ترجمة وتحرير نون بوست
يحكى أن بلادًا تم تأسيسها وفق حدود مرسومة بشكل مصطنع، وكان يسيطر عليها نظام استبدادي حكم بوحشية مطلقة، مستخدمًا جميع أدوات الحكم الشمولي، كالسجون، سياسة الإفلات من العقاب، ونظام المخابرات الداخلي القمعي، وفي نهاية المطاف، انفجرت موجة الكراهية الدينية والعرقية ضمن الدولة، وفي إحدى الحوادث، تم إعدام 8000 رجال وشاب على مدى بضعة أيام، رغم الجهود – الضعيفة – التي بذلها المجتمع الدولي، وإثر ذلك قُتل مئات الآلاف، وشُرّد الملايين.
نعم، تبدو هذه القصة كحال سورية اليوم، ولكن في الحقيقة تتحدث القصة عن منطقة البلقان في تسعينيات القرن الماضي.
عندما تم تقسيم يوغوسلافيا في البداية، حاولت الجماعات العرقية والدينية المختلفة في البلاد التشبث بالسلطة، تمرير المطالبات الإقليمية، وخلق دويلات جديدة، وعلاوة على كل شيء، مارست الجماعات التطهير العرقي كل ضمن منطقته، كل هذا أدى إلى تفجر حرب شاملة في وقت مبكر من تسعينيات القرن الماضي، وعن هذه الحقبة، يتكلم كتاب روبرت كابلان الرائع “أشباح البلقان”، الذي يحكي حكاية طويلة ومريرة عن تاريخ المنطقة منذ قرون، ولا يلزمنا الكثير من الخيال والتأمل لمعرفة أوجه تشابه البلقان آنذاك مع سورية اليوم.
بطبيعة الحال، هناك اختلافات جوهرية وهامة ما بين الحالة البلقانية والسورية، ولكن في الوقت الذي يواجه فيه المجتمع الدولي بشكل متزايد النتائج المروعة لتفكك الدولة السورية، يضحي من المفيد أن نتعلم الدروس التي يمكن استخلاصها من الطريق الطويل والمضطرب الذي شهده العالم أثناء سيره قدمًا تجاه تهدئة أزمة البلقان، ومع اقتراب الذكرى الـ20 لاتفاقات دايتون التي أنهت الحرب في البوسنة، يتعين علينا أن نفكر على نحو متسق لحل المشاكل التي تضرم في سورية اليوم.
المشاركة الدولية هي المفتاح، فالأجندة المطروحة داخليًا لن تكون قادرة على الهيمنة على الوضع المتأزم، مهما شعر أنصارها بقوة موقفهم، وبعبارة أخرى، التنازلات ضرورية لحل الأزمة، ووضع “الخطوط الحمراء” سيأتي بنتائج عكسية في حال ما لم يتلازم ذلك مع القوة المتطلبة لإنفاذ هذه الخطوط، وهذه القوة غابت عن منطق الولايات المتحدة عندما امتنعت عن اتخاذ قرار بالتدخل بزخم أكبر في وقت مبكر عندما استخدم نظام الرئيس السوري بشار الأسد الأسلحة الكيماوية ضد شعبه.
كان يتعين على المجتمع الدولي أن يبني في الجلسة الأولى من اجتماع فيينا الذي انعقد الأسبوع الماضي، نوعًا من الاتفاق حول تأسيس نظام جديد في سورية، وهنا نتساءل، ما هي الدروس الأخرى التي يمكن أن نتعلمها من البلقان في سياق الأزمة السورية؟
الاعتراف بأن الجهد الدولي سيستغرق عقودًا: أسوأ عناصر صراعات البلقان باشرت بالظهور فورًا بعد سقوط جدار برلين وانهيار عملية السلام الهشة التي تلت تفكك يوغوسلافيا، فعلى مدى السنوات الـ 20 التي تلت ذلك، شهدت المنطقة سلسلة من المناوشات، المجازر، الصراعات المحلية، النزاعات، حملات التطهير العرقي، والحروب، وذلك في البوسنة والهرسك وكوسوفو على حد سواء، وإيجاد حل بالوسائل الناعمة والخشنة للمجتمع الدولي استغرق أكثر من 15 عامًا للوصول في نهاية المطاف لمخرج من الوضع السائد على الأرض في البوسنة، وحتى اليوم لا تزال التوترات الخطيرة تحكم العلاقة بين كوسوفو وصربيا، وتجد مكانًا لها داخل البوسنة، ولسوء الحظ، حل المشاكل في سورية سيستغرق فترة طويلة أيضًا نظرًا للاستقطاب السني الشيعي الذي يحكم الصراع أساسًا، إضافة إلى الفظائع التي ارتكبت على مدى السنوات الخمس الماضية.
علينا ألا نفزع أو يتسلل اليأس إلى نفوسنا جرّاء النكسات الأولية، وأصوات النقاد، واحتمالات الفشل في تحقيق نتيجة سريعة؛ ففي البلقان، تطلّب الأمر عدة تدخلات من جانب المجتمع الدولي، كمنظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو” وغيرها، بما في ذلك روسيا، قبل التأسيس لبعض مظاهر النظام، واستغرق الأمر فترة طويلة أخرى لضم بعض هذه الدول الجديدة إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وغيرهما من مؤسسات الاستقرار الأوروبي، ومن المرجح أن يكون حل الأزمة في سورية صعبًا على نحو مماثل، ونحن ببساطة بحاجة لتقبل ذلك، بعيدًا عن الشعور بالإحباط.
يجب علينا أن نكون خلاقين ومبدعين في ابتكار الحلول: في يوغوسلافيا، كان من الواضح أن الدولة الموحدة الخيالية لن تنجو من الانقسامات التي واجهتها، حيث أضحى من الواضح في وقت مبكر بأن حفنة من الدول الصغيرة ستنهض من رماد يوغوسلافيا، ونحن نقترب بسرعة من هذه النقطة في سورية، فبعد أن سقط الجدار، وانكسر الإناء، لن نستطيع تجميع شتات البلاد سويًا مرة أخرى.
بدلًا من ذلك، من المرجح أن تنهض دولة علوية مهلهلة على طول شاطئ البحر الأبيض المتوسط السوري، وستحوز هذه الدولة السيطرة على دمشق أيضًا، وفي الشمال الغربي سيحكم جيب كردي، وفي وسط البلاد، حيث يهيمن اليوم تنظيم الدولة الإسلامية، سيحكم السنة، وقد يبزغ أيضًا مجال لحل فيدرالي يحافظ على وحدة البلاد، كما هو الحال في العراق اليوم، وهو حل يمكن استكشاف آفاقه وسبله أيضًا.
تعيين المفاوضين الصحيحين: رغم أن اتفاقات دايتون كانت أبعد ما تكون عن كونها كاملة، إلا أنها شملت جوقة فاعلة وقادرة من المفاوضين على الطاولة، وللتعرف على أهمية انتقاء الشخصيات ضمن المفاوضات، يكفينا أن نلقي نظرة على كتاب “شن الحروب الحديثة” للجنرال ويسلي كلارك، الذي ساعد في تفاوضات البلقان جنبًا إلى جنب مع ريتشارد هولبروك، وبالإضافة إلى ذلك، نحن بحاجة لأن نتجاوز الاتفاق النووي الإيراني، بغض النظر عن فهمنا غير المكتمل لما سينجم عنه، وذلك بغية تقدير القوة التي سنحوزها عندما نجمع الأشخاص المناسبين حول طاولة المفاوضات للخروج باتفاقات دولية معقدة.
في السياق السوري، اختيار فريق يحوز خبرة تفاوض عميقة يعد أمرًا مهمًا للغاية، وبالنسبة للولايات المتحدة، يتبادر إلى الذهن فورًا شخصيات كالسفيرين السابقين رايان كروكر وروبرت فورد، وشخصيات عسكرية كالجنرال جون أبي زيد، القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية والذي يتحدث العربية بطلاقة، وفي الوقت عينه، تعيين مفاوضين مماثلين من قِبل الدول الأخرى سيكون أمرًا حاسمًا أيضًا، فمن الواضح أن هذا ليس وقت المفاوضين الروس المتشددين، كما أن إيران عليها أن تندب فريقًا جاهزًا لبناء الاتفاق نووي مع صلاحيات للتفاوض بشأن اللعبة الإقليمية طويلة الأمد، فضلًا عن أن السعودية ستضطر لأن تكبت نفورها التقليدي من أي موقف قد يُظهر الإيرانيين بمظهر المتفوقين.
الاعتراف بعدم هيمنة أجندة مفردة على مسار المفاوضات: لا يوجد جدول أعمال واحد قادر على الهيمنة على مسار عملية التفاوض، ففي سوريا اليوم، كل بلد يحوز أهدافًا خاصة، روسيا تريد أمن الأسد بالسلطة والعودة إلى الوضع السابق، الولايات المتحدة والعديد من حلفائها الأوروبيين يسعون لوضع الأسد على الفور تحت الوصاية الدولية وإرساله إلى لاهاي لمواجهة العدالة، والمملكة العربية السعودية وإيران تريدان الحفاظ على وكلائهما في المنطقة، وهكذا دواليك.
أيًا من تلك البرامج لن تكون قادرة على الفوز بشكل منفرد، كما يوحي تكوين الأمور في الوقت الراهن، وهذا يعني بأننا بحاجة لتقديم التنازلات للوصول إلى حل وسط، مهما كانت تلك التنازلات كريهة لكل طرف معني؛ وقد يشمل ذلك بقاء الأسد بالسلطة ضمن نوع مؤقت من اتفاقات تقاسم السلطة، لينتظره منزل ريفي في روسيا في نهاية المطاف، وفي هذا السياق ينبغي على الأمريكيين وحلفائهم إدراك أن من مصلحتهم المضي قدمًا ووقف هذا الكارثة الإنسانية من التمدد أكثر مما هي عليه الآن، ودعونا نتذكر مصير الديكتاتور الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، الذي انتهى به المطاف للموت في زنزانة بلاهاي، بعد أن واجه التهم الموجهة ضده.
الأمور تبدو معقدة بشكل رهيب، ولكن تجربة البلقان تبين أن الحل ممكن، وإذا لم يستطع المجتمع الدولي استيعاب هذه المشكلة الشائكة اليوم، سوف ننظر إلى يومنا هذا بعد عقد من الزمان، لنتأسف على عارنا وعجزنا الجماعي عن وقف ذبح وتشريد الملايين من البشر؛ لذا دعونا نأمل أن نتمكن من العمل سويًا لنؤسس لحل يشبه بنتائجه حل البلقان، مهما بدا هذا الحل معقدًا وقاصرًا عن تحقيق الطموحات اليوم.
المصدر: فورين بوليسي