رغم اختلاف الدين وتداعيات الصراع العربي الإسرائيلي، لا يزال يهود جزيرة جربة، التابعة جغرافيًا وإداريًا للجمهورية التونسية، متشبثون بمدينتهم الأم، برغم ما شهدته البلاد من متغيرات على المستوى السياسي، وما تبع هذه المتغيرات من تأثير على وضع الجالية اليهودية هناك، ويذهب الكثيرون إلى تعميق الفصل – وحتى التشديد عليه – بين اليهود التونسيين ويهود إسرائيل، في حين يعتبر البعض هذا الكلام مجانبًا تمامًا للحقيقة، ويتشبث بكون اليهود في كل العالم هم داعم فعلي للكيان الصهيوني المحتل لفلسطين، ويشدد على أن العلاقة بين الاثنين وثيقة خاصة منذ انبعاث “مؤتمر تيودور هرتزل” كبير مؤسسي الصهيونية.
وتتبلور هذه القراءة، التي يتبناها الشق الثاني من الرائين على الأرض، في كون اليهود وعلى امتداد تاريخ وجودهم في تونس كانوا عرضة لشتى أنواع المخاطر، تمامًا كما هو حال الأقليات العرقية أو الدينية في كل بقاع الأرض، حيث وضعوا موضع اتهام في مراحل عدة من تاريخ البلاد أهمها سنة 85 من القرن المنصرم، عندما قامت مقاتلات إسرائيلية بشن غارات على مواقع بمدينة “حمام الشط” بدعوى تدمير مقرات يشتبه بوجود قيادات من منظمة التحرير الفلسطينية فيها، وقد ذهب ضحيتها شهداء مسلمون من سكان المناطق المجاورة لهذه المقرات.
تحرك حقد بعض التونسيين المسلمين آنذاك على اليهود كما تتحرك القذارة الراكدة في قعر القدر، وصنفوا اليهود جملة على أنهم أعداء البلاد والعباد رغم الشعار الذي يرفعونه دائمًا بأنهم يهوديون لا علاقة لهم بالصهيونية ولا بالإسرائيلين ولا بسياساتهم تجاه فلسطين، تعاظم خوف اليهود في ذلك العام وأحس بعضهم بأنه لا مكان له في تونس بعد الآن ما دفعهم للهجرة نحو إسرائيل، هذه الأخيرة التي ما فتأت تعرض خدماتها وامتيازاتها ليهود العالم في كل مناسبة لتشجيعهم على القدوم وتعمير البلاد في الأراضي المغتصبة.
ولقد كانت تلك الحادثة عرضية عابرة من ضمن عدة أحداث أخرى تجيب على سؤال محوري وهام وهو، ما الذي جعل عدد اليهود ينحدر في تونس إلى 1500 بعد أن كان 100 ألف بداية انتصاب الاستعمار و57 ألفًا سنة 1956 أي مع الاستقلال؟
التاريخ
يعود تاريخ اليهود في تونس إلى العصور القديمة، فقد تبين أن وجودهم على أرض تونس الحالية يرجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، على الرغم من أن بعض التآريخ تقول إن وصولهم إلى المنطقة يرجع إلى فترة أقدم من ذلك.
بعد الغزو الروماني عام 146 قبل الميلاد لأفريقيا، زاد عدد السكان اليهود في هذه القارة زيادة ملحوظة، وقد كانوا يمارسون التجارة والزراعة وتربية المواشي، وينقسمون إلى قبائل أو عشائر يحكمها مرجع يدينون له بالولاء، وبإعلان المسيحية كدين للدولة تعرض الكثير منهم لسياسة التمييز العنصري على أسس طائفية وعرقية، حيث تم الاستغناء عن خدماتهم في الوظائف العمومية، كما ضُيق عليهم العمل الحر، ومُنعوا من إقامة أية معابد جديدة لهم مع أنهم كانوا يدفعون الجزية للرومان عن يد وهم صاغرون.
ومع وصول الفاندال إلى الحكم في أفريقيا أُلغيت هذه التدابير العنصرية ضد اليهود، ويعزو بعض المؤرخين هذه المراجعات تجاههم إلى إيمان الفاندال بالآرية باعتبارها مذهب أقرب إلى التوحيدية اليهودية من الكاثوليكية التي عرف بها آباء الكنيسة، ولا شك أن هذه الفترة سمحت لليهود بالازدهار اقتصاديًا، مع أنها لم تدم طويلًا، إذ بعد انتصار جيوش البيزنطيين على الفاندال عادت آلة القمع لتُسلط على اليهود من جديد، حيث تحولت معابدهم إلى كنائس كما حظرت عليهم العبادات والاجتماعات الثقافية والدينية، ومع أن تعريب السكان بدا بطيئًا، إلا أن هذه الظاهرة سارت على نحو أسرع في المناطق الحضرية، نتيجة لقدوم يهود الشرق في أعقاب العرب، وفي كل مكان، استطاعت الطبقات الغنية منذ نهاية القرن الثامن، الانخراط في المجتمع الجديد على المستوى الثقافي، كما أنها استطاعت التحدث والقراءة والكتابة باللغة العربية.
تعاقب على أفريقيا الغزاة بأعراقهم ودياناتهم المختلفة مما كان يرفع من حال اليهود في تونس تارة ويحط منه تارة أخرى، ومع فرض الحماية الفرنسية في سنة 1881 فُتح عهد جديد لليهودية التونسية التي رحبت بالمبادئ الديمقراطية التي أدخلتها فرنسا، علاوة على ذلك، تحسنت حالتهم الاقتصادية وازدهرت.
ومع الفتح الإسلامي ووصول الإسلام إلى تونس في القرن الثامن، وجد “أهل الكتاب” من اليهود والمسيحيين أنفسهم يخضعون لثلاثة اختيارات هي، التحول إلى الدين الإسلامي، (خيار اعتمده بعض البربر الذين سُبق وهودوا)، أو الخضوع إلى وضع الذمي، أو التوصل إلى اتفاق بشأن الحماية، شأنهم شأن غيرهم من اليهود في البلدان الإسلامية، اختار يهود أفريقيا القبول بوضع الذمي، وكرد على الوضع الجديد، اختاروا الانخراط في المجتمع الجديد اقتصاديًا وثقافيًا ولغويًا، مع حفاظهم على خصائصهم الاستعمارية وبالتالي تولد عن تعليم الأجيال الجديدة تمازج بين السكان اليهود، حيث الكثير من العائلات اليهودية الثرية هجرت “الهارا” (أو الحارة كما اصطلح عنه عندنا اليوم، وهي معقل اليهود في تونس في ذلك الوقت)، وسعت إلى الاستيطان في أحياء أوروبية.
بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، حصل اليهود في تونس على حق التمثيل في جميع المجالس الاستشارية للبلد كالغرف التجارية ومستشاري الرؤساء وعلى مقاعد في المجالس الكبرى، في عام1931، شيد أكبر كنيس في تونس (السيناغوغ الواقع راهنًا بشارع الحرية بالعاصمة التونسية)، ونعمت الجالية اليهودية بفترة من السلم والنمو الاستثنائي، وعلى أعتاب الحرب العالمية الثانية، بلغ عدد اليهود التونسيين 56240، يضاف إليهم 7000 يهودي فرنسي و3000 يهودي إيطالي.
من نوفمبر 1942 إلى مايو 1943، احتلت قوات المحور كامل الأراضي في تونس الشرقية، وتحت وطأة الاحتلال الألماني، قُتل 350 يهوديًا نتيجة لقصف قوات التحالف، كما مات 600 إلى 700 شخص بسبب سوء التغذية والأوبئة، وبدءًا من منتصف عام 1950، بدأت الهجرة اليهودية إلى إسرائيل وفرنسا بشكل واسع النطاق حيث إن 25000 يهودي غادروا تونس بين عامي 1948 و1955، أما اليوم، فقد اختفى آخر أثر لذلك الماضي.
وعلى الرغم من الجهود الحقيقية المبذولة من جانب الحكومة التونسية والجمعيات التي نشأت، تداعت المقابر، وأُغلقت المعابد، ولم يعد هناك وجود لليهودية في الذاكرة الجماعية للأجيال، إلا نذر قليل لا يكادوا يُعدون.
اليهود في تونس اليوم
“كل مرة تأتي ضربة تدفع عبادًا إلى الهجرة خارج تونس، في الستينات والخمسينات وآخرها الثورة”، بهذا بررت السيدة “كلودين صغرون” في إحدى التصريحات التلفزيونية انحدار عدد اليهود إلى 1500 بعد أن كان ألوفًا مؤلفة، وهو ما يتطابق كليًا مع تبريراتنا لهذا التقلص في مستهل المقال.
ومعروف عند اليهود عادة أنهم يتجنبون كل ما من شأنه أن يجعلهم في خوف أو خطر (يهود العالم ولا نقصد تونس فقط) ومدل هذا الكلام ملاحظتنا لاستماتتهم في الوقوف في صف نظام بن علي أيام بداية انهياره وليلة خطاب 13 يناير 2011 تحديدًا، حيث ملأ التصفيق والتهليل والترحيب بهذا الخطاب أرجاء جزيرة جربة باعتباره ( بن علي) – وهذا للتاريخ – كان حاميًا لهم بصفة مثيرة للاهتمام، تحت ذريعة الحفاظ على الوحدة القومية والسلم الاجتماعي، لنجدهم – ومع سطوع نجم حركة النهضة الإسلامية – داعمين بارزين لها، ولا نقول كلهم بل السواد الأعظم منهم، وهو ما يعكس عقلية الخوف المستديم لديهم والركون إلى الفصيل الأقوى دائمًا، القادر على حمايتهم والحفاظ على مصالحهم، وهو ما جاءت به وعود قيادات حركة النهضة في ذلك الوقت.
وبعيدا عن الكلام الكلاسيكي المستهلك وعن القوالب الجاهزة التي تعتمدها الصحافة العالمية في إعدادها لربورتاجاتها كل سنة مع اقتراب موعد حج الغريبة الذي يأتي سنويًا في شهر مايو بجزيرة جربة، علينا الاعتراف – كأصيلي جزيرة جربة على الأقل – بأنه طالما وجدت في صدور الكثيرين من مسلمي تونس ضغينة معينة تجاه بعض اليهود (من الشباب خاصة) لاشتراكهم العقدي والديني مع يهود إسرائيل، إذ بإمكاننا أن نرى مسنًا يهوديًا في مقهى يقابل مسلمًا في لقاء شطرنج مثلاً في مشهد يبعث على الانسجام والهارموني، لكننا نسمع عن شاب اشتبك مع آخر يهودي في سوق الصاغة فقط لأنه يهودي الديانة، لا يختلف اثنان في كون مثل هذه التصرفات هي محض تصرفات عرضية، لكنها تبلغ مسامع حتى الصحافة الإسرائيلية أحيانًا وتوضع لها الموائد وتفتح لها المنابر للإفتاء والتحليل، ليتفاقم الحرص الإسرائيلي -كلما أتيحت له مثل هذه الفرص – على التشديد بضرورة هجرة يهود تونس إلى إسرائيل.
مستقبل اليهود في تونس
حسب مقال أصدرته جريدة “الجزيرة” (جريدة جهوية تصدر في جزيرة جربة منذ سنة 1980) فإن ست عائلات يهودية غادرت جربة نهائيًا نحو إسرائيل مع اندلاع الثورة في ديسمبر من عام 2010، وهو ما عكس في نفوس المراقبين حجم تخوف اليهود مع كل تغير يطرأ على وضع البلاد، سياسي كان أو اجتماعي.
في المقابل، نجد أن الألف ونيف المتبقين اليوم في جزيرة جربة، والعشرات المتناثرين بين حلق الوادي ومنطقة لافايات بالعاصمة والساحل بمدينة سوسة، يرفضون مغادرة تونس مهما حالت الأحوال ودالت الدول – حسب تعبيرهم – إذ إنهم يعتبرون تونس وجزيرة جربة تحديدًا مهدًا لهم ولأجدادهم وخاصة منارة لأداء طقوسهم الدينية المرتبطة في المطلق بمعبد “الغريبة” الذي يستقطب سنويًا آلافًا من اليهود من كل صوب وحدب، فضلاً عن عدم مقدرتهم على التخلي عن أعمالهم التجارية وصناعاتهم اليدوية المتمثلة خاصة في تجارة الذهب، فـ 70% من يهود جربة هم من الصاغة، ويتمركز نشاطهم في سوق “شارع بنزرت” من مدينة حومة السوق، ويأتون من حيهم المسمى “الحارة الكبيرة” أو حيهم الآخر “الحارة الصغيرة” لممارسة أعمالهم، باستثناء يوم السبت الذي يخصصونه للعبادات في منازلهم من قراءة للتوراة وهجر لكل ما هو قيادة للسيارات أو إجابة على المكالمات الهاتفية أو تجارة أو ما شابه، حسب ما تمليه عليهم أدبياتهم وعقيدتهم اليهودية.
وقبل أن ننهي، تحسن بنا الإشارة إلى العلاقة “الاستثنائية” التي تربط بعض اليهود التونسيين بالكيان الصهيوني باعتباره (كما لمحنا آنفا) آخر ملاذ لهم في صورة وقع الفأس على الرأس ومسهم الخطر المحدق بهم، ففي شهر رمضان قبل السابق وأيام العدوان الإسرائيلي على غزة المحاصرة تحديدًا، كتبنا تدوينة قصيرة على صفحتنا بالفيسبوك نشحذ فيها همم “كتائب عز الدين القسام” ونحثهم على الدفاع عن عرضهم، لتصلنا رسالة ثلب على الخاص من يهودي أصيل جزيرة جربة ويقطن حاليًا بفرنسا، يعلمنا فيها (باللغة الفرنسية) أنهم (ويقصد يهود العالم) كلهم مساندون لإسرائيل (nous sommes de partout dans le monde israel) هكذا قالها حرفيًا.
كما نذكر بأن “سيلفان شالوم” وزير خارجية إسرائيل قد ولد بمدينة “الحامة” الواقعة بالجنوب التونسي، وهو الذي حمل حقيبة وزارة الخارجية الإسرائيلية في مرحلة معينة وقام بزيارة لمسقط رأسه أثناء حضوره لمواكبة فعاليات القمة العالمية لمجتمع المعلومات بتونس سنة 2005، نضيف إليه المغربي المغاربي “دايفد ليفي” الذي شغل نفس المنصب مع نفس الكيان الغاصب لفلسطين و”بنيامين بن آل عيزر” العراقي الذي رشح نفسه لرئاسة دولة الاحتلال والإيراني “شاؤول موفاز” الذي رأس أركان الجيش في أكلح حقبة من تاريخ دولة الاحتلال.
هي أسماء وأفعال ووقائع نوصفها بكامل التجريد ونرويها كما هي، تجعلنا في حالة استهجان واستنكار وعدم مقدرة على معاينة الرابط الرفيع الذي صار بيننا وبين بعض من الذين يدينون بدين اليهودية، في رقعة جغرافية تسمى تونس، أهو الدين أم الوطن؟ أم أن الأول فرقنا ليجمعنا الثاني غصبًا؟