العدالة على ثلاثة آلاف صوت كردي جديد وعزوف ألفين منهم، وفي مدينة موش أيضًا انخفض تعداد المصوتين الكلي بحوالي عشرة آلاف، بخسارة الشعوب لـ25 ألفًا وتقدم العدالة بـ15 ألفًا فقط، رُغم بقاء توزيع المقاعد كما هو بمقعدين للشعوب ومقعد للعدالة.
أخيرًا، وكلما اتجهنا بعيدًا عن تركّز التعداد الكردي في شرق وجنوب الأناضول، سنجد الولايات المتاخمة لها، والتي تضم أتراكًا كُثُر، قد شهدت هبوطًا في أصوات حزب الشعوب، مع تقدم كبير لحزب العدالة لا يفسره فقط الحصول على أصوات الأكراد من مؤيدي الشعوب سابقًا، كما هي الحالة في مدينة ماردين، والتي هبطت فيها أصوات الشعوب بـ18 ألفًا، بينما قفز العدالة بـ40 ألفًا، وكذلك مدينة عنتاب، أو غازي عنتاب، والتي خسر فيها القوميون حوالي 60 ألفًا والشعوب حوالي 40 ألفًا، بينما تقدم العدالة أكثر من 150 ألفًا دفعة واحدة.
***
في قلب الأناضول تكرر نمطان بشكل عام، الأول هو انتقال مجموعة مصوتين من القوميين للعدالة والتنمية في إشارة لاستعادة الحزب الحاكم لمن خسرهم في يونيو، والنمط الثاني هو تفوق العدالة بفارق كبير يفوق حتى الأصوات التي أخذها من القوميين، كما حدث في قونيا حيث هبط القوميون بحوالي 40 ألفًا بينما قفز العدالة بـ140، وأرضروم التي فقد فيها القوميون حوالي 35 ألفًا بينما قفز العدالة 65 ألفًا مع خسارة الشعوب لـ12 ألفًا.
أيضًا، تجدر الإشارة إلى أن حزب السعادة، والذي حل خامسًا بـ2% وحوالي مليون صوت في يونيو الماضي، ودون تجاوز عتبة الـ10% بالتبعية، قد حصل هذه المرة على 300 ألف صوت فقط تقريبًا، وهو ما يعني أن جزءًا من قواعد الإسلاميين المحافظين أو التقليديين (700 ألف) ذهب إلى العدالة والتنمية، وهو تفسير ولو جزئي لتقدم الحزب القوي، والذي كما قلنا لا تفسره فقط أصوات الأكراد التي انتقلت له بشكل نسبي في الجنوب والشرق، ولا أصوات القوميين التي انتقلت له بقوة في قلب الأناضول والمدن الكبرى.
الآن نعرف كيف فاز العدالة والتنمية، ولكن السؤال الآن هو لماذا؟ لماذا عدل الناخبون في تركيا فجأة عن الاستقطاب التركي – الكردي واختاروا الوسط الإسلامي والعلماني معًا؟ لماذا قفز العدالة والتنمية بأكثر من أربعة ملايين صوت في ستة أشهر فقط؟ للحديث بقية.