بعد أكثر من شهر على بدء التدخل الجوي الروسي لنجدة الرئيس السوري بشار الأسد وإنقاذ نظامه من الانهيار، إثر الضربات الموجعة والمتتالية التي تلقاها جيشه المدعوم من الميليشيات الشيعية وقوات حزب الله والحرس الثوري الإيراني في عدة مدن سورية، ظهر زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في تسجيل صوتي جديد يطرح أكثر من تساؤل عن توقيته المتأخر نسبيًا وعن الجديد فيه.
فقد دعا الظواهري في خطابه الأخير الجماعات الجهادية في سوريا إلى الوحدة ونبذ الخلافات الواقعة بينهم للوقوف صفًا واحدًا أمام التدخل الروسي الذي يستهدفهم بالأساس غير مفرق بين “قاعديّ” و”جهاديّ” و”داعشيّ”.
ليست المرة الأولى التي يدعو فيها زعيم تنظيم القاعدة الجماعات المسلحة إلى نبذ الخلاف والاتحاد في مواجهة النظام والتحالفات الدولية التي تهدف إلى القضاء على الجهاديين اللذين توجهوا من كل حدب وصوب نحو سوريا، لتشكيل نواتهم الجهادية الصلبة بعد تحريرها من “النظام النصيري” ثم الانطلاق في تنفيذ أجنداتهم الخاصة والتي ترتكز أساسًا على التمدد الفعلي نحو الدول المحيطة بها “دول الطوق” لتدمير أنظمتها وجيوشها ثم تحرير فلسطين.
لكن ورغم خطاباته ورسالاته المتعاقبة، لم يعد أيمن الظواهري الذي وصفه البغدادي والعدناني قبل القطيعة معه بـ”حكيم الأمة” يتكلُّم فيُسمع في سوريا، حتى أن سلسلته الأخيرة والتي حملت عنوان “الربيع الإسلامي” والتي صدر منها إلى الآن ست حلقات لم تلق صدى إعلاميا كبيرًا فضلًا عن الساحة الجهادية رغم ما جاء فيها من معلومات هامة فيما يخص المراسلات السرية بينه وبين عدد من قيادات القاعدة ومن بينهم البغدادي حسب ادعاء الظواهري، بل أن القتل والقتال تواصل بين الفصائل المتناحرة فيما بينها كما واصل تنظيم الدولة سياسته بتحرير المحرر كما يتهمه خصومه فارضًا قوانينه الخاصة على سكان المناطق التي يسيطر عليها وقاطعًا خطط إمداد الفصائل المقاتلة والنظام السوري في نفس الوقت.
لقد كانت سلسلة الربيع الإسلامي التي ظهر فيها زعيم تنظيم القاعدة متحدثًا عن واقع “الأمة” وواقع الساحة الجهادية في العالم التي أفسدها تنظيم الدولة حسب قوله محاولة لنزع صفة “أمير المؤمنين” من أبي بكر البغدادي لعدم توفر الصفات الشرعية المطلوبة فيه، مستشهدًا بالنصوص الشرعية والوقائع التاريخية وأقوال الفقهاء لسحب صفة الخلافة والخليفة عن تنظيم “الدولة الإسلامية” وخليفته.
ما من شك أن الظواهري الذي يطالعنا بين الأشهر والأشهر بتسجيل جديد في موقف لا يحسد عليه، فقد السيطرة على الساحة الجهادية والجهاديين عمومًا، بالإضافة إلى سحب تنظيم الدولة البساط من تنظيم القاعدة على كل المستويات أبرزها أنه أصبح قبلة الجهاديين من كل أنحاء العالم العالم، فوفقًا لتقرير أعدته لجنة مجلس الأمن في الأمم المتحدة وصل عدد المقاتلين الأجانب الذين توجهوا للقتال مع الجماعات الجهادية في سوريا والعراق ودول أخرى، إلى 25 ألف مقاتل، ينتمون إلى أكثر من 100 دولة والتحق غالبيتهم بتنظيم الدولة، بل أن زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي لم يكن يخطر بباله أثناء تقهقر “دولة العراق الإسلامية” إلى صحاري محافظة الأنبار أنه سيصبح يومًا من الأيام زعيم أكبر وأخطر تنظيم جهادي في العالم تصل ثروته الإجمالية إلى أكثر من ملياري دولار، حسب دراسة للمركز الفرنسي لتحليل الإرهاب نشرتها مجلة “شالنجز” الفرنسية.
نعلم جيدًا أن تأخر ظهور مواد صوتية أو مرئية تتعلق بزعيم القاعدة ترجع بالأساس إلى أن عملية تسجيل فيديو أو رسالة صوتية ثم إنزالها على مواقع النت من قِبل مؤسسة السحاب الجناح الإعلامي للقاعدة يمر حتمًا بإجراءات أمنية وعمليات تمويه وحماية وتسليم واستلام معقدة جدًا، فالرجل يعتبر المطلوب الأول للولايات المتحدة الأمريكية وأي خطأ قد يؤدي إلى اعتقاله أو اغتياله، كما أن الظواهري يظهر مليًا أنه لا يمتلك تلفازًا ولا مذياعًا ولا حاسوبًا ليتابع لحظة بلحظة كل ما يحدث في جبهات القتال المشتعلة والتي يشارك فيها جنوده، بل أن معظم المعلومات التي تصله ما هي إلا مراسلات من قبل “الثقاة” اللذين ينقلونها يدًا بيد، رسائل كانت أو صوتيات أو فيديوهات وهو ما يفسر أسباب تأخر ظهور زعيم القاعدة ليتحدث عن الأحداث الكبرى.
هذه الأسباب وغيرها جعلت من التواصل بين القيادة المركزية للقاعدة وفروعها متأخرًا مقارنة بتنظيم الدولة الإسلامية الذي تتواجد قياداته وزعيمه إما في العراق أو في سوريا؛ ما يسهل عملية الاتصال بين القيادات العليا والوسطى وصولاً إلى المقاتلين على الجبهات؛ ما ساعد التنظيم على سرعة اتخاذ القرار وعدم تفككه على الأرض في كل من الدولتين، ومواصلة عمليات تجنيد مقاتلين آخرين رغم الإجراءت الأمنية الصارمة المفروضة على الحدود المحيطة بمناطق نفوذه.
إن توحد كل الجماعات الجهادية في سوريا في جيش موحد تحت قيادة واحدة أمر مستحيل في الوقت الراهن، ولا نعني بتوحد الجهاديين هنا دخول تنظيم الدولة في هذه الفرضية، بل يمكننا الجزم بأن تنظيم “الدولة الإسلامية” لن يكون في يوم من الأيام في المستقبل القريب منضويًا تحت أي جماعة أو أي جيش ما يعني أن يكون محكومًا لا حاكمًا، وليس هذا رجمًا بالغيب بقدر ما هي حقيقة يدركها كل متابع لتصريحات قادته التي يرددونها في كل فرصة سانحة بذلك، خاصة بعد أن ابتكر التنظيم معادلته الخاصة والتي مفادها أنه لا يمكن لدولة أن تبايع أو أن تكون منضوية تحت تنظيم، وقد أعلنها ناطقه الرسمي أبو محمد العدناني صراحة أثناء رده على زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في كلمته “ما كان هذا منهجُنا ولن يكون” بتاريخ 17 من شهر أبريل 2014 عندما قال”وخرجَ المجاهدون من ضِيْقِ التنظيماتِ إلى سَعَةِ الدّولة، وأعلنَ أميرُ الدولةِ والوزيرُ المُهاجرُ حَلَّ تنظيمِ قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين وإلى غيرِ رجعة”.
لقد أصبح الخلاف بين القاعدة والدولة الإسلامية حسب العدناني في الجوهر لا في العرض، بل لم يدخر كل طرف جهدًا في اتهام الآخر بتهم خطيرة دينية كانت أو عسكرية، ولو تتبعنا تلك التهم التي تراشق بها الطرفان مع ما كتبه كبار المرجعيات الجهادية في العالم مناصرين أو منافرين لتنظيم الدولة والقاعدة، لكانت دراسة مستقلة من عشرات الأوراق ساهمت في اتساع الهوة بينهما ودفعت العدناني إلى اعتبار قاعدة اليوم غير قاعدة الجهاد أمس، لأن قيادتها باتت مِعولًا لهدم مشروع الدولة الإسلامية والخلافة القادمة حسب تعبيره.
في الأخير يمكننا القول إن عملية اندماج بعض الفصائل الجهادية وتوحدها فيما بينها تحت قيادة غرفة عمليات مشتركة يمكن أن يتحقق على أرض الواقع تلبية لطلب الظواهري ومسايرة للوقائع على الأرض، والتي تتطلب الوحدة في مواجهة الروس وغيرهم، لكن إمكانية الاتحاد بين هذه الطوائف من الجهاديين لا يعني بالضرورة إقحام تنظيم الدولة الإسلامية في هذه المعادلة، فالأمر محسوم عند الطرفين صاحبي المنهجين المختلفين والمتنافرين، وقد أكد على ذلك أبو محمد العدناني في ختام الكلمة نفسها وأعلنها مدوية عندما قال”إنّ الخلافَ بينَ الدولةِ والقاعدةِ ليسَ على قتلِ فُلانٍ أو بيعةِ فُلانٍ، ليسَ الخِلافُ معهم على قِتالِ صحواتٍ أيّدونا عليهِ سابقًا في العراق، ولكنَّ القضيةَ قضيّةُ دِينٍ أعوَجّ، ومَنهجِ انحرَف”.
فهل يفند المستقبل ما قلناه بعد أن يستقيم المعوج ويعتدل المنحرف؟
نُشر المقال لأول مرة في CNN بالعربية