لم يتبق للعراقيين ما يخشون عليه؛ فالعراق قابع اليوم في مؤخرة دول العالم الثالث في كل شيء.
في تقرير نُشر مُؤخرًا عن جودة التعليم، احتلت مصر ذيل القائمة، أما العراق فلم يكن موجودًا في القائمة من الأساس؛ حيث إن أبسط معايير جودة التعليم غائبة عنه، هذا باختصار هو واقع العراق وفي جميع مناحي الحياة، غائب عنها، الزراعة، الصناعة، التجارة، التعليم، الصحة، الإعمار، والبنى التحتية، كلها مدمرة في العراق وباتت في طي النسيان.
على الرغم من كون ميزانية العراق لعام 2014، ميزانية فلكية تتمثل بـ 154 مليار دولار أي ما يعادل ميزانية كل من: قطر، الكويت، والبحرين مجتمعة، أو ما يعادل أكثر من 11 ضعف ميزانية سلطنة عُمان، إلا أن العراق يستورد سنويًا بما تُقدر قيمته 75 مليار دولار، أي أن الميزانية الأكبر تستنزف في الاستهلاك، أغلب هذه البضائع تستورد بأضعاف ثمنها بصفقات فساد، أو تستورد بشكل عشوائي بدلاً من بضائع محلية متوفرة في السوق؛ فتزاحمها، ويكون دور الدولة هنا محاربة المنتجات المحلية بدلاً من دعمها.
كان العراق يعرف قديمًا بـ “أرض السَواد” لا لكثرة من يرتدون الأسود فيه ولا لكثرة حروبه، إنما لخصوبة أرضه وازدهار الزراعة فيها، فتبدو الأرض سوداء من بعد لكثرة المحاصيل فيها، اليوم تعاني الزراعة في العراق من التدهور والإهمال لدرجة أن الناتج لا يكفي الاستهلاك المحلي، وذلك لأسباب أهمها: عدم تفعيل قانون “حماية المنتج الوطني” المُشرع والذي لم يُفعل بعد لأسباب مجهولة، عندما تراجع صادرات دول الجوار من المنتجات الزراعية وتعلم أن العراق هو المستورد الأكبر منها، فربما لن تكون أسباب عدم تفعيل القانون أمرًا محيرًا لك.
يمكنك أن تدرك مدى تدهور الحالة عندما تعلم أن التفاح الذي تأكله في العراق قادم من أفريقيا وبرغم المسافات التي تقطعها بعض البضائع، إلا أنها لا تزال تجد طريقة للربح مع انعدام الضرائب الحدودية على إدخالها.
يعاني القطاع الزراعي أيضًا وبطريقة ما، من شحة المياه وإهمال مشاريع الري، مع أن بلاد الرافدين تمتاز بوجود نهرين من الأقصى إلى الأقصى، وبكثرة المسطحات المائية والمياه الجوفية فيه، بالإضافة إلى غلاء أسعار الوقود؛ الأمر الذي يجعل كلفة الحصاد وحدها لبعض المنتجات مساوية للربح الذي قد يجنيه المزارع من بيعها، نظرًا لوجود البدائل المستوردة التي تغزو الأسواق، ويعاني المزارعون أيضًا من إهمال الدولة لاستصلاح وتطوير الأراضي وتوفير التقنيات الحديثة في الزراعة ومكافحة الآفات الزراعية التي تقضي على محاصيل بأكملها أحيانًا، كل هذه الصعوبات أمام المنتج المحلي، والتسهيلات أمام المنتجات الأجنبية، كان من شأنها أن تسبب عزوف العدد الأكبر من المزارعين عن الزراعة؛ وبالتالي الإسهام في إضعاف الاقتصاد العراقي.
أما عن الصناعة، فقد عزا عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار برهان المعموري، تدهورها إلى تدخلات سياسية للتغطية على سياسات فساد سابقة في هذا القطاع، حاليا يكاد لا يوجد أي منتج مُصنع محليًا في العراق، واعتماد الدولة العراقية بالكامل على الاستيراد، فتُصرف مليارات الميزانية على الاستيراد بدلاً من صرفها على تطوير القطاع الصناعي، كما صرح حسين زنكنة، رئيس اتحاد الصناعات العراقية، أن مبادرات تطوير القطاع الصناعي في السنوات العشر السابقة، لم تحقق شيئًا على الرغم من إنفاق أكثر من 600 مليون دولار عليها.
ذكرت تقارير أن غياب الدعم الحكومي عن القطاع الصناعي وفتح الباب أمام الاستيراد في السنوات العشر الماضية، كان السبب الرئيسي في إغلاق نحو 110 ألف مصنع وتشريد 630 ألف عامل من عملهم؛ مما أدى إلى ازدياد نسب البطالة والآثار السلبية التي نراها اليوم في الاقتصاد العراقي.
وبرغم تتابع الوزرات والتغيير المستمر للمسؤولين والملايين التي صُرفت لا زلنا نرى المصانع العراقية الناجية تغلق واحدًا تلو الآخر، فكان آخرها “معمل أسمنت السماوة ” الذي يضم 700 عامل ويعد ثاني أكبر معمل في العراق، أما “معمل الحقن في بابل” فقد قررت الدولة أن توقفه، لأنه يحتاج للتيار الكهربائي لمدة 24 ساعة يوميًا، بعد أن كان المعمل ينتج 80 ألف قطعة يوميًا بتكلفة 50 دينارًا للقطعة أي ما يعادل 0.05 دولار أمريكي، بدل أن تعمل السلطات على توفير مولد كهربائي للمصنع، وتشجع إنتاجه، وتضمن استمرار العمال في العمل، قررت أن تنفق ضعفي المبلغ على استيراد حقن من الصين بالإضافة طبعًا إلى رداءة صناعتهم وتكلفة النقل من الصين إلى العراق.
أما معامل الدواء، فقد عُزل مصنع الدواء في نينوى مع المدينة، بعد سيطرة الدولة الإسلامية عليها، وهو أكبر معمل مصنع للدواء في العراق، أما مصنع سامراء فقد ضعف إنتاجه كثيرًا إذ لا يلبي 14% من الحاجة المحلية نتيجة العمليات العسكرية الدائرة قربه، وعدم تطويره ودعمه من الدولة، وبما أن الحدود العراقية مفتوحة أمام السائل والمحروم؛ فقد كثرت في الآونة الأخيرة عمليات تهريب شحنات الأدوية الفاسدة للعراق وسمعنا عن حالات تسمم وحتى موت نتيجة هذه الأدوية، وبالطبع وكما في كل الحالات السابقة فالباب مفتوح أمام الاستيراد ومغلق أمام الأبحاث والتصنيع والتطوير، والقطاع الطبي ليس استثناءً.
لا حاجة للحديث عن الإعمار أو البنى التحتية، خاصة مع وجود 1000 مدرسة طينية، ومع استحالة خلو شارع واحد من الحفر والمطبات، وبعد الطامة الكبرى التي حدثت وتحدث كلما كان الجو ماطرًا فنرى العاصمة في مشهد مضحك مبكي وقد تحولت إلى مستنقع ضخم ومنسوب المياه فيه يعلو مع كل زخة مطر، عندما ترى هذه المشاهد فحسب، من غياب أبسط مقومات الحياة الحضارية، من شارع وبناء مدرسي وشبكات صرف صحي، ستقتنع أن العراق يجب أن يوضع في تصنيف جديد مع دول “العالم الرابع” لا الثالث.
يعتمد الاقتصاد العراقي بشكل شبه كامل على تصدير النفط؛ لذلك يتوقع المحللون إفلاس دولة العراق بالكامل في مدة لن تتجاوز الثلاثة أعوام، لا لأن الاعتماد على مصدر واحد فقط سيؤدي إلى ذلك بشكل محتم فحسب، بل لأن الكوارث العالمية التي تحدث تؤثر على أسعار النفط، ويُتوقع أن تهوى إلى 20 دولارًا في العام المقبل، مما سيترك العراق مع مصدر دخل وحيد وضعيف.
عندما تعلم أن ميزانية دولة ما جاوزت 145 مليار دولار، لا بد أن تتخيل أن هذه الدولة هي إحدى الدول المتقدمة التي ينعم شعبها بالرخاء، لكن عندما تعلم أن هذه الدولة قد أهملت التعليم، الصناعة، الزراعة، الصحة، والإعمار، فستعلم أيضًا أن هذه الدولة قد أفلست وانتهت، وأن كل ما يمكن أن يحدث من انخفاض في مصدر دخلها الوحيد، أو أي انتكاسات قد تواجهها مستقبلاً ما هي إلا تحصيل حاصل لا يمكن أن يهوىة بها أكثر؛ لأن هذه الدولة مستقرة في القاع.