عندما قامت ثورة 1919 فجرت لدي المصريين شعورهم بذاتهم ووطنهم وقدرتهم، خلقت أجيالاً من الأفندية الواعين بضرورة النضال من أجل هذا الوطن ومن أجل الحرية، ما بين 1919 والحرب العالمية الثانية نشأ المسرح الوطني، تغيرت مفاهيم المسرحيات وموضوعاتها، وبدأ العصر الذهبي للمسرح التاريخي والسياسي، غير نجيب الريحاني شخصية كشكش بيه وجدد من فرقته المسرحية وضم إليها سيد درويش وبديع خيري، وأشتهرت من مسرح كشكش بيه سابقاً أغان وطنية نرددها حتي الآن منها قوم يا مصري
بدأ المسرح يزداد تألقاً بإنشاء فرقة يوسف وهبي وبتعريب الأوبريتات والمسرحيات الفرنسية، والمسرح التاريخي والمسرح الشعري والغنائي لأمير الشعراء أحمد شوقي والمسرح الأدبي لتوفيق الحكيم، ولقد كتب د/ أحمد هيكل كتاباً يبين فيه هذا الأوج في مجال الفن وقيمه من الأدب والمسرحيات حتي في مجال الأغنية فلقد ظهر عبد الوهاب وترك الناس حفلات ارخي الستارة واقعد لاعبني وأتجهوا للريفية التي تلقي التواشيح التي يدعونها أم كلثوم
وكل ذلك كان بجانب مسرح نجيب الريحاني وعلي الكسار الكوميدي صاحب الضحكة والسخرية، ولكن كانت القيمة أطغي وأهم ولها جمهورها، وعند قيام الحرب العالمية الثانية والأزمة الإقتصادية طغت الضحكة علي القيمة كما كانت أيام الحرب العالمية الأولي وقبل الثورة، صارت جموع الجماهير تقصد صالة بديعة التي أتحد معها نجيب الريحاني في هذه الفترة أيضاً، بدأ فن المونولوج والإسكتشات، ظهر إسماعيل يس وأشتهرت فرقة ساعة لقلبك لفؤاد المهندس، كان الناس يبحثون عن الضحكة، حتي أنك تجدهم يضحكون لأشياء تتعجب لما لا تضحك مثلهم عليها!
عند انقلاب حركة الضباط الأحرار علي الملك وإعلانها ثورة ضد الإستبداد والفساد والإنجليز، وبعد أن رسا الأمر علي حكم جمال عبد الناصر نشأت منظومة المسرح الحكومي والجامعي ولم يشهد حركة مشهودة تعيد له مجد إلا في أوائل السبعينيات وخاصة عند إنفتاح الأجواء وعودة النفس السياسي مع حكم السادات، نشأ الشكل المعروف للمسرحية وغلب عليها الطابع الإجتماعي الساخر، تلاشت أنواع عديدة من المسرحيات منها الشعري والتاريخي والغنائي، وسيطر المسرح الإجتماعي والسياسي، قد يكون ذلك لإختلاف طبقات المتعلمين ومناهل تعليمهم عما كان عليه جمهور 1919، فلقد أتسعت رقعة المتعلمين والموظفين بدرجة مهولة وقد صارت النزعة الشعبية للمسرح لا تعرف هذه الأرستقراطية من مسارح الماضي ولكن تعرف أن البلدي يوكل، وأنهم يذهبون للمسرح ليضحكون، وكلما كانت المسرحية تمس مشاكلهم كان النجاح حليفها
عمل نظام السادات وبعده مبارك علي الحفاظ علي مساحة محدودة ومراقبة للنقد السياسي، أتسعت هذه المساحة كما هو معروف كلما مر الوقت، نشأت فرقة محمد صبحي وفرقة عادل إمام وسعيد صالح وسمير غانم من جهة أخري، كان الطابع الأساسي لهذه المسرحيات أنها إجتماعية وكان بعضها سياسي من خلال المؤلف لينين الرملي، وتعتمد بشكل أساسي علي الفكاهة والكوميديا وكان لها قوامها وقصتها وبنائها التقليدي للقصة
ومن مسرحيات لينين الرملي السياسية التي تحمل قصتنا المكررة مع الحاكم العسكري الزعيم، جسدها الممثل أشرف عبد الباقي والممثلة عبلة كامل، كانت عبلة كامل تمثل مصر وكان أشرف عبد الباقي الحاكم العسكري أو الشخص المريض النفسي الذي يسجنها معه ويوهمها حاولت الهرب منه دون جدوي لدرجة إنه نسي مفتاح المكان الذي يسجنها فيه فلم تهرب، خافت من الهرب والخروج والتحرر منه، لأنه دائماً أحاطها بالأوهام والمخاوف، مسرحية الحادثة المجنونة مسرحية جميلة
مع دخول الألفينات وتغير ثقافة الشعب شيئاً شيئاً بفعل الفضائيات وأخيراً الإنترنت والفيس بوك، بدأ المسرح في الهبوط، كأنه صار كلاسيكياً كما الراديو والكاسيت.
منذ عامين تقريباً بدأت تجربة مسرحية جديدة اسمها تياترو مصر، أنشأ الممثل أشرف عبد الباقي فرقة مسرحية وبدأ بمسرحيات تستمر لأسبوعين أو ثلاثة ثم يعرضها تلفزيونياً وهكذا، مسرحية صغيرة تستمر لساعة أو أقل، فكرة تجارية حالفها النجاح بعض الشىء وأعادت رواج المسرح ولكنها قتلت المسرح في نفس الوقت أكثر مما هو عليه.
أولاً إن مسرح أشرف عبد الباقي قضي علي ماهية المسرح سواء الكلاسيكية أو الحديثة وعلي طقوسه وبنائه الفني، بل وعلي الكتابة المسرحية، فمثلاً تجربة ساعة لقلبك لفؤاد المهندس التي نشأت بظروف الحرب القاسية كان بنائها علي الإسكتشات والمونولوجات، كانت تقام بمسرح أحياناً، لم يتعامل أبداً علي أن هذه الإسكتشات المضحكة والمونولوجات الراقصة هي المسرح والمسرحية، إن القصة تذوب بالساعة التي تقام فيها مسرحية أشرف عبد الباقي تحشو بالإفيهات وتواكب افيهات الفيس بوك والبقية في الرقص والمهرجانات والخروج عن النص المقصود تارة وغير المقصود تارة أخري، ليست هذه المسرحية وليس هذا المسرح، ثم تثبيت فكرة تلفزيونية المسرح سيقضي علي فكرة المسرح وذاته، ليصير تصوير المسرحية أهم من تجسيدها علي المسرح، ولم تكن هذه بغية المسرح، والكثر من رواد المسرح اصلاً عارضوا تلفزة المسرحيات كمحمد صبحي لأنها تقضي علي حكمة المسرح وحياته وإستمرارية المسرحية نفسها علي المسرح لا علي التلفزيون!
ولكن كل ذلك يتغاضي عنه الجميع لتجارية التجربة.
ثانياً وهذا أخطر ما في الموضوع كله، أن مسرح أشرف عبد الباقي تقريباً هو أول مسرح عربي سلطوي، أول مسرح عربي ينتمي للسلطة ويروج لها وينافح عنها بهذه الصورة، بعدما كانت مهمة المسرح العكس.
إنه يواجه دول بعينها كتركيا وقطر بمسرحيات عدة، يواجه قناة الجزيرة بإسمها، هناك أكثر من مسرحية تمجد الحاكم، أكثر من مسرحية كمسرحية الجاسوس تسخر من ثورة 25 يناير وممن قاموا بها وتقديمها كأنها مؤامرة إسرائيلية، تلميع الشرطة بكل المسرحيات تقريباً وتنديم المصريين علي الثورة ضد مبارك كمسرحية الزوجة الثانية وشىء من الخوخ وغيرها، هناك مسرحيات عديدة تشعر بمشاهدتك إياها كأنك تشاهد أحد برامج التوك شو!
بالطبع أنا ضد الفن الذي يخدم السلطة، ضد الفن الذي يقدم الوعي السلطوي، أنا مع الوعي الحر، مع شد وجذب أيدولوجي وضد التوجه المفروض والسلطة الممدوحة وخاصة العسكرية
أنا ضد ذلك المسرح حتي ولو كان يقدم الإفيهات التي تروح عن الناس أزماتهم، ضده لشكله وطريقته، أقبله لو تحول للإسكيتشات والمونولجات لأن هذا ما يفعله أصلاً ولكن بثوب المسرحية، وضده بتوجيهه للوعي وسلطويته، أما الضحك ذاته لسنا ضد الضحك، فكما قال القائل أضيع الأيام يوم لم يضحك المرء فيه، ولكن لا تسلم دماغك لمن يفسد وعيك، قديماً كان الناس يلجأون للمسرح لينفسوا عن كبتهم وضحكهم ويسخرون من المجتمع والسلطة والآن ما بالنا أين نلجأ.