في خضم الحرب الباردة وأثناء أتون الحرب الفيتنامية ضد الغزو الأمريكي ،وجدت كمبوديا (المجاورة لفيتنام) نفسها مسرحا للصراع الدولي بين القوى العظمى واتخذ حاكمها في ذلك الحين” نورودوم سيهانوك “موقفا اعتبرته الولايات المتحدة انحيازا لخصومها في الكتلة الشيوعية وكان أن دفعت الجنرال” لون نول” إلى الانقلاب على النظام الملكي وإعلان جمهورية موالية للغرب وهو الأمر الذي دفع الصين والكتلة الشيوعية عموما إلى دعم القوى المتمردة في البلاد وعلى رأسها الخمير الحمر.
ولفظ الخمير يطلق على العرقية الأكبر في البلاد مع وجود عرقيات أخرى اقل حجما ( مثل “التشام” وهم مسلمون ) ، أما مصطلح الخمير الحمر فهو يعبر عن تحالف لقوى ماركسية تنتهج العنف الثوري طريقا لتنفيذ تصوراتها الإيديولوجية المغلقة ( وهي رؤى تستند في مجملها إلى أفكار ماو تسي تونغ ) حيث اندلعت المواجهات بين القوى الثورية الشيوعية وقوات الجنرال “لون نول” وقد قامت الولايات المتحدة بقصف مناطق كمبودية مختلفة دعما لحلفائها الأمر الذي انعكس على ازدياد شعبية الخمير الحمر وتعاطف قطاع واسع من السكان معهم.
استولى الخمير الحمر على العاصمة بنوم بنه سنة 1975 وقام النظام الجديد بقيادة “بول بوت” بتغيير اسم البلاد إلى ” جمهورية كمبوتشيا الديمقراطية ” ولتبدأ بعدها المذابح المروعة في أحد أكثر المشاهد إجراما ووحشية التي عرفتها الإنسانية ، مذابح سوف تفضي إلى إفناء ما يفوق ربع الشعب الكمبودي حينها دفنوا في ما سيعرف لاحقا بحقول القتل.
بدأت ما يعرف باللحظة الصفر يوم 17 أفريل / نيسان 1975 حيث تم خداع الناس بضرورة إخلاء المدن بدعوى أن ثمة ضربة أمريكية قادمة وبعدها لم يعد احد من السكان إلى بيته ،فقد تم اخذ الجميع إلى المزارع الجماعية وتحت رقابة مشددة من مجموعات الخمير الحمر وانطلقت حملة تصفيات رهيبة ضد كل من اعتبره النظام الشيوعي المغلق أعداء محتملين حيث تم تحويل المدارس إلى معتقلات ومن أشهرها ” تيول سلينج ” حيث اشرف القيادي الشيوعي ” كاينج جيك ” على قتل وسحل الآلاف دون رحمة ويصف الصحفي البريطاني “جون بيلجر” المشهد قائلا ” مشيت في طريق ضيق طويل موحل، خالي من أي حركة اللهم إلا حركة عصافير السويفت صغيرة الحجم صعودا وهبوطا حتى تكاد تلمس أرضيته، ينتهي الطريق ببناء كان سابقا مدرسة ابتدائية تسمى ’تيول سلينج‘. كانت المدرسة تدار أثناء سنوات بول بوت بواسطة جهاز من نوعية الجستابو، اسمه “أس 21″، كان يقسم قاعات الدراسة إلى “وحدة تعذيب” و”وحدة استجواب”.
صادفت بقع من الدم وخصلات شعر لا تزال على الأرضيات، حيث كانت تشوه أجساد الناس على السرر الحديدية. مات في هذا المكان نحو 17 ألف شخص نوعا من الموت البطيء: وهي حقيقة ليس من الصعب إثباتها لان القتلة اخذوا صورا فوتوغرافية لضحاياهم قبل وبعد التعذيب ثم قتلوهم في قبور جماعية على حواف المدينة. كانوا يسجلون أسماءهم وأعمارهم، وكذلك الأوزان والأطوال. احد الغرف امتلأت حتى السقف بملابس الضحايا وأحذيتهم، ومنها ما كان يخص أطفال عديدين.”
ويتحدث المخرج الكمبودي” ريثي بان” عن معايشته لتلك الفترة قائلا ” هناك لا يوجد أشخاص، ولا أسماء، هناك لكلّ منا رقم… كلّنا نرتدي اللون الأسود… لا يحق لنا امتلاك أي شيء سوى ملعقة للأكل. كيف يمكن لشعب أن يثور إذا كان كل ما يمتلكه ملعقة؟.هناك، الكتب حُرقت، المعرفة مُنعت. فقط جنود “الخمير الحمر” يحقّ لهم امتلاك قلمٍ إذ إنّه رمز اختلافهم عنا، في تلك المعسكرات، ليس هناك إنسان، بل يد عاملة منتجة “.
فبمجرد الاستيلاء على العاصمة الكمبودية صدرت أوامر صارمة بإخلاء المدينة، وطرد سكانها إلي المناطق الريفية، وتم اغتيال المثقفين والمهنيين تحت شعار الانتقام الطبقي. هذا الإجراء الإجرامي كان ثمرة نظرية شيوعية كانت ترى بأن المناطق الريفية وحدها هي التي يتحقق فيها الفردوس المنشود، وأن الفلاحين هم المنوط بهم إنجازه، ولذلك عليهم أن يفلحوا الأرض منذ شروق الشمس حتى غروبها.ومن لا يقدر على هذا العمل اليومي الشاق يتعين تصفيته. واللافت للانتباه أن “بول بوت “وعصابته، وفي مقدمتهم الرجل الثاني “نون تشيا”، أيديولوجي نظام الرعب والقتل الجماعي، كانوا يمارسون جرائمهم ضد الإنسانية من وراء ستار كثيف.
فالأوامر كانت تصدر باسم ما أطلقوا عليه «المنظمة». ويشير مؤرخون إلى أن “بول بوت” لم يفصح عن أنه الرجل الأول إلا في سبتمبر/أيلول 1977 عندما ألقى لأول مرة خطابا جماهيريا زعم فيه أنه خلص البلاد من ألفي عام من اليأس. لقد كان منطلق الخمير الحمر الإيديولوجي هو تطهير البلاد من كل ما يمت بصلة للغرب والعودة إلى النقاء الوطني وهو أمر يعني عند هؤلاء منع كل وسائل الثقافة حيث تم إغلاق أي وسيلة إعلامية وحظر الاستماع إلى الإذاعات الأجنبية تحت طائلة الإعدام بل كان مجرد إتقان لغة غير اللغة الوطنية سببا كافيا لقتل صاحبه ، فقد ارتكب شيوعيي الخمير الحمر المجازر ضد الفنانين والكتاب والمعلمين وغيرهم بل وصل الأمر بهم لقتل بعض الأشخاص فقط لأنهم يرتدون النظارات لإرتباطها المفترض بالمعرفة والثقافة .ولم تكن الأقلية المسلمة بمعزل عن جرائم النظام الشيوعي حيث تعرض المسلمون لعملية استئصال منهجية وهو ما يؤكده محضر اتهام ضد أربعة قياديين سابقين في النظام الماركسي ما زالوا أحياء وتحاكمهم المحكمة الدولية في بنوم بنه أن المسلمين «كانوا يستهدفون ويقتلون منهجيا»، وخلال حقبة الاستهداف «حاول الناس إيجاد مكان للصلاة خلسة بشتى الوسائل. أحيانا أثناء قيادتهم العربات وأحيانا في الأدغال»، إلا أن الأكثر بشاعة كان «الاختفاء القسري» حيث قتل كثيرون. ولا أحد يعرف على وجه الدقة كم كان عدد المسلمين، الذين راحوا ضحايا هذه الجريمة، لكن مركز التوثيق يقدر عدد القتلى بما بين 100ألف و500 ألف من أصل 700 ألف مسلم.
لقد كانت مشاهد القتل والسحل والتعذيب والاعتقال المريعة شهادة على ما يمكن أن تصل إليه العقول المنغلقة التي تعتقد بامتلاكها للحقيقة من درجة من الوحشية والانحطاط إلى أسفل مدارك الحيوانية.
لقد وصلت تلك الحقبة المظلمة من تاريخ كمبوديا إلى نهايتها سنة 1979 بعد التدخل الفيتنامي ( في إطار الصراع السوفياتي الصيني وليس رحمة بالشعب ) ولتكشف التحقيقات اللاحقة بعد عقود عن مقتل ما يتراوح بين مليون 700 ألف وثلاثة ملايين كمبودي لم تبق سوى ذكراهم المؤلمة وبقايا جماجمهم التي يحتفظ بها إلى اليوم في متحف يشهد على تلك الحقبة السوداء.