“عبدالرحمن أبازيد، عمره 16 عامًا، قبل ساعة سمع صوت الطيارات تحوم وتقصف في السماء، صعد إلى سطح البيت حتى لا يفوته المشهد، لم يعجب القنّاص القريب هذا الفضول؛ فأصبح اسمه: الشهيد عبدالرحمن عمار الساري أبازيد”، أحمد أبازيد، ناشط سوري من درعا.
هذا العالم لم يكن يومًا أخطر منه الآن، أما الشرق الأوسط فيبدو أن قدر المواطن فيه خطير منذ بدء الخليقة.
لقد هرمنا من دفع قيمة أخطاء التاريخ والمنتصرين والمتخاذلين، من إعوجاج قلم من رسم الخريطة الأخيرة قبل أن ننشد النشيد الوطني الأول من سوريا حتى حدود الجزائر، لكن الشهداء وقتها كانوا أكرم حظًا ممن سجنوا في المعتقلات العربية بعد استقلال تلك الدول.
لم يكن الإنسان أتعس حظًا في كل أجياله من جيل يكابد مهنًا لم يخترها ويسابق زمنًا أبخل من سحابة صيف لينفق ثلث عمره كي يحظى بمسكن ومأكل مناسب، لا بد أن الإنسان الأول كان أكثر راحةً على أية حال فقد كان يخرج أول نهاره ويقضي الوقت المتبقي متمددًا أو يمارس غرائزه الطبيعية من مجالسة أقرانه والتأمل وكتابة قصيدة مناسبة إذا استلزم الأمر.
هذا العالم ضيق الحدود وإن بدا في ظاهره متجاوزًا لعقد القرون الماضية، يزيد مع كل اختراع جديد حيرة جديدةً على وجه سكانه، ولعل أتعس ما في الأمر كمية الأوراق التي يستلزم على الحر حملها منذ ساعة ميلاده وحتى يوم رحيله، حياة تبدأ بشهادة ورقم وطني ثم مجموعة من الشهادات الدراسية تختصر في آخر الرحلة بآخر ورقة ينالها المرء، انتهاءً برقم مهيب على قبره في أعلى شهادة وفاته ساعة رحيله.
في السجن العربي الكبير قد يفوت الجد رقمه في التعداد السكاني الذي تم فيه حصر المواطنين في سنة من سنوات الجدب والترحال، فيعاني أحفاد أحفاده حتى قيام الساعة، فقط لأن خطأ غير مقصود حدث في سنة كبيسة وإن كانت ممطرةً على كل الجهات، وقد يكرمهم القدر فينالون لقب “البدون” ويتشرفون بالخدمة في الجيش والشرطة، لكن ولأن قدرًا ما وضعهم في ظرف تاريخي معين فإنه لا يحق لهم حق التصويت والانتخاب ولا حتى إكمال التعليم الجامعي أو حتى حق العودة والتنقل كما فعل جدهم ساعة أن فاته الإحصاء السكاني الملعون.
ألم أخبركم في البدء أن حياة الأولين كانت على بساطتها أكثر راحةً من حياتنا معشر المتأخرين!
وقد تورطك هذه الورقة حين تسلمك إلى السجن أو العدم، وقد لا تستطيع بدونها أن تعرف نفسك وإن عرفك الأهل والجيران، مثلما حدث مع عادل إمام في عنتر شايل سيفه، وقد تخسر دورك في انتظار قرض الدولة طويل العمر إن تشابه اسمك مع آخر، أو تغادر من السجن إلى المطار إن حدث –قدرًا – أن تطابق اسمك الذي لم تختره مع مطلوب لأمن الدولة، ثم تنسى حتى يحدث انقلاب عسكري أو يتكرم الملك أو الرئيس في السجن الكبير بإخراجك ضمن مكرماته التي ليس لها قانون ولا توقيت.
حدث شيء شبيه بهذا مع مصطفى خليفة الكاتب السوري صاحب رواية القوقعة – إحدى أشهر الأعمال الروائية عن السجون السورية وإن كانت أضعفها – فلوشاية انتظرته طويلاً؛ دخل إلى السجن ومكث فيه 12 سنة بتهمة انتمائه لحركة الإخوان المسلمين وهو المسيحي الملحد الذي في حالة سكر تامة شتم حافظ الأسد في مقهى بباريس، ياسبحان الله حتى الجدران في مقاهي باريس لها آذان تصل لمسمع المخابرات السورية.
يراقب خليفة السجن والسجانين ويرصد كل شيء من قوقعته التي وصف منها كل شيء حتى ما لا يستطيع الحر التفوه به وإن كانت حقائق مرة في كل سجن عربي ابتداءً بالعنف الجسدي وانتهاءً بالممارسات الجنسية الشاذة بين المقموعين.
إن ملامح الخوف في كل السجون العربية الكبيرة لا تخفى على عيني مبصر، كل سائح فطين يرى في وجوه الناس خوفًا، قلقًا، وتوجسًا لا تخطئه عين من دخل إلى أي سجن في الدنيا ولو لمرة واحدة.
لاحظ ذلك قبل 60 عامًا الرحالة والمستشرق الياباني نوبواكي نوتوهارا حين كتب عن دمشق في كتابه الصغير القيم “العرب بعيون يابانية” ما مفاده: لقد كان الخوف باديًا على وجوه الناس في دمشق حين زرتها لأول مرة، وياليت شعري الآن بعد 40 عامًا كيف هي وجوه الناس في دمشق؟!
يجيب فرج بيرقدار عن تساؤل نوتوهارا بعد ثلاثين عامًا قائلًا: “إن السائد في سوريا قانون القوة لا قوة القانون، ذلك أن جميع الأنظمة التي تعاقبت على الحكم خلال الثلاثين سنة الماضية، إنما وصلت إلى سدة الحكم على أبراج الدبابات وعبر الانقلابات لا عبر الانتخابات؛ الأمر الذي يعني أنها أنظمة غير شرعية، وأن كل ما صدر عنها من قوانين ومراسيم هو غير شرعي أيضًا بما في ذلك محكمة أمن الدولة التي أقف أمامها الآن كمتهم”.
ولكي يرفع الحرج عن خيال نوتوهارا يسرد فرج بيرقدار هذه القصة القصيرة جدًا عن يوميات سجنه بلغته القشيبة في عمله الممتع بألم “خيانات اللغة والصمت” متذكرًا: كان وراء الطاولة رجل ستيني أشيب ممتلئ ، ينظر إليّ بابتسامة هادئة، يتخللها شيء من التعاطف المشبوه.
لم يطل كثيرًا وقت الأسئلة والمناورة، ليكتشف رئيس الرفع أنني لا يرهبني سيف المعز ولايغريني ذهبه، فنهض وملامحه تتقبض وتعتكر وتكفهر: شوفوا حسابكم معه، يبدو أنه ينوي أن يظل بغلًا، قالها وخرج تاركًا وراءه صمتًا أسود، ونجيعًا أسود، واحتمالات كالحة ومدججة بما يشبه الألغام.
إذن بعد قليل ستدور مسننات آلاتهم، ستترنح الجهات والمسافات، وستنفلت في هذا المجتلد قطعان كثيرة من الضواري والوحوش المفترسة.
لدي معرفة وافية حول أدواتهم وأساليبهم المعهودة في التعذيب، لم أكن أفكر بما سينجم عن ذلك من آلام لحظية، كنت أفكر بالعتبة التي يستطيع الإنسان تحملها، أعرف نظريًا أن الإنسان أكثر قدرة على التحمل والتلاؤم والصبر الجسدي والنفسي من أي كائن آخر بما في ذلك الخيول، ساعدني يا الله ، ساعديني يا أمي، ساعدني أيها الحب، أيها الحزن، أيها اليأس، وأنت يا حنان جهنم .. ساعدني!
اللغة عند فرج بيرقدار وهو الشاعر الذي قضى أربعة عشر عامًا في السجون السورية بسبب انتمائه إلى حزب العمل الشيوعي تخفف كثيرًا من وطأة العذابات بين جنبات عمله الفخيم الجميل، لا مقارنة بين مصطفى خليفة وقوقعته المملة حد تصفحك لها بسرعة بعد أن تنجز فصولها الأولى، وبين فخ اللغة الذي يوقعك به فرج بيرقدار فتتناسى بعمد واضح أنك بين جنبات تدمر، أو أمام ضابط من فرع فلسطين.
من العذاب المعجل أن تمسي سوريا التي كانت تصدر لنا الفرح وأغاني الصباح وتفاحًا أشهى من خد الحبيبة، ثلاثة أعمال عن سجون قاهرة للقارئ، ناهيك عن كل هذا الأذى النفسي الذي تتركه في القارئ من أي قطر عربي.
لطالما لعن الفلسطينيون حظهم الذي رماهم في أتون أقدار لم يختاروا بدئها، ولكنهم مع سخط كل مواطن عربي على سجنه/ وطنه، حين يقرأون أعمال مصطفى خليفة أو فرج بيرقدار أو حتى رائعة ياسين الحاج صالح “بالخلاص ياشباب” سيسجدون سجود شكر أن أمورهم كانت أفضل تحت كل الظروف من حالة كونك سوريًا.
فالكل في سورية آل الأسد كما يبدو من الأعمال الثلاثة مسجون أو متهم حتى لا يثبت العكس، والكل يرتعد في المطار ذاهبًا أو عائدًا، والكل لا كل، إذ المطلوب من الجميع طلب واحد، هو تمجيد السيد الرئيس سرًا وجهرًا حتى عندما تكون ثملًا في مقاهي باريس، أما أجمل السوريين وأصدقهم حرفًا وحسًا مسجونًا كان أو مطلوبًا للنظام بعد خروجه فلا شك أنه ياسين الحاج صالح.
هذا الطبيب الذكي جدًا حين امتلك كل أدوات الرواية كاملةً، وكان بإمكانه أن يزيح رائعة الطاهر بن جلون “تلك العتمة الباهرة” عن تصدر أدب السجون العربية وكان بمقدوره أن يقول شيئًا أكثر تركيزًا وأناقة من ثرثرة عبدالرحمن منيف في شرق المتوسط، لكنه تأنق، تلاعب بالناقد قبل القارئ واختار شكل السرديات المتصلة بحبل لا تراه إلا بعين القلب.
فهو يضع كتابه منذ البداية في موضع قلق، فلا هو يندرج مرتاحًا في خانة “أدب السجون”، ولا هو بحث اجتماعي، ولا هو كذلك سيرة ذاتية لسجين، ولا هو أخيرًا وثيقة سياسية أو حقوقية تفضح النظام وتظهر جرائمه للعموم.
ويكمل قائلاً بتضليل محكم : فإن كان لي أن أعبر عما يوحد هذه النصوص، فربما يكون الجهد الهادف إلى تحويل السجن إلى موضوع ثقافي، أعني شيئًا قريبًا من نزع السحر عنه والمساهمة في تقويض مايتصل به من أساطير، أسطورة السجين السياسي خاصةً، على أن في الكتاب بعدًا سيريا، يلم بأطراف من تلك “الطفولة الثانية ” التي كانها السجن لي، لقد مثلت تلك السنوات تجربتي الأساسية والمكونة، فلا مخرج لي منها، وإن انقضى على خروجي سنوات تكاد تساوي السنوات التي قضيتها فيه.
وقد يكون من السهل تخيل كل آلام الكتاب الثلاثة هنا مختصرةً بمثال ما بدأ به ياسين الحاج صالح في كتابه معنونًا لها ببساطة مؤلمة جدًا:
وقائع أساسية
– اعتقلت فجر يوم 7 فبراير 1980 كنت في العشرين من عمري، طالبًا في السنة الثالثة في كلية الطب بجامعة حلب، وعضوًا في الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي.
– تعرضت لتعذيب معتدل ليوم واحد، في “الدولاب” وعلى بساط الريح.
– أحلت مع رفاق آخرين إلى سجن حلب المركزي في المسلمية شمال حلب بعد أسبوع من الاعتقال.
– سمح لنا بإدخال الكتب في صيف 1982، بعد عام ونصف من الاعتقال.
– في ربيع 1983 صرنا نخرج إلى باحة السجن ونتريض.
– في عام 1985 توفرت لنا مواقد جاز للطبخ والشاي، كانت أتيحت على نحو متقطع في أوقات سابقة.
– حصلنا على جهاز تليفزيون في 1986.
– في العام نفسه، صارت أبواب المهاجع تترك مفتوحة بين الثانية ظهرًا والتاسعة أو العاشرة مساءً.
– في عام 1988 توفرت لنا الأقلام بعد إضراب عن الطعام لثمانية أيام.
– في أواخر 1991 أفرج عن أكثر نزلاء الجناح السياسي في سجن الملسمية وبقينا فيه 16 سجينًا.
– نقلنا إلى سجن عدرا شمال شرق دمشق في 14 أبريل 1992.
– أحلنا إلى محكمة أمن الدولة العليا بدمشق بعد ذلك بأسابيع.
– في ربيع 1994 نلت حكمًا بالسجن لمدة 15 عامًا.
– انتهت محكوميتي في 7 ديسمبر 1995، لكن لم يفرج عني.
– في الصباح الباكر من يوم 3 يناير 1996 نقلنا – 30 سجينًا – من ثلاثة أحزاب إلى سجن تدمر.
– يوم الخميس 19 ديسمبر 1996 أعدت من سجن تدمر إلى سجن دمشق وأفرج عني يوم السبت 21 ديسمبر 1996.
قضيت في السجن 16 عامًا و14 يومًا.
وأنا أنهي قراءة كل هذا العذاب لم أجد تبريرًا منطقيًا لكل هذا العذاب المنصب على أشقائنا في سورية سوى أن النظام اقتنع أخيرًا بأن سجونه ضيقة وأن المواطنين الذين كان مكانهم الحقيقي هو السجن قد هربوا في كل الجهات؛ فبدأ القصف والتعذيب على مرأى هذا الكون البائس.
لا أجد وصفًا للسجون العربية الكبيرة أكبر من وصف فرج بيرقدار بأن كل هذا عبث، عبث بامتياز هذا الـ “هنا”.
جنازة جانحة في محيط مسكون باللعنة ومخنوق بالدم والكراهية، وقت كسول مجلل بالرخاوة والبلاهة وبما يشبه النسيان.
كفر من طراز ما فوق شيطاني، تؤثر الآلهة أن لا تتورط في اعتراضه أو حتى مساءلته، فهل من جدوى للسؤال: وماذا بعد؟
يؤلمني أن أتهم اللغة بالخيانة، أو أطعن بأصالتها كوسيلة للتعبير، أشعر أنها مخذولة وعاجزة عن أي مقاربة مقنعة لما أريد، أتراها هي أيضًا تنوء بما تنوء به أنت؟
يا إلهي .. هي أيضًا!