لم ينتهي حزب العدالة والتنمية من الاحتفالات بانتصاره الكبير في انتخابات الأول من نوفمبر وتشكيله للحكومة منفردًا للمرة الرابعة منذ عام 2002، حتى عاودت عجلة الدبلوماسية التركية عملها بالكامل، متجهة إلى عاصمة كردستان العراق، أربيل، التي استقبلت وزير الخارجية التركي فريدون سينيرلي أوغلو بالأمس، لإجراء محادثات مع رئيس الوزراء الكردي نخشيروان البرزاني، وهي زيارة يعلم فريدون أنها تتعلق بالداخل وليس بالخارج فقط، وتمس الملف الأكثر إلحاحًا الآن على في تركيا وهو الملف الكردي.
أسباب الزيارة المعلنة رسميًا هي بحث سُبُل التعاون فيما يخص مكافحة الإرهاب، والإرهاب هنا قد يعني أشياءً كثيرة، أبرزها بالطبع داعش، والتي يعتبرها كافة السياسيين في أربيل خطرًا رئيسيًا، كما أصبحت تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن التركي بعد تفجيري أنقرة وسوروج خلال الأشهر الماضية، والشبكات الداعشية التي كشفتها الاستخبارات التركية داخل أراضيها، وهو ما يجعل البشمركة التي تواجه داعش الآن شريكًا طبيعيًا لتركيا، غير أن وجهًا آخر للإرهاب متمثلًا في حزب العمال الكردستاني وشريكه بشمال سوريا قد يقف حائلًا هنا.
منذ اندلاع المعركة مع داعش، قرر البرزاني وضع كل خلافاته التاريخية مع حزب العمال الكردستاني جانبًا للتنسيق بوجه الفصيل الأخطر من منظوره وهو داعش، وكانت الحسابات الكردية قد تعقدت أصلًا خلال 2015 بنجاح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بشمال سوريا في معارك كوباني وتل أبيض، ودخول حزب الشعوب الديمقراطي الكردي المرتبط به في تركيا إلى البرلمان التركي لأول مرة في تاريخه عقب انتخابات يونيو بثمانين مقعدًا، وهو ما أعطى الانطباع بأن الرهان على حزب العمال في محله ولو لحين في كل من أربيل وواشنطن.
الآن، وبعد تراجع حزب الشعوب الكردي في تركيا ليمر بالكاد حاجز الـ10% ويدخل البرلمان التركي، وصعود أسهم حزب العدالة والتنمية من جديد في المناطق الكردية في إشارة على تحفظ الكثير من الأكراد على منهج حزب العمال الذي عاد للعنف خلال الأشهر الماضية، يبدو موقف أكراد سوريا وقد تراجع مجددًا، بينما تقدم حزب العدالة التركي ورؤيته للملف السوري خطوة بشكل يتيح له الآن أن يغيّر من ملامح ما يدور لصالحه بشكل أكبر، وهو أمر سيرتكز في الفترة القادمة لتعزيز موقف حكومة كردستان العراق، وإبعادها قدر الإمكان عن تنظيمات أكراد سوريا.
الهدف الرئيسي من تعزيز دور حكومة كردستان العراق من جانب الأتراك هو إظهار فصيل كفء وقوي يمكن أن يقف بوجه داعش كبديل عن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المتواجد في شمال سوريا، والذي تتحفظ تركيا على الدعم الأمريكي المفتوح له، وهو دعم تقول واشنطن أنه لا بديل عنه حاليًا نتيجة ضعف قوات المعارضة السورية والقوات العراقية، الموقف الذي لم يغيّره دخول تركيا الرسمي للحرب على داعش بإتاحة استخدام قواعدها من جانب الطائرات الأمريكية، حيث أبدت واشنطن بعض المرونة فيما يخص المنطقة العازلة أكثر من مطلب التوقف عن دعم أكراد سوريا.
البشمركة الكردية في كردستان العراق إذن هي المنافس الوحيد الواقعي، وهو منافس تاريخي في الحقيقة بالنظر للنزاعات الطويلة بين البرزاني وأوجلان، وهي نزاعات قررت أربيل تنحيتها جانبًا ودعم استراتيجية غريمها الكردي بشمال سوريا لوقف قطار داعش، بيد أن مد يد العون من جانب الأتراك لأربيل شريطة التخلي عن تنظيم أكراد سوريا قد يكون مغريًا بما يكفي، لا سيما وإن كان سيتيح للبشمركة أن تطرح نفسها للأمريكيين باعتبارها الفصيل الأقوى الوحيد والمتوافق عليه من جانب أنقرة وطهران بوجه داعش، غير أن الواقع هو أن هناك أيضًا ملفات أخرى تحتاج فيها حكومة أربيل إلى الأتراك، ألا وهو الملف الاقتصادي الذي تعقد بهبوط أسعار النفط.
بين أنقرة وأربيل: الكومنوولث التركي الكردي
شباب كردي يسير بجانب محل ملابس تركي في إحدى مراكز التسوق الجديدة بأربيل
تمر حكومة كردستان العراق بأزمة سياسية واقتصادية كبيرة منذ فترة، حيث أدى هبوط أسعار النفط لظهور الاحتجاجات العنيفة في الشوارع، مع عجز الحكومة عن دفع رواتب كافة العاملين بها، أضف لذلك أن فترة مسعود البرزاني كرئيس للإقليم التي انتهت في العشرين من أغسطس الماضي رفعت تساؤلات عدة حول مستقبل القيادة السياسية في الإقليم، بين محاولات البرزاني تمديدها بدعم حزبه، حزب كردستان الديمقراطي، والمحاولات المضادة من حركات جوران الشبابية بالحد من سلطانه المهيمن على كردستان.
بشكل خاص، تمتلك تركيا مفاتيح الإقليم الاقتصادية نظرًا لاستثماراتها الضخمة فيه، والتي بدأت منذ اجتياح الأمريكيين للعراق عام 2003 في إطار استراتيجية استيعاب الحكم الذاتي الكردي والاستفادة منه بدلًا من مواجهته دون طائل وهو أمر واقع على أي حال، وهو ما أدى على مدار السنوات الماضية إلى تبلور نفوذ تركي قوي يتجسد الآن في كون أكثر من 50% من الشركات الأجنبية بالإقليم شركات تركية، بما يزيد عن 1500 شركة، وهو تواجد يغطي على كافة الدول الأخرى المستثمرة في كردستان.
من محال الملابس والأثاث ومراكز التسوق وحتى مشاريع الإسكان والمصانع والزراعة والمدارس والمستشفيات، وصولًا لعالم الصرافة والبنوك واستخراج النفط والاتصالات، تنتشر اللافتات التابعة لشركات تركيا وكأن شمال العراق قد أصبح امتدادًا لجنوبها الشرقي، مع أكثر من سبعين رحلة أسبوعية بين مطارات تركيا ومطار أربيل الذي بنته أصلًا شركتان تركيتان عام 2004، وبعيدًا عن كل الاضطرابات التي تدور بين العراقيين السنة والشيعة إلى جنوبه، وهو ما جعل أربيل واحدة من أكثر المناطق استقرارًا في الحقيقة في المشرق للمفارقة، ويفسر استقبالها للآلاف من اللاجئين السوريين منذ عام 2011.
بينما وجدت أربيل في أنقرة سندًا لها لتبتعد رويدًا رويدًا عن سلطة بغداد وتؤكد حكمها الذاتي، خاصة فيما يخص تصدير النفط والغاز الذي أنشئ له خط أنابيب مخصوص بين كركوك وجيلان عام 2013، وجدت أنقرة هي الأخرى في أربيل نوعًا من الحل للقضية الكردية بعيدًا عن عنف حزب العمال الكردستاني، وهو توطيد علاقاتها بإقليم مستقل فعليًا يمكن أن يمثل مع سياسات مفتوحة تجاه الأكراد في الجنوب الشرقي نطاقًا اقتصاديًا وثقافيًا كافيًا لتعبير الأكراد عن نفسهم وتحقيق تنميتهم الاقتصادية التي فشلت مركزية أنقرة فيها على مدار سنوات الجمهورية السابقة، في نفس الوقت الذي تلعب فيه أربيل دور العاصمة الكردية رمزيًا.
***
مستخدمة زخم انتصار الحزب الحاكم وتراجع حضور أكراد سوريا ستحاول تركيا الآن أن تساعد الحكومة في أربيل على تجاوز أزمتها الاقتصادية، وتكثيف جهودها بين برلين أولًا، التي تميل لمطالبها الآن رغبة منها في تعاون الأتراك بحل أزمة اللاجئين، وواشنطن ثانيًا التي تعتمد على تركيا في عملياتها العسكرية ضد داعش، وستحتاجها كافة الأطراف الرافضة للدور الروسي مستقبلًا، وطهران ثالثًا التي بدأت تتحفظ هي الأخرى على الدور الروسي، ويزداد عجزها عن دفع تكاليف الحرب في سوريا مع رغبتها في التوصل لحل باحتواء داعش، وهو حل لن يهم كثيرًا ما إن كانت أربيل هي القادرة على القيام به أم أكراد سوريا، لا سيما وأن حزب العمال على المدى البعيد قد يؤرقها أيضًا بعلاقاته مع نظيره في شمال إيران.
دبلوماسية كثيفة إذن ستشهدها أربيل في الفترة المقبلة مع تعاون وثيق مع الأتراك، كما تشي الزيارة الأولى لوزير الخارجية التركي بعد فوز حزبه في الانتخابات، وسنحتاج للانتظار لنرى ما إن كانت ستؤتي أكلها أم لا خلال العام المقبل، والذي قد يشهد حسم الملف السوري إن اتفقت كل تلك الأطراف، وقد يشهد أيضًا بداية طرح أفكار جديدة داخل تركيا عن الدستور وقواعد المواطنة الجديدة، وربما توقف عجلة الحرب بين الجيش التركي وحزب العمال والعودة للحوار، وهي ملفات كلها ستعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على ما يدور في شمال سوريا وشمال العراق.