بات من غير الخفي الدور الذي تلعبه دولة الإمارات العربية المتحدة في الشأن الليبي الداخلي، حيث صدرت تقارير دولية موثقة تثبت تورط الإمارات بالتعاون مع مصر في دعم أحد أطراف الصراع الليبي هو اللواء المتقاعد خليفة حفتر قائد ما يُطلق عليه “عملية الكرامة” في مواجهة الإسلاميين في ليبيا المسيطرين على المؤتمر الوطني العام الليبي.
تحاول الإمارات تنفيذ أجندتها السياسية الإقليمية في ليبيا عبر تزويد بعض الميليشيات المسلحة في البلاد بالأسلحة والدعم اللوجيستي، من أجل السيطرة على مزيد من الأراضي الليبية لتقليص قوة قوات فجر ليبيا على الأرض التي تتشكل غالبيتها من التيارات الإسلامية الليبية التي قاتلت ضد القذافي، ويتم ذلك في إطار سياسة الإمارات المعادية للثورات العربية، وهو دور لعبته في كل من مصر وتونس واليمن.
قوة المؤتمر الوطني الليبي أجبرت الإمارات على تغيير طريقة لعبها في ليبيا، حيث يملك المؤتمر جناحًا مسلحًا وهو قوات “فجر ليبيا” التي تفرض سيطرتها على غالبية الأراضي الليبية، مما صعب عملية تنفيذ السياسات الإماراتية في الحالة الليبية، حيث القوة هنا في يد الخصوم، مما دفع الإمارات لخلق ذراع سياسي متمرد على المؤتمر الوطني وهو “برلمان طبرق” مدعوم بجناح عسكري من لواء متقاعد.
هنا اشتعل الصراع وكان لابد من تدخل دولي حتى لا تتفاقم الأزمة الليبية ويتم تصديرها إلى أوربا التي يفصلها عن سواحل ليبيا بعض الكيلومترات البحرية، فتدخلت الأمم المتحدة لقيادة حوار بين الفصائل الليبية المتصارعة، لكن الإمارات لم تقف أمام هذا الأمر موقف المتفرج، حيث جاء دور المال السياسي الإماراتي الذي سيتدخل في هذا الحوار الذي يتم برعاية دولية.
تواصلت الإمارات مع المبعوث الأممي الذي عُين من ِقبل الأمين العام للأمم المتحدة “بان كي مون” لقيادة جلسات الحوار الوطني وهو السيد “برنارد ليون”، حيث عرض الإمارتيون على الرجل راتبًا يوميًا مقداره ألف جنيه إسترليني، وذلك في إطار وظيفة تعرضها الإمارات عليه لتدريب مجموعة من الدبلوماسيين الإماراتيين في إطار برنامج لدعم السياسة الخارجية الإماراتية.
لم يظهر عرض كهذا للرجل من قبل إلا بعدما علمت الإمارات أنه المبعوث الأممي في ليبيا، وبحسب ما نقلت صحيفة “الجارديان” البريطانية في تقرير مدعوم برسائل اطلعت عليها الجريدة بين ليون ومسؤولين إماراتيين، حيث تظهر الرسائل أن المبعوث الأممي لليبيا قضى الصيف وهو يتفاوض حول وظيفة في دولة خليجية تدعم طرفا في الحرب الدائرة في ليبيا، التي يقوم بالتوسط بين أطراف النزاع فيها.
المشكلة لم تكن في هذا العرض الإماراتي ومدى تأثيره على حيادية ونزاهة المبعوث الأممي، إنما تمكن المشكلة الأكبر التي ظهرت في رؤية برنارد ليون للصراع في ليبيا، وهو ما أظهرته أحد الرسائل المبعوثة بتاريخ 31 ديسمبر 2014 أي بعد خمسة أشهر من تعيينه كوسيط في الحوار الوطني الليبي إلى وزير الخارجية في دولة الإمارات، الشيخ عبد الله بن زايد، من حسابه الشخصي.
والتي يقول فيها إن دولة الإمارات العربية المتحدة, وأوروبا والولايات المتحدة كانوا يسألون عن الخطة “ب” إذا ما فشل الحوار الحالي، وهو مؤتمر آخر للسلام، ويرى ليون في رسالته أته وهو أسوء من خيار الحوار السياسي لأنه سوف يعامل كلا الجانبين كفاعلين متساويين.
إذن السيد ليون لا يرى طرفي الصراع بعين واحدة، حيث أكمل قائلًا أن خطته تكمن في ما أسماه تحالفًا خطير للغاية بين التجار الأثرياء من مصراته و مجموعات الإسلاميين التي تحافظ على الحكومة الوطنية في طرابلس، كما أنه يريد تعزيز قدرات مجلس النواب في طبرق ، وهي الهيئة التي تدعمها دولة الإمارات العربية المتحدة ومصر.
هذا الأمر الذي يطرح تساؤلات عن دور العرض الإماراتي على المبعوث الأممي في طرح هذه الرؤية المتحيزة في حوار المفترض أن يكون دوره الأساسي به هو الحياد وتقريب وجهات النظر بين المتصارعين، والأنكى من ذلك أن ليون يتحدث في أحد مراسلاته مع مسؤولين بدولة الإمارات أنه لا يعمل على خطة سياسية من شأنها أن تشمل الجميع في ليبيا، ولكنه يعمل الآن على إيجاد استراتيجية لنزع الشرعية عن حكومة طرابلس.
كما تظهر الرسائل التي نشرتها الجارديان أن خطوات ليون كانت تتم بالتشاور مع السفير الليبي في دولة الإمارات العربية المتحدة “عارف النايض” الموالي لبرلمان طبرق، وكذلك رئيس الوزراء الليبي السابق محمود جبريل المقيم في الإمارات.
كما نقلت الصحيفة عن ليون قوله لوزير الخارجية الإماراتي: “يمكنني المساعدة والتحكم بالعملية حينما أكون هنا، وكما تعرف فلا أخطط للبقاء طويلا هنا. وينظر إلي على أني متحيز مع مجلس النواب، ونصحت الولايات المتحدة وبريطانيا بالعمل معك”.
كما تظهر الرسائل خلافًا بين ليون والإماراتيين على مخصصات السكن ما يعني أن العرض الإمارتي كان يُناقش بشكل جدي من المبعوث الدولي في أثناء مهمته، بعكس ما روج ليون في رده على ما نشر في صحيفة الجارديان بأنه تم التلاعب برسائله الإلكترونية، وأنها لم تقدم بطريقة صحيحة، حيث أنكر ليون محاباة طرف “برلمان طبرق” المدعوم إماراتيًا في رسالة بعثها إلى الجريدة محاولًا منع نشر التقرير.
من جانب آخر شكك رئيس المؤتمر الوطني الليبي العام نوري أبو سهمين، في دور مبعوث الأمم المتحدة لدى ليبيا برناد ليون، وذلك بعد تعيينه مديرًا لأكاديمية الإمارات الدبلوماسية، حيث طالب الأمم المتحدة بتوضيح موقفها من تعيين مبعوثها للسلام في ليبيا بأحد المراكز الدبلوماسية في دولة طرف في الصراع الحادث في ليبيا.
وقد قال أبو سهمين في رسالته، إن مثل هذا التعيين يعد ضربا لحياد ونزاهة المبعوث الأممي، “بسبب انخراط الإمارات في النزاع السياسي الليبي”، على حد قوله، وذلك بعد أن أعلنت الأكاديمية الدبلوماسية الإماراتية، التي يتولى وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، رئاسة مجلس أمنائها، أن الدبلوماسي الإسباني الذي شغل منصب المبعوث الأممي إلى ليبيا، سيتولى منصب مديرها العام.
ومن جانب الأمم المتحدة أعرب الأمين العام “بان كي مون” عن عميق امتنانه لدور ليون، الذي أداه خلال فترة مهمته مبعوثًا خاصًا للأمين العام”، وقد أكد المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة “استيفان دوغريك”، أن كي مون على ثقة بأن ليون كان ملتزمًا تمامًا، بالقواعد الأخلاقية للعمل بالمنظمة الدولية”، ولم يتحدث دوغريك عن أن القواعد الأخلاقية للعمل بالأمم المتحدة لا تسمح لموظف أممي بالتفاوض مع طرف في نزاع يتوسط فيه، ليحصل على عقد عمل مع هذا الطرف بعد خروجه من الأمم المتحدة.
بالتأكيد استطاعت الإمارات من خلال هذا العرض التأثير على مهمة ليون في ليبيا، الرجل الذي لطالما شكك ممثلي المؤتمر الوطني الليبي أحد الأطراف المتنازعة في حياديته، إذ لم يوافق المؤتمر على غالبية مقترحات ليون بشأن خطة تشكيل حكومة وحدة وطنية في ليبيا، وكثيرًا ما أبدوا اعتراضهم على طريقة إدارة جلسات الحوار.
أما عن مهمة برنارد ليون فقد فشلت في ليبيا رسميًا بعد هذا الإعلان، بعد أن شاع خبر قرب التوصل إلى حكومة ائتلافية بين الأطراف المتنازعة، وهو ما يعيد طرح تسؤلات حول فعالية دور الأمم المتحدة في الصراع الليبي بالتحديد وفي بقية الصراعات في العالم، حيث بات دور مبعوثيها رهن المال السياسي لأطراف النزاعات.