مثل تصويت مصر لصالح الدولة العبرية لعضوية لجنة الأمم المتحدة، الخاصة بالاستخدام السلمي للفضاء، سابقة في تاريخ الدبلوماسية المصرية، فبالرغم من وجود معاهدة سلام بين الدولتين، فقد اختارت الدولة المصرية منذ نهاية السبعينات، كما عموم الشعب والجماعات المدنية، أن يكون هذا السلم باردًا ولا يترتب عليه تطبيع واقعي وشامل للعلاقات، نظام 3 يوليو، كما يبدو، ذهب من البداية إلى نهج آخر، مثل هذا التوجه، لا بد أن يدفع أبناء التيار القومي العربي، من مصريين وغير مصريين، إلى إعادة النظر في موقفهم المؤيد، صراحة أو ضمنًا، لنظام 3 يوليو.
الحقيقة، بالطبع، أن التصويت الأممي لصالح الدولة العبرية لم يكن المؤشر الوحيد على أن ثمة تطورًا نوعيًا في العلاقات المصرية ـ الإسرائيلية، كانت تل أبيب واحدة من العواصم القليلة في العالم، التي أبلغت مسبقًا بأن الجيش سيطيح بالرئيس المنتخب في صيف 2013، كما أن النظام الجديد في القاهرة أظهر منذ اليوم التالي لتوليه الحكم عداءً واضحًا للإسلاميين الفلسطينيين وإدارتهم لقطاع غزة.
خلال الشهور التالية، لم تحكم القاهرة الحصار على القطاع وحسب، بل وصنفت قوى المقاومة الفلسطينية جماعات إرهابية، وهددت باجتياح القطاع، حرضت مصر بصورة لا تخفى على الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، وشجعت على إطالة أمد الحرب، بغض النظر عن الدمار الهائل الذي أوقعته بالحياة والممتلكات والبشر، أخيرًا، وصل الحصار للقطاع ذروة جديدة عندما بدأت السلطات المصرية في حفر قناة مياه بحرية لفصل القطاع عن مصر، يتفق الخبراء على أنها ستهدد التربة والمياه الجوفية في الجوار الفلسطيني.
لم تخف هذه التطورات عن مؤيدي نظام يوليو؛ ولكن العروبيين بين هؤلاء، على الأرجح، وجدوا تفسيرًا مريحًا لها، فطالما أن سياسات النظام تستهدف حكومة حماس في قطاع غزة، التي لا تختلف في خلفيتها الإسلامية عن الرئيس مرسي، فليس ثمة ما يدفع على القلق في سلوك النظام المصري، اليوم، وبعد تصويت الأمم المتحدة، الذي لا بد أن يوضع في سياق سلسلة من المواقف ذات الدلالة تجاه الدولة العبرية، لم يعد من الممكن التهرب من مواجهة الحقيقة: الأمل بأن نظام 3 يوليو سيعلي الروح القومية العربية من جديد، ويعيد الاعتبار لأكبر جيش عربي وأكبر بلد عربي، كان وهمًا من البداية.
بالرغم من أن جذور التيار العروبي والتيار الإسلامي السياسي واحدة، عاشت العلاقات القومية العربية ـ الإسلامية حقبة من الصراع الدموي على مقاليد الحكم والدولة، استمرت من الخمسينات إلى الثمانينات، بداية من مصر، وصولًا إلى حكمي البعث في سوريا والعراق، ولكن الانحدار المتسارع في مقدرات الأنظمة القومية والتراجع في حظوظ التيار القومي في الشارع العربي، أدى إلى سعي أغلب الجماعات والشخصيات القومية إلى وضع مسافة بينها وبين الأنظمة التي ظلت تدعي الانتماء القومي، وإلى تقارب حثيث بين القوميين والإسلاميين.
ولعل ولادة المؤتمر القومي ـ الإسلامي في التسعينات كانت المؤشر الأوضح على هذا التقارب، جمعت الطرفين هموم واحدة من أجل التحول إلى الديمقراطية، والوقوف في مواجهة التوسع الإسرائيلي في المجال العربي، والعمل من أجل نهضة عربية قيمية واقتصادية، ولم يكن غريبًا بالتالي، وبالرغم من تفاوت التأثير الجماهيري للطرفين، احتفالهما معًا بحركة الثورة العربية ووعود التغيير والنهضة التي حملتها، ولكن هذا التقارب والمواقف المشتركة سرعان ما تعرض لتحديين كبيرين.
نظر قطاع واسع من القوميين العرب بوجوم وعدم تصديق إلى فوز مرسي في الانتخابات الرئاسية المصرية ووصول أول رئيس إخواني إلى مقعد رئاسة جمهورية الدولة العربية الأكبر، ولم يخف قوميون عرب بارزون ترحيبهم بانقلاب الدولة المصرية وجيشها على الرئيس المنتخب، كان الشعور السائد، على نحو ما، بين صفوف الكثير من القوميين العرب أن الدولة العربية الحديثة هي دولتهم، وأن الإسلاميين، مهما كانت قوتهم في الشارع، غرباء على هذه الدولة، بمعنى، أن لا خلاف على فساد وتحلل أنظمة مبارك وبن علي وعبد الله صالح، ولكن بديل هؤلاء لا يجب أن يكون الإسلاميون، حتى بعد سنوات من التقارب والمواقف المشتركة بين الطرفين.
وفي استدعاء رومانتيكي لتاريخ مضى، رأى كثير من القوميين في انقلاب 3 يوليو 2013 تحولًا مشابهًا لانقلاب 23 يوليو 1952، في الحالتين، كان الجيش المصري هو الفارس، البطل، وفي الحالتين، بدا الجيش كأنه يطيح بنظام فاسد ويلقي بالإسلاميين إلى جانب الطريق، لم ير هؤلاء القوميون أن التاريخ لا يمكن استعادته، وأن هذا الجيش ليس ذلك الجيش، وأن الانقلاب على نظام فاسد ليس مثل الانقلاب على إرادة الشعب ورئيس منتخب، في أعقاب ثورة شعبية كبرى.
بيد أن مصر لم تكن نقطة الافتراق الوحيدة؛ ففي سوريا أيضًا، اضطربت تقديرات قطاع ملموس من التيار القومي العربي، في سورية، أيضًا، غلبت مشاعر قومية مبهمة تجاه النظام ومواقف النظام من المقاومة للاحتلال الإسرائيلي في لبنان وفلسطين على رؤية السياق الأوسع للثورة السورية، وبصورة من الصور، تبنى هذا القطاع من القوميين العرب رواية النظام للثورة.
المشكلة أن ارتباط الثورة السورية بحركة الثورة العربية كان واضحًا من البداية، كما لم يكن من الصعب رؤية الصلة الوثيقة بين ذلك الخروج المهيب لملايين العرب في شوارع مدن بلادهم، وفقدان النظام الإقليمي برمته لأي قدر متبق من الشرعية، وعجزه بالتالي عن الاستمرار، كما لم يكن خافيًا أن استخدام القوة الوحشية، وليس مقابلة الشعب في منتصف الطريق، كان خيار النظام الوحيد للبقاء، ولكن سنوات أربع كان لا بد أن تمر قبل أن يرى العرب والعالم حجم الدمار الذي أوقعه النظام بالبلاد والشعب، وانحدار سوريا التدريجي إلى مستوى المستعمرة الصغير لإيران وروسيا، والتحالف الضمني بين الدولة العبرية واستمرار نظام حكم أقلوي، دموي، فاقد للشرعية، في دمشق.
ولد التياران القومي والإسلامي السياسي من أوساط الإسلاميين العرب الإصلاحيين في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وينتمي كلاهما إلى التعليم الحديث، وإلى مناخات الثقافة والاقتصاد والسياسة في القرن العشرين: كلاهما يعتبر نتاجًا للدولة العربية الحديثة، دولة ما بعد الحرب العالمية الأولى، بكل أزماتها وإخفاقاتها، وقد كان التوافق على تعزيز الحريات والتحول نحو الديمقراطية واحترام إرادة الشعوب، كما على الدفع نحو وحدة العرب وسيادة واستقلال بلادهم، هو الأساس الذي بني عليه التقارب بين التيارين القومي والإسلامي منذ التسعينات، واليوم، وبعد أن وصلت أوضاع مصر وسوريا إلى مداها، يبدو من الضروري العودة من جديد إلى أسس ذلك التوافق.