لعل شعب الانتفاضة العظيم قادر على هزيمة عدوه، تمريغ أنفه، كسر نفسه، وتلقينه دروسًا جديدة يضيفها إلى تاريخه، ويراكمها إلى خبرته، وهو على ذلك قادر، وتجربته معه تشهد وتاريخه الطويل معه يؤكد على قدرته على الصمود أمامه ومواجهة مخططاته وإفشال سياساته، فهو لا يخافه ولا يخشاه، ولا يحذره ولا يهرب منه، ولا يفر من أمامه أيًا كانت قوته وسلاحه، وبطشه وإرهابه، وبغض النظر عن حلفائه ومناصريه، ومؤيديه ومعاونيه، الذين ينصرونه ظالمًا، ويؤيدونه معتديًا، بل إن بطش العدو يزيد الفلسطينيين قوة، وشدته تزيدهم بأسًا، وظلمه يزيدهم صبرًا، ورجاله وأبطاله على مدى الأيام يثبتون أن هذا الشعب لا يخاف من عدوه، لا يستكين له ولا يخضع، لا يذل له ويخنع، ولا يستسلم له ويركع.
الفلسطينيون يتكفلون بعدوهم، ويعلنون استعدادهم لمواجهته، ولا يبدون عجزهم عن القيام بمهتمهم هذه التي لا يرون أنها مستحيلة وإن كانت صعبة، ويعتقدون بنهايتها الإيجابية وإن كان نفقها مظلم وطويل، ومقلق ومخيف، ولكنهم يشكون في قدرتهم على مواجهة مشاكلهم الداخلية، ومعالجة أدوائهم البينية، فقد أعجزهم الانقسام، أوجعهم الاختلاف، نالت منهم الفرقة والخصومة والنزاع، تضررت سمعتهم، بهتت صورتهم، تراجعت هيبتهم، وانفض المؤيدون والمناصرون من حولهم، لا بسبب عدوهم الباغي الطاغي، وإنما بسبب الانقسام الذي جعل العدو على جراحهم يرقص، وعلى أحزانهم يترنم، وقد تأكد لديه وهم على هذا الحال الانتصار عليهم، ولم يعد في حاجة إلى بذل المزيد من الجهد، أو تقديم المزيد من الخسائر، فقد كفاه الفلسطينيون بانقسامهم مؤونة المواجهة، وضريبة المقاومة.
لا شيء أعيا الفلسطينيون كانقسامهم، ولا شيء أخزاهم أمام محبيهم كنزاعهم، ولا شئ يضعفهم كالخصومة فيما بينهم، فالاختلاف الداخلي قد فت في عضدهم وجرأ العدو عليهم، ومكنه منهم، وجعله يسخر منهم ويتهكم، ويستخف بهم ويهزأ، والفلسطينيون يعلمون ذلك يقينًا، ولا يشكون في أنه عيب مشين، وفعل قبيح غريب، وسلوك مهين مذل، ويعرفون أن هذا هو مرضهم العضال أو هو السم الزعاف، وقد يكون فيه مقتلهم الأكيد، وخاتمتهم الوخيمة، وأن أحدًا لا ينقذهم منها أو من المرض وخاتمته الموت سواهم أنفسهم، فهم الذين يعرفون الداء ويعرفون الدواء، وهم الذين يشكون من المرض ويعرفون سبل الشفاء منه.
الغريب أن قيادة الشعب الفلسطيني وقادة فصائله وأحزابه، يعلمون أن الشعب هو الذي يدفع ثمن اختلافهم وانقسامهم، وربما كثير منهم لا يعاني ولا يشعر بحجم الأذى الذي يعاني منه الشعب، فهم يملكون امتيازات وعندهم صلاحيات، ويتمتعون بأعطيات كبيرة وهبات مميزة، وعندهم بطاقات مهمة للشخصيات الهامة، وعندهم تسهيلات خاصة؛ فلا يضطرون للوقوف على الحواجز، ولا يتأخرون عن مواعيدهم ومصالحهم، إذ لا يعيقهم أحد، ولا يُمنعون السفر، ولا يُضيق عليهم عند العودة إلى الوطن، ولهذا فهم يعيشون بعيدًا عن الشعب ومنفصلين عنه، فلا يشكون ولا يعانون، ولا يشعرون بعمق الأزمة وخطورة المشكلة، ولا يستعجلون حلها ولا يبذلون قصارى جهودهم لتسويتها، بل يعيقون الحل، ويضعون العقبات والعراقيل، ويبتعدون عن الحلول السهلة والمخارج الطبيعية الممكنة.
ربما أن الشعب قادر على الخروج إلى الشوارع والطرقات في مظاهرات صاخبة ومسيرات حاشدة ضد العدو الإسرائيلي، وأبناؤه يستطيعون أن يمطروا جنوده بالحجارة، وأن يقصفوا مدنه وبلداته بالصواريخ والقذائف، وأن يربكوه فلا يستقر، وأن يشوشوا عليه فلا ينجح، وأن ينالوا منه فلا يفرح، ومن الفلسطينيين من يستطيع اجتياز الحواجز والإفلات من نقاط التفتيش، والالتفات على مواقعهم ومهاجمتها، ومراقبة جنودهم وقنصهم، ويستطيع أن يطلق عليهم النار ويقتلهم، أو يخطفهم ويخفيهم، وغير ذلك الكثير مما يستطيع الفلسطينيون فعله، خلال مسيرتهم النضالية مسارهم المقاوم.
وهم اليوم يخرجون فعلًا في انتفاضة عظيمة، عنوانها الوحدة، ووقودها الاتفاق، ومسارها التلاحم، وسبيلها التنسيق والتكامل، يتقدمها جيل من الشباب لا يخشى الموت بل يصنع الشهادة بنفسه، ويتقدم إليها باسم الثغر، واثق الخطى، راضيًا عن نفسه، ومطمئنًا إلى قدره، وشعبهم معهم وإلى جانبهم، يحمونهم ويقاتلون، ويدافعون عنهم ويقتحمون، ويتحدون بإرادتهم الصادقة الاحتلال، ويطالبونه بالخضوع لشروطهم، والنزول عند حقوقهم، والحفاظ على مقدساتهم وعدم المساس بها، أو محاولة تغيير ملامحها وتبديل هويتها، وإلا فإنهم سيمضون في انتفاضتهم، وسيواصلون مقاومتهم حتى تحقيق كامل أهدافهم.
لكن الشعب الفلسطيني يرفض في هذه المرحلة العصيبة والظروف الدقيقة التي تمر بها الأمة كلها، أن يثور ضد قيادة السلطة أو قادة القوى والفصائل، رغم أنه لا يقبل بسياستهم، ولا يوافق على منهجهم، وينتقد سلوكهم، ويعيب عليهم اجتهاداتهم، إلا أنه يرى أن الخروج على قيادته محرمًا، والتظاهر ضدهم ممنوعًا، واستخدام القوة في مواجهتهم خطًا أحمر، لأن هذا الأمر من شأنه أن يزيد حالة الانقسام، ويباعد بين فرص التلاقي والاتفاق، ولهذا فهو يؤثر أن يحارب عدوًا، فيقتل أو يُقتل، على أن يواجه فريقًا منه فيضعف ويضعفون، ويخسر ويخسرون، ولكنهم يأملون من القيادة الفلسطينية كلها أن تدرك قيمة هذه القاعدة الذهبية التي تصون الشعب وتحمي القضية، وأن يعملوا بها وبموجبها من أجل قضيتهم، وإكرامًا لانتفاضتهم، ووفاءً لشعبهم الذي يسبقهم ويضحي.
كان أمل جيل الانتفاضة الفلسطينية وشعبها، أن تكون سلطتها وقيادة أحزابها متفقة ومتعاونة، تسبقهم إلى الميدان وتتقدمهم على خطوط المواجهة، تخطط معهم، تضحي مثلهم، تقود جمعهم، تنظم صفهم، وتوحد كلمتهم؛ إذ إن في الوحدة قوة، وفي الاتفاق صلابة ومتانة، ولا يقوى العدو على هزيمتهم وهم جماعة موحدة، ونواة مستعصية، وجوزة حقيقية لا تنكسر، كما لا يستطيع إذلالهم وإنهاء انتفاضتهم والتأثير على مقاومتهم، وهم صوت واحد، وإرادة مشتركة، يحملون هدفًا واضحًا محددًا، ويعرفون عدوهم جيدًا، ويحسنون التصويب نحوه فقط، فلا يخطئون الاتجاه، ولا ينحرفون عن المسار، حينها على عدوهم ينتصرون، والشعب يكفل لهم هذا الانتصار ويضمنه.