“الزيطة” تقليد مصري يسمح لمن خدمته الظروف وقادته للنجاح في أي مجال بالصدفة البحتة أن يتباهى ببراعته وحكمته – غير الموجودين – مع معايرة خصومه بالفشل والسخرية منهم، وهي مسألة شهيرة في كرة القدم – وبخاصة المصرية منها – فحين يفوز الأهلي على الزمالك أو العكس تجد جمهور الفائز يسخر من لاعبي الفريق الآخر ويتناسى كل خسارة مُني بها فريقه على يد نفس لاعبي الفريق الذي يسخر منه الآن.
المؤسى أن هذا التقليد المصري الأصيل انتقل لعالم السياسة منذ فترة ليست بالقليلة وبخاصة في مناخ يمتلئ بالكارثية والأغاني التي على غرار “إحنا شعب وإنتوا شعب” فانجرّ له السياسيون بغية تقديم نسخة سياسية من برنامج “ما يطلبه المستمعون” أو محاولة التخفيف من الضغط والاتهامات بالفشل التي يلاقوها عن طريق الحديث عن إنجازات لم تحدث أو تغيرات في المزاج الثوري للجماهير برغم أنه لا أثر لها على أرض الواقع.
الملاحظة الأهم أن هذه “الزيطة” بدت واضحة بطريقة ليس من المنصف تجاهلها أثناء حديث الأطراف المعارضة، داخل مصر وخارجها، عن المقاطعة الشعبية الكاسحة للانتخابات البرلمانية الأخيرة، والكلام سينصب على نقد الأطروحات المعارضة لأن التبريرات التي قدمها أراجوزات النظام لغياب الجماهير تعتبر من قبيل النكات السياسية المثيرة للضحك والتي يمكننا سماعها ونحن نأكل الفشار أو اللب السوبر، ولكن هناك نكات أخرى تثير البكاء خرجت من المعارضين تتحدث عن استفاقة الشعب وتلقينه درسًا للسيسي ورجاله بالمقاطعة التامة للانتخابات، مع مطالبة لبعض أطراف النظام بإدراك حقيقة تغير مزاج الشعب تجاه السيسي فضلًا عن النبوءات السياسية – التي تشبه نبوءات الشاب (الأنشوش) الذي يظهر على الفضائيات المصرية تحت اسم نوستراداموس العرب – بانتفاضة قريبة للشعب والتحامه بالمعارضة إلخ إلخ.
واللافت للنظر أن أغلب هذه الأطروحات المتفائلة خرجت من سياسيين يعيشون خارج مصر، وليس هذا تقليلًا من شأنهم، ولكن النزول للشارع المصري والاستماع لما يقوله عامة الشعب في المواصلات أو المقاهي قد يدحض هذه التصورات بشكل كبير؛ لأن مقاطعة انتخابات النظام لا تعني أن كل مواطن تحول إلى جيفارا أو غاندي فجأة وبخاصة بعد وقوع الكثير من الأحداث القاسية التي يمكنها أن تُحرك قلب وفكر أي كائن لديه الحد الأدنى من الفهم والإحساس ولكنها لم تحركهم، فلماذا نفترض أن سلبيتهم تجاه نظامهم المفضل بمثابة عقاب له؟
إن الحديث عن الشعب باعتباره كتلة سياسية واحدة متشابهة الأفكار المؤيدة أو المعارضة يضرب فكرة التحليل السياسي في مقتل، فالمؤيدون أنواع والمعارضون أنواع، وبالنظر إلى عدد موظفي الحكومة الذي وصل إلى ما يقرب من 7 مليون موظف تجد أنك أمام تأييد مليوني للنظام الذي يقف السيسي على رأسه الآن.
أغلب هذا التأييد لأعتبارات تتعلق بـ”التمرمغ” في تراب الميري حال عدم اللحاق به، فالنظام هو الذي يأوي هؤلاء الموظفين ويسمح لكل منهم أن “يقبض” دون تأدية أي عمل مفيد للجمهور، وبالتالي فبقاء هذا النظام بالنسبة للقطاع الأكبر من هؤلاء مسألة حياة أو موت، ورحيله دونه الرقاب، وليس من الفطنة أن نصدق مظاهراتهم وشكواهم الدائمة من ظلم النظام لهم، هذا الظلم الذي لا يظهر على السطح إلا حينما يتعلق الأمر بزيادة المرتبات، لكن اقترح عليهم أن يثوروا على هذا النظام “الوِحِش” وستجد أسنانهم تمزق لسانك الذي جرؤ على دعوتهم لهذا التجديف السياسي.
ولو افترضنا أن كل موظف من هؤلاء متزوج ولديه ثلاثة أبناء، طامعون في الحصول على نفس مكان أبيهم في الحكومة، نجد أن هناك حوالي نحو 35 مليون شخص يُفترض فيهم تأييد هذا النظام، انزع منهم بعض الموظفين المعارضين والأبناء الذين لا يعجبهم حال البلد وحالة التكرار الحسابي المتعلقة بزواج موظف من موظفة تجد أن نحو20 إلى25 مليون شخص يؤيدون هذا النظام بإخلاص، ولا يهمهم من يترأس النظام فالمهم أن النظام موجود ويحافظ على امتيازاتهم، وهم سيقومون بالباقي، وينبغي أن نتساءل عن أسباب عزوف هؤلاء عن التصويت برغم أنهم الفئة الأشد تأييدًا السيسي، اللإجابة أنهم في السابق اعتادوا على تلقي الأوامر الانتخابية وتنفيذها بدقة عن طريق انتخاب من يريده الحزب الحاكم، ولكن بما أنه لا يوجد حزب حاكم فلم يعرفوا وجهتهم، أو خافوا من النزول إلى الانتخابات والتصويت لشخص آخر غير الذي عليه العين فيدمروا كل شيء، وربما رأوا أن النظام قد استقر ولم يعد شيء يهدد وجوده – ووجودهم – فعادوا لما قبل 2010 حين كانوا يتركون النظام “يهندس” الانتخابات بالطريقة التي ترضيه، وهم يعلمون أن وجودهم من شأنه أن يُصعِب تلك العملية على المنوط بهم “الهندسة” فآثروا عدم الحضور كي يتركوا “المهندس الإنتخابي” يعمل بمزاج.
هناك فئة – ثانية – أخرى تؤيد السيسي لكن ليس بإخلاص الفئة السابقة، وهم نموذج يرى أن السيسي هو أفضل حل متوفر الآن وفقًا لنظرية الرئيس العسكري الذي لا يصلح لمصر سواه، وبالتالي فوجوده أفضل من عودة الإخوان أو تولي شخص آخر من خارج المنظومة لمقاليد السلطة فيوقف المراكب السائرة، بحسب رأيهم طبعًا، وهؤلاء يعرفون أن النظام به عيوب وأهمها عدم نزاهة الانتخابات، كما أنهم يدركون أنهم سواء صوتوا أم لم يصوتوا فالنظام سيأتي بمن يريد، لكنهم في نفس الوقت يوقنون أن من سيختاره النظام هو الأصلح لهم وللبلد، وبالتالي فقد قاطعوا الانتخابات لعدم جدوى ذهابهم ولثقتهم في اختيارات النظام.
أما الفئة الأكثر مشاركة في الانتخابات فهم “ضحايا الإعلام” من كبار السن الذين يؤكدون بثقة وامتنان أن السيسي قد حمانا من مخاطر بشعة، وإن سألتهم عن كُنه هذه المخاطر لا يستطيعوا الإجابة؛ لأن رؤوسهم اعتادت أن تكون مثل لعبة البازل التي ركبها النظام هكذا ولن تستطيع تغييرها مهما فعلت، وبالتالي ذهبوا إلى الانتخابات لكي يحموا مصر مع السيسي من تآمر العالم كله عليها وهنا يكمن النجاح الحقيقي للنظام في حشد هؤلاء.
بينما قاطع من المعارضين الفئات المنتمية إلى التيارات الإسلامية والحركات الثورية لأسباب تتعلق بعدم اعترافهم بالنظام من الأساس – كلٌ حسب توجهاته وقناعاته التي بنى عليها هذا الرأي – وبالتالي تكون مقاطعتهم أمرًا بديهيًا ولا ينبغي أن يدخل مزادات الاحتفاء.
القطاع الآخر الذي قاطع الانتخابات هو قطاع من المستقلين يرفض 3 يوليو وما تبعها من إجراءات بالكلية، أو أيد حركة السيسي يومها ثم تغير رأيه بعد فض رابعة أو لأي سبب آخر، هؤلاء يرون الانتخابات كمسرحية هزلية، وربما هم من المعارضين الذين يخشون الاعتقال أو التعذيب وبالتالي لا يمكنهم أن يجهروا بآرائهم أمام الناس ولكن يمكنهم بالطبع ألا يذهبوا لانتخابات ينظمها النظام الذي يرفضونه في سرهم، ولا شك أن هذا القطاع قد بدأ في الازدياد في الفترة الأخيرة؛ بفضل التحاق بعض مؤيدي السيسي من الفئة الثانية له ولكن ليس بالمعدل الضخم الذي يمثل خطرًا على النظام، كما أن انضمامهم الحديث لهذه الفئة لا يعني اقتناعهم بأطروحات المعارضة ولكن رفضهم لسياسات النظام، وربما لو قام النظام بعدة إجراءات من تلك التي تعجب الجماهير، ولكنها لا تغير شيئًا على أرض الواقع، لادعوا الحكمة وعادوا أدراجهم قائلين “كنا غاضبين من السيسي ولكنه قام بعدة إصلاحات وينبغي أن نقف بجانبه”، وذلك لأن انضمامهم لم يكن انضمام فكري بقدر ما كان انضمام مصلحي أو عقابي، فلما انقضت المصلحة عاد كلٌ إلى مكانه الطبيعي.
بناءً على ذلك لا اتفق، وأستغرب بشدة، التفاؤل الذي عم أوساط مشاهير الساسة المعارضين الذين باتوا يكررون نفس الكليشيهات الناصرية السخيفة عن “الشعب القائد والمعلم” لأنه لا توجد أية شواهد أو مراكز دراسات سياسية تملكها المعارضة لتوضيح الأسباب الحقيقية للمقاطعة.
التحليل – بالتمني – هو أحد السمات المصرية الأصيلة، واستغل مؤيدو النظام هذا التكنيك في تفسير كافة الكوارث التي تصل إلى مسامع الشعب المصري باعتبارها دليل على دخول مصر إلى موقعها العالمي الذي تستحقه، وللأسف تقوم المعارضة بكافة أشكالها بنفس الخطأ، ولا أعتقد أن خداع النفس يمكن أن يكون مجديًا في هذه الحالة بل مواجهة المشكلة وابتكار طرق خلاقة لإقناع الشعب بأنك على الحق هو الحل، لا تُهلل للشعب لأنه قاطع لأسباب مختلفة تمامًا عن أسبابك، وهي أسباب لا علاقة لها بالسياسة والثورة بل ربما بترسيخ الاستبداد أكثر وأكثر، هذا ما ينبغي أن يفهمه الساسة المعارضون جيدًا، أما النظام فأعتقد أنه أدرك أسباب عزوف الناس عن الانتخابات وهو أنه لم يقم بإغلاق محطة مترو السادات.