رغم أن الرئيس السوداني الحالي المشير “عمر البشير” هو أحد أبناء القوات المسلحة السودانية، إلا أنه بعد صعوده إلى سدة الحكم بانقلاب عسكري في العام 1989، بدأ يعتمد على جهاز الأمن والمخابرات الوطني الذي أعاد تأسيسه لتثبيت سلطته في البلاد، مبتعدًا تدريجيًا عن الاعتماد على الجيش بكشل كبير، حتى أصبح جهاز الأمن والمخابرات الوطني في السودان معروف بتصدره بنية السلطة في الحكم.
على أن الجيش منذ ذلك الوقت تمتع بمزايا عديدة ووضع خاص وإعادة هيكلة لصالح أيديولوجية الجبهة الإسلامية التي قادت انقلاب 1989 أو ما يُعرف بثورة الإنقاذ، وقد استخدمت قواته في العديد من المعارك التي خاضها النظام داخليًا أو خارجيًا، ولكن مع مرور الوقت بدأ يخفت بريق القوات المسلحة من مشهد السلطة، خاصة مع تكرار محاولات الانقلاب على النظام والتي نجح جهاز الأمن والمخابرات في التصدى لها.
هذا الأمر أفقد الثقة في الجيش على حساب تغول الجهاز الناشئ الجديد الذي سُخرت له كافة الإمكانيات لضمان اختراق كافة المؤسسات داخل السودان حتى الجيش نفسه، رغم أن الجهاز اعتمد في بداية نشأته على عناصر من القوات المسلحة السودانية، وهو ما نشئ عنه صراعًا داخليًا مكتومًا بين الجهاز والجيش، انتهى الصراع بانتصار جهاز الأمن والمخابرات الذي حظي بثقة الرئاسة السودانية والحزب الحاكم في البلاد “حزب المؤتمر الوطني”، حيث تم تصدير الجهاز كمدافع عن إسلامية النظام ضد المؤمرات التي تحاك له من كل جانب.
وأصبح بعد ذلك جهاز الأمن والمخابرات هو واجهة البنية السلطوية في النظام السوداني الحاكم، بعدما استفحلت اختصاصاته وأهدافه التي ترعاها الرئاسة السودانية بشكل مباشر، في المقابل خفت نجم الجيش الذي بات يعتمد على ميزانية ضعيفة نسبيًا إذا ما قورنت بميزانية جهاز الأمن والمخابرات، كذلك مع استقلالية الجهاز عن الجيش واعتماد قواته الخاصة به، أصبح الاعتماد داخل النظام على الجيش يقل شئ فشئ، حتى اعتمد الجيش على ضباط من غير ذوي الكفاءة من الناحية التجنيدية، مع معاناته بسبب قلة ميزانيته مقارنة بأجهزة الأمن الأخرى.
حيث بدا النظام مهتمًا بالأمن السياسي على حساب الجيش الذي لم يُأمن جانبه يومًا، وباتت مسألة ترويضه هي أحد مهمات جهاز الأمن والمخابرات السوداني، حتى بدأت الشكاوى تخرج من الجيش إلى العلن بعد إنهاكه في العديد من المعارك ضد حركات التمرد المسلحة، مع توقف عمليات التحديث والتطوير.
في عام 2012 تقدم قرابة 700 ضابط بمذكرة للرئيس السوداني عمر البشير ووزير الدفاع عبدالرحيم حسين طالبوا بتحسين الكفاءات العسكرية للقوات المسلحة ومحاربة الفساد وإجراء إصلاحات سياسية في البلاد، أكد الضباط في مذكرتهم على ضرورة الالتفات إلى شأن القوات المسلحة التي تواجه جملة من المشاكل التي تخل بأدائها وتمنعها من النهوض بواجباتها وقالت بوجود احتياجات ماسة في مختلف جبهات العمليات العسكرية التي يقوم بها.
وتكرر الأمر في العام 2013 حين تقدمت مجموعة أخرى من ضباط، وضباط صف، وجنود، بقيادة قائد الكلية الحربية بمذكرة لرئيس الجمهورية طالبوا فيها بإصلاحات شاملة في القوات المسلحة، تتضمن بالضرورة الإطاحة بوزير الدفاع “عبد الرحيم محمد حسين”، الذي وُصف في المذكرة بـ”الفاشل”، ودعت المجموعة للاجتماع بالرئيس بإعتباره القائد الاعلى للقوات المسلحة.
وتزايدت هذه النغمة داخل الجيش مع احتدام القتال مع الحركات المسلحة المتمردة في أكثر من اتجاه، حتى وصلت إلى أروقة البرلمان السوداني الذي صدق على مشروع قرار، يلزم الجهاز التنفيذي للدولة بتوفير احتياجات القوات المسلحة السودانية، وتحسين شروط الخدمة العسكرية لأفراد وضباط الجيش.
أتت هذه الخطوة بعد سلسلة شكاوى بثتها وزارة الدفاع السودانية في أوقات متفاوتة أمام البرلمان، تتصل بضعف مرتبات أفراد الجيش، وأخرى تتعلق ببيئة العمل التي فقدت قدرتها على جذب الشباب، كما الرسائل التي حملت شكاوى من تغول أجهزة الأمن على سلطة الجيش ومهامه.
قرأ البعض هذه القرار على أنه محاولة لتمديد أدوار الجيش في بنية السلطة السودانية، بحيث يعود إلى صدارة المشهد كلاعب رئيسي في المشهد السوداني، خاصة وأن القرار جاء على خلفية بيان أدلى به وزير الدفاع السوداني أمام البرلمان، والذي أتبعه البرلمان بهذا المشروع الذي يهدف إلى دعم القوات المسلحة السودانية.
أما على الجانب الآخر فقد نظر البعض إلى القرار بنظرة سلبية، حيث اعتبروه فضفاضًا لم يحدد طبيعة الدعم الذي يفترض أن يوجه للجيش، إذ لا يعدو في وجهة نظرهم محاولة لاستعادة وضع الجيش وصلاحياته التي تقصلت داخل النظام.
حيث سبق مشروع القانون هذا المطروح في البرلمان، تعديلات تخص صلاحيات جهاز الأمن، والتي جعلت من مهامه الجديدة رعاية الأمن الوطني داخليًا وخارجيًا ،ووسعت سلطاته حتى امتدت إلى مكافحة كل التهديدات التي تواجه الحكومة، حيث عززت صلاحيات جهاز الأمن الوطنى والمخابرات الذى يشرف على القتال مع مسلحين مناوئين للنظام فى مناطق عدة من السودان.
وبموجب هذه التعديلات باتت الفقرة المتعلقة بصلاحيات جهاز الأمن الوطنى والمخابرات على الشكل التالى “يكون جهاز الأمن الوطنى قوة نظامية مهمتها رعاية الأمن الوطنى الداخلى والخارجى ويعمل هذا الجهاز على مكافحة المهددات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية كافة والإرهاب والجرائم العابرة للوطنية”، بعدما كانت صلاحياته مقتضبة في جمع المعلومات والتحليل.
فقد شهدت القوى الأمنية في السودان صراعًا مؤخرًا بسبب تدخل قوات جهاز الأمن والمخابرات في عمليات قتال المتمردين من حركة العدل والمساواة مما أدى إلى مقتل ضباط وضباط صف وجنود من الجهاز، وهو ما أثار ذلك الخلاف الذي رأى البعض فيه أن القتال مهمة القوات المسلحة، أما جهاز الأمن يمكنه المساعدة فقط.
كذلك تسعى بعض مراكز القوى داخل النظام لمعادلة موازين القوى بين الجيش وجهاز الأمن بعد أن اختلت مؤخرًا، وذلك خشية تضخم الجهاز وسلطته بالقدر الذي لا يستطيع النظام التعامل معه، خاصة مع ورود أسماء ضباط قيادات عليا بالجهاز في أكثر من محاولة انقلاب فاشلة أحبطت من جانب قيادات موالية للبشير.
حيث جرت منذ عام عملية إستبدال ضباط من جهاز الأمن بضباط من القوات المسلحة، تمت في إطار تصفية الضباط الذين يشك في صلتهم بمجموعة يشك في ولائها داخل جهاز الأمن، ولفرض المزيد من سيطرة ضباط القصر الرئاسي على الأجهزة الأمنية، وقد تحدثت الأنباء عن إحالة 68 ضابطًا من جهاز الأمن إلى المعاش الإجباري .
في الوقت الذي بدأ الجيش السوداني فيه يحتل أهمية لدى النظام عند مشاركته في عاصفة الحزم التي كانت لها تبعات اقتصادية جيدة على السودان بعد الدعم الاقتصادي السعودي، والذي طال الجيش نصيبًا كبيرًا منه.
فيما يُفسر البعض هذه التحولات داخل بنية السلطة في السودان بأنها شكلية، من حيث كونها صراعات بين مراكز القوى داخل الحزب الحاكم والقصر الرئاسي، والتي يتم على أساسها إبعاد بعض الضباط بتهمة موالاة مجموعة بعينها داخل الحزب الحاكم، ومن ثم إحلالهم بمجموعة موالية لقيادات أخرى، إلا أن تحركات القوات المسلحة منذ عدة سنوات تنبئ عن رغبة دفينة للعودة لتقاسم السلطة مع جهاز الأمن والمخابرات، وتحسين وضعها في ترتيب هرم السلطة داخل نظام الحكم في السودان.