“ماذا لو أطلقوا عليك الرصاص؟” هكذا سألت زوجة ألفونص ديكمان، رجل الأعمال الألماني الصغير، بينما وقف منذ أسابيع في مطار الإمام الخميني قادمًا من مقاطعة فيختا بشمال ألمانيا، لتعبر عن قلقها من بلد تقول الصورة النمطية أنه خطير ويحكمه نظام مجنون، غير أن ديكمان والكثيرين من رجال الأعمال الألمان، خاصة من فقدوا أرباحهم المعتادة بعد خسارتهم للسوق الروسية إثر العقوبات الغربية على موسكو، يتطلعون الآن إلى سوق إيران الكبير الذي ستُرفَع عنه العقوبات قريبًا.
لم يكن ديكمان وحده في المطار، إذ رافقه 98 ممثلًا لشركات ألمانية صغيرة ومتوسطة من ولاية ساكسونيا السُفلى الشمالية، منها شركات متخصصة في النفايات، وفي العمليات اللوجستية، وفي تصنيع المنتجات البلاستيكية، والدهانات، ومعدات ضخ المياه، وشاحنات النفايات، ومراوح محرّكات الأجهزة، وغيرها الكثير، وهم ليسوا وحدهم في إيران بالطبع، بل وجدوا أوروبيين مثلهم يعج بهم فندق أزادي؛ إيطاليون وهولنديون وفرنسيون وبريطانيون وكروات.
ليس غريبًا إذن أن تنشر صحيفة طهران تايمز يوميًا خبرها المكرر، “زيارة مجموعات رفيعة المستوى لإيران لإجراء المحادثات،” بالمئات يأتون هنا منذ إعلان الاتفاق النووي قبل أشهر لتحديد كيفية الاستثمار وفي أي قطاع ومع أي شركاء من السوق الإيراني، وهو تدفق لن يتوقف على الأرجح، بل سيصبح علامة على عودة إيران كبلد طبيعي للاقتصاد العالمي، لتكون مطاراتها وفنادقها في استقبال المهتمين بالأعمال تمامًا كمطارات وفنادق تركيا والهند والصين.
الترحيب بالألمان كبير بالطبع في طهران وغيرها من المدن الإيرانية، غير أن الألمان سيحتاجون لبذل جهود أكبر مما يتصورون نظرًا لتواجد الصينيين والهنود القوي في السوق الإيراني، والذين لم يلتزموا بقرارات المقاطعة الأمريكية في الأصل، في حين اضطرت ألمانيا لسنوات طويلة أن تلتزم بها كجزء من التحالف الغربي، وهي مسألة شديدة الصعوبة أن تنافس الصينيين في سوق دخلوه قبلك بسنوات، لا سيما مع ارتفاع جودة منتجاتهم المتزايد في مقابل أسعارها الأقل، غير أن الأمر ليس مستحيلًا في نهاية المطاف، خاصة مع الإصرار على الدخول لهذا السوق الجديد.
“من بعد تركيا، تُعَد إيران واحدة من أكثر البلدان استقرارًا في المنطقة،” هكذا يتحدث السفير الألماني في طهران، والذي أشار لإمكانيات إيران الضخمة بتعداد سكاني وصل لثمانين مليون، وسُمعة ممتازة للمنتجات الألمانية بين الإيرانيين ستفتح بالتأكيد مجالًا لها بجانب العمالقة الموجودين بالسوق أصلًا، “مربط الفرس الآن هو أن تقوم بتطوير العلاقات الشخصية الجيدة والبحث عن شركاء (إيرانيين)،” هكذا يوجه السفير كلامه ناصحًا لأحد رجال الأعمال المهتمين بنُظُم الإدارة.
***
حول إحدى الطاولات يجلس فرانك مايكل روش وأمامه مجموعة من المستلزمات التابعة لشركته المتخصصة في خدمات السكك الحديدية، ويتحدث بسعادة عما يدور بينما يحاول الإيرانيون اقتناص شراكة معه، “أشعر وكأنني في قاعة للرقص أبحث عن الشريك الأفضل ليؤدي رقصة معي، الكثيرون يقولون لنا أنهم أقارب لأحد مستشاري الرئيس أو يعرفون ابن أخته، وغيرها من الادعاءات الكاذبة بالطبع لكسب الصفقات،” هكذا يتحدث روش بينما يتحرك ببنطلون جينز عادي، وهو ما لا يعطي الانطباع المناسب ربما بأن شركته موجودة في شنغهاي الصينية ومانيلا الفليبينية.
صورة لعامل نظافة إيراني أثناء معرض صناعي دولي في طهران، إلى جانب لوحة تقرأ “ميتلشتاند الألمانية”
التواضوع والسلاسة هي سمة من سمات شركات “ميتلشتاند” كما تُعرَف، أي الشركات الصغيرة والمتوسطة، المعروفة دونًا عن مثيلاتها حول العالم بقوة علاقاتها وشراكتها، كما تثبت طاولات الحوار التي تقيمها الغرفة التجارية الألمانية الإيرانية، والتي يأتيها الإلمان ويتعاملون معها بشكل جدي منتقلين من واحدة لأخرى، بينما يلتف الإيرانيون حولهم بنهم يتخللهم المترجمون.
ولع الإيرانيين بالألمان ليس نابعًا فقط من جودة منتجاتهم، ولكن من قيمهم الاقتصادية أيضًا، إذ يقول روش أن تصدير المنتجات لا يجب أن يتضمن أية مهمات ثقافية، “إنه أمر شديد العجرفة أن تقوم بتصدير مفاهيمك الثقافية مع منتجاتك، ففهم ثقافات البلدان الأخرى أمر مهم جدًا، فالبازار مثلًا ليس مثل ألدي (سلسلة سوبر ماركت معروفة في أوروبا)،” بهذه الكلمات إذن يكسب الألمان عقول وقلوب صناع القرار في طهران، والذين يتوجسون دومًا من الأجندات الثقافية الغربية، كما أنهم لا يريدون أن يعطوا انطباعًا أنهم تخلوا عن “ثقافة الثورة الإسلامية” بفتح أبواب الاستثمار في الفترة المقبلة.
الاهتمام بالاستثمار في إيران ليس مقصورًا على رجال الأعمال فقط، بل وعلى الساسة وحكام الولايات الألمانية، والذي أتى منهم كثيرون، أحدهم وزير الاقتصاد لولاية ساكسونيا السفلى أولاف ليس، والذي قاد منذ أسابيع وفدًا من الولاية وزار البازارات في طهران، ومصنع سيارات بيجو، ومصنعًا لإنتاج مشروبات الشعير غير الكحولية، وبالإضافة لالتقاء عدد من السياسيين الإيرانيين رفيعي المستوى، وهي اجتماعات تنتهي بدعوات الإيرانيين بالتوفيق في السوق الجديدة، وهدية ألمانية بسيطة هي أقلام بيليكان Pelikan المعروفة للضيوف مطبوع عليه شعار الولاية.
يرى كثيرون أن البيئة الاستثمارية صعبة في إيران، مع بنية تحتية قديمة وفساد مستشري، وهو انطباع ربما تؤكده المشاهد التي رآها الألمان في طهران بينما نقلتهم حافلات إيرانية خاصة من الفندق إلى أماكن زياراتهم، بدءًا من القمامة الملقاة هنا وهناك وحتى البحيرة المملوءة عن آخرها بالنفايات، والمباني غير النظيفة والسكك الحديدية المتهالكة، بيد أن الألمان ينظرون لكل تلك كتحديات لإقامة أعمالهم، المتخصصة في تحديث السكك الحديدية وتنظيف الطرقات والمياه، “عيناي تدمعان -فرحًا- حين أرى هذه السكك القديمة،” هكذا يقول روش بينما أخذ يصوّر بهاتفه المحمول.
الألمان مباشرون أيضًا في حواراتهم، دون “اللف والدوران” الذي تُعرَف ثقافات أخرى، أو حتى الترحاب الزائد عن الحد الذي يُعرَف به الأمريكيون وقد يراه الإيرانيون الآن مضيعة للوقت، “لدينا الآن بطالة بنسبة 30% والوضع الاقتصادي صعب ونحن بحاجة ماسة لمستثمرين الآن،” هكذا يتحدث ركن الدين جوادي رئيس شركة النفط الوطنية الإيرانية، وهي حاجة تلبيها سرعة الألمان، “أنت ماذا تفعل؟ مطارات أم موانئ أم كليهما؟ ماذا عن البيض من متخصص في البيض هنا؟ أين نريدها إذن؟ طرابلس؟ طهران؟ لا مشكلة هيا بنا،” بهذه العبارات المباشرة يقفز الألمانيون إلى العمل مباشرة بشكل، مرة أخرى، يريح الإيرانيين المتعجلين لحصد الثمار.
ألمانيان يرتديان أحذيتهما بعد زيارة لإحدى مساجد العاصمة طهران
***
المباني التابعة لمجموعة “ماموت” الصناعية الإيرانية دائمًا ما تكون على جدول أعمال الوفود الألمانية الزائرة، ليس فقط لأنها واحدة من أنجح الشركات المملوكة لعائلة في إيران، ولكن لأن أحد ملاكها، وهو بهروز فردوس، يتحدث الألمانية بطلاقة لأن أمه من ألمانيا، وهو ملمح ثقافي ينعكس على سمات كثيرة للشركة كما يشيد الألمان، والذين قال أحدهم أنه يشعر بأنه في ألمانيا حالما يمر عبر أسوار الشركة ويرى السيارات المصفوفة في أماكنها الصحيحة والخطوط المرسومة بدقة.
تنتج ماموت السيارات والشاحنات ورافعات البناء والهواتف، وتبنى الفنادق أيضًا، وهي تعمل بقوة في منطقة الخليج كلها، لا سيما في دبي حيث تتضمن نصف مشاريع البناء في المدينة قطع منتجة في شركة ماموت على حد قول فردوس، والذي استقبل زواره الألمان بألمانيته الفصيحة، “سعدت لرؤيتكم اليوم، لقد كنت أقابل الآسيويين فقط لمدة عشر سنوات،” هكذا رحب بهم فردوس، بينما عرض عليهم المساهمة في إقامة مباني محمولة للاجئين السوريين في ألمانيا.
الألمان هنا لا يكفون عن الحديث عن إعجاب الشاعر الألماني جوته بنظيره الفارسي حافظ الشيرازي، وتواجد الإيرانيين القوي في هامبورغ بألمانيا، في محاولة لتوطيد العلاقات، وهي كلمات لعل الإيرانيون لا يلقون لها بالًا بقدر ما هم مهتمون بعقد الصفقات سريعًا، والتي تنهال فوق رأس الألمان فور وصولهم، “كل ما قلته لهم هو أنني حوّلت مبني عسكري قديم في تركيا إلى مرزعة بيض تضم مليون ونصف من الدواجن، لأجد مكالمة في السابعة والنصف صباحًا وأنا في سريري بالفندق من وزارة الزراعة الإيرانية،” هكذا يقول ديكمان الذي حذرته زوجته من تلقي رصاصة في طهران، إذ سيتلقى بدلًا من ذلك صفقة جديدة تزيد من مشروعاته في المنطقة.
هذا المقال منقول بتصرّف من مجلة شبيغل الألمانية