ترجمة وتحرير نون بوست
في خضم مشاهدتنا لسقوط تمثال صدام حسين وانهياره من الذاكرة، رأى بعض العراقيين بأن فترة التشافي الوطنية تلوح في الأفق، يدعمها على الأرض تأسيس دولة ديمقراطية ووظيفية ومساندة المجتمع الدولي، ولكن الكثير من العراقيين الآخرين كانوا أكثر تشككًا، حيث أملوا فقط بأن تستطيع الديمقراطية الوليدة شفاء جروح القمع والحرب، ولكن بالنسبة للبعض الآخر، شكلت هذه الجروح فرصًا بحد ذاتها، فلم يسعوا لمعالجتها، بل لمفاقمتها.
بالطبع لم يتمخض انهيار حزب البعث العراقي عن السلام أو الديمقراطية، بل ظهر الاحتلال المديد من تحت أنقاضه وعانت البلاد من براثن الحرب الأهلية التي نهشت جسدها وأوصالها، ولأكثر من عقد من الزمان مازال تجار الصراع من مختلف المشارب الأيديولوجية يتنافسون لملء الفراغ الذي خلفه صدام حسين، وأحيانًا للاستفادة منه.
بالنسبة للمتطرفين الإسلاميين، أمراء الحرب الطموحين، والسياسيين الفاسدين، لم يكن “العراق الحر” يعني حرية بناء نظامًا سياسيًا تمثيليًا جديدًا مطلقًا، بل كان يعني حرية النهب وحرية تحويل الآليات الموروثة من الدولة السابقة لغاية إثراء الذات والسيطرة الاجتماعية.
على الرغم من كافة ما سبق، طفقت مفارقة بشعة؛ تمثلت بتمخض الصراع عن تجربة ديمقراطية مثالية واحدة على الأقل، إنها المساواة، فحتى مع تحول معركة النفوذ، وما يترتب عليها من دوامات الانتقام، إلى الطابع الطائفي بشكل مطرد، كان العنف ثابتًا ومستمرًا في حياة جميع العراقيين بالتساوي، ولا يوجد مكان أشد وضوحًا لنتلمس من خلاله المساواة الوحشية للحرب الأهلية في العراق أكثر من المستشفيات والعيادات المحاصرة في البلاد.
بعد حوالي نصف قرن من الفساد الحكومي المستفحل، الذي تخللته العقوبات الدولية والحرب، أضحت البنية التحتية للرعاية الصحية في العراق على حافة الانهيار، ونتيجة للتمرد المفتوح الذي استشرى في العديد من المحافظات الأساسية في البلاد، تراجعت حتى أدنى الشروط الأساسية للحصول على الرعاية الطبية غير المتحيزة في ظل تصاعد الهجمات واطرادها.
أحد زملائي، والذي سأشير إليه هنا باسم أحمد، شهد على حالة التدهور المتوازي للأمن والرعاية الصحية منذ بداية المطاف؛ ففي مدينة هيت، والتي تبعد حوالي 30 كيلومترًا عن مدينة الرمادي في محافظة الأنبار، تضرم جبهات القتال بشكل متقطع بين داعش والقوات الحكومية والميليشيات القبلية منذ حوالي العام تقريبًا، ومع اشتداد ضرواة النزاع، فر أحمد، وهو أخصائي بطب الأطفال كان يعمل في مستشفى هيت، من العنف المضرم في مدينته ليحط الرحال في بغداد العاصمة.
ولكن، كما أضحى شائعًا الآن في العراق، مهنة أحمد كطبيب جعلته هدفًا دائمًا لكافة الأطراف؛ فلدى وصوله إلى بغداد، تلقى تهديدات متكررة بالقتل من عصائب أهل الحق والميليشيات الشيعية المحلية الأخرى، الذين اشتبهوا على الأرجح بأنه كان يعالج مصابي داعش أثناء وجوده في الأنبار، وتبعًا لعدم وجود بدائل أخرى، قرر أحمد مجبرًا العودة إلى هيت، على أمل أن تكون الظروف في المستشفى الذي يعمل به هناك قد تغيرت.
الظروف تغيرت فعلًا، ولكن ليس كما كان يشتهي أحمد، فعندما تكلمت معه آخر مرة في أغسطس، أخبرني بأنه الطبيب الوحيد الذي بقي في المدينة، حيث فر جميع الأطباء الآخرين أو قتلوا مع تقدم داعش في المدينة، وعندما انسحب الجيش العراقي من هيت في أكتوبر الماضي، عملت الجبهة الناجمة عن ذلك على محاصرة المستشفى تمامًا، ومنع وصول المدنيين إلى الطرق المجاورة، ونتيجة لذلك، تعذر على المنشأة الحصول على الأدوات والمعدات الطبية أو الإمدادات الأساسية، وتعرضت لأضرار دائمة نتيجة لتوسطها منطقة تبادل إطلاق النار المستمر.
كما هو الحال في بغداد، يعمل أحمد اليوم في ظل جو مشحون بالخوف والتوجس من الانتقام، لأنه يقوم بعلاج أبناء جلدته بغض النظر عن انتماءاتهم أو ولاءاتهم، ولكن بالنسبة لداعش، هوية المرضى الذين يعالجهم أحمد، وهو الأمر الذي يقبع في أسفل درك سلم الأولويات في القواعد المهنية الطبية، قد تحدد ما إذا كان يرتكب أو لا يرتكب عملًا من أعمال الحرب، وعملية العلاج، تحدد أيضًا ما إذا كان أحمد سيعيش أو سيموت، وفقًا لدستور داعش.
أمام الأهواء المتطرفة لعناصر داعش، أصبح سلاح الدفاع الأساسي الذي يمتلكه أحمد والمتمثل بالحياد الطبي، وهو المبدأ الذي يقضي بوجوب عدم التمييز وتوفير الرعاية الطبية الشاملة للجميع بغض النظر عن هويتهم وانتماءاتهم، ركيزة يمكن التعويل عليها لاتهامه بجريمة يعاقب عليها بالإعدام.
قصة أحمد ليست حالة منفردة، فتعدد الجهات المسلحة، بما في ذلك داعش، الجيش العراقي، والميليشيات الشيعية، أنتجت بيئة قاتلة لمقدمي الرعاية الصحية وأسرهم، وفي غياب أي إطار مستقر للسياسة العامة، شهد المجال الطبي انخفاضًا حادًا في التنظيم والدعم والحماية، وبالنسبة للمجتمعات الفقيرة في العراق، أدى نقص الأدوية، المتزامن مع الحالة الطبية المأساوية في البلاد، إلى عودة ظهور العديد من الأوبئة المعدية التي تم القضاء عليها سابقًا.
والأسوأ من ذلك، هو خضوع الأطباء بشكل متزايد للأوامر المتقلبة للمحتلين المؤقتين، بدلًا من خضوعهم لأوامر إدارة المستشفى؛ ففي الموصل، على سبيل المثال، قامت قوات داعش باحتلال كامل المستشفيات، وهددت بتدمير منازل الأطباء وقتل أسرهم في حال فروا من المنطقة، كما تشير التقارير إلى أن وحدات الجيش العراقية اعتدت على المستشفيات في المناطق التي يسيطر عليها المتطرفون، حيث سيطر المقاتلون على اختلاف انتماءاتهم على المرافق الطبية وحولوها إلى مواقع عسكرية.
الضبابية والتحول المستمر في خطوط المعركة يعني عدم تقيد السياسات الطبية بالمعايير التقليدية، بل تحديدها وفقًا لرياح وأهواء الحرب، ومن الناحية العملية، هذا يعني أن تقديمك للعلاج لأحد المرضى في أحد الأيام، قد يعرضك لعقوبة الإعدام، حتى ولو قمت بذلك تحت تهديد البندقية التي تم توجيهها إلى رأسك.
إذا رفعت المستشفيات يدها عن المرفق الطبي، فهل يمكنكم الاعتماد على محتلي المنطقة لاحترام قسم أبقراط الطبي؟
نتيجة لممارسات الاستغلال والانتقام، من غير المفاجئ أن نشهد نزوحًا جماعيًا للعاملين في المجال الطبي العراقي، حيث ذكرت الجمعية الطبية العراقية في تقرير لها، أنه حتى عام 2007 ترك ما لا يقل عن 75% من الأطباء، الصيادلة، والممرضين وظائفهم في الجامعات والعيادات والمستشفيات، وأكثر من نصف هؤلاء فروا خارج البلاد.
مع ذلك، لم ينج جميع الأطباء بحياتهم، فخلال ذات الفترة، وبين عامي 2003 و2007، قُتل أكثر من 2000 طبيب عراقي، واختطف أكثر من 250 طبيبًا آخر، وفي عام 2008، أفادت دراسة استقصائية حول الأطباء العراقيين بأن أكثر من 80% من المستطلَعين تعرضوا للاعتداء الجسدي مرة واحدة على الأقل؛ و38% من طاقم غرف الطوارئ أفادوا بتعرضهم لحالات التهديد العنيف بالسلاح.
ومع ذلك، ورغم الخطر المتنامي، كثير من الأطباء، مثل أحمد، يواصلون بشجاعة فائقة تحديهم للعنف والترويع اليومي بغية إنقاذ حياة مواطنيهم؛ إنهم لا يفعلون ذلك لمصلحة طائفة أو أيديولوجية، أو لصالح طرف سياسي، إنهم يعرفون حق المعرفة بأن إنقاذهم لحياة أخرى قد يكلفهم حياتهم الخاصة، ولكنهم يمارسون مهمتهم أملًا بأن يتسامى أولئك الذين التئمت جراحهم فوق الانقسامات، ليفكروا بالجروح المشتركة التي يتشاطرها العراقيون جميعًا.
المجتمع الدولي يدين لهؤلاء الأطباء، ولهذا البلد، ويجب عليه مساعدتهم للقيام بمهامهم ضمن ظروف أكثر أمانًا.
المصدر: ميدل إيست آي