يعاني العالم اليوم من مشاكل كبرى؛ الفقر، سوء توزيع الموارد، سيطرة ثلة من الرأسماليين على معظم ثروات العالم، الحروب، استغلال الموارد البيئية، الاحترار العالمي، وغير ذلك، وهذه المشاكل وغيرها في الحقيقة ليست بجديدة، ولكن زخمها وظهورها على السطح في العقدين الماضيين بشكل صارخ لم يدع مجالًا للشك في أن العالم يعاني من مشكلة حقيقية وأزمة خطيرة في مفاهيمه وأخلاقه أولًا وقبل كل شيء.
ومع سقوط الاتحاد السوفييتي في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي لم يعد هناك نظام جاهز للتطبيق في العالم غير النظام الغربي للدولة الوستفالية التي تميزت بأنها دولة قومية وعلمانية ورأسمالية، وقد طبقت هذا النظام بدايةً الكثير من الدول العظمى ثم بدأت باستيراده الدول الصغيرة منذ مطلع القرن الماضي وحتى اليوم، وبعد سقوط الدولة العثمانية في عام 1924 دخل العالم العربي بعد فترة استعمار في نفس هذه المرحلة من التاريخ البشري.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بدايات العقد الأخير من القرن الماضي ظهرت فكرة، ساهمت في تسويقها الدول الكبرى والإعلام، مفادها أن هذا النظام العالمي الحالي هو النظام البشري الأكثر مثالية وأننا كبشر وصلنا إلى نهاية التاريخ وإلى منتهى أي تطور فكري وحضاري، وهذا ما طرحه المفكر الأمريكي “فوكوياما” في نظريته الشهيرة “نهاية التاريخ”، وهذه الفكرة تعني ضمنًا تفوق العرق الأوروبي الأبيض على بقية أجناس الأرض لأنه هو الذي أبدع هذا النظام الفريد، كما أن هذه الفكرة تقضي بأن العالم لن يتقدم خطوة أخرى في اتجاه أي تغيّر آخر لأن الدولة الوستفالية القومية والرأسمالية الاقتصادية هي الأفكار المثالية التي تقبّلها الجنس البشري بمجمله، وبالتأكيد فقد تم استقبال نظرية “فوكوياما” بكثير من الترحيب في الأوساط الغربية، واشتهرت كثيرًا بعد كتابه، الذي أصدره عام 1992، والذي ضمّن فيه كل أفكاره حول هذه القضية، ودحض هذه النظرية في الحقيقة لا يحتاج إلى الكثير من البراهين، وحدها الحقيقة التي تبقى ماثلة بأن الحياة على هذا الكون في سعي مستمر وغير متوقف حتى النهاية هي الحقيقة التي تدحض ببساطة هذه النظرية، وتؤكد أن البشرية لن تصل لنهاية التاريخ لأنه ليس هناك نهاية للتاريخ أصلًا ما لم تكن هناك نهاية للبشرية بحد ذاتها!
ومع تراجع فوكوياما عن مواقفه هذه حديثًا بقيت الفكرة مسيطرة على العقلية الغربية، فسيادة العرق الأبيض وتفوقه والذي تتطبع به العقلية الغربية واضحة ولا يمكن لأحد أن ينكرها، ولقد رسخ فوكوياما هذه الأفكار في نظريته حتى ولو لم يقصد ذلك، وبالطبع فإن مؤيدي هذه النظرية ومؤيدي سيادة العرق الأبيض لا يقتصرون على أبناء الحضارة الغربية فقط.
وإذا أردنا تشخيص النظام العالمي الحالي أو أي نظام عالمي ساد في أي حقبة من حقب التاريخ فيجب علينا أن نقسم هذا النظام إلى ثلاثة فروع مختلفة؛ نظام سياسي ونظام اقتصادي ونظام ثقافي، وبغير هذه الأنظمة الثلاثة لا يمكن لأي فكر أن يصبح نظامًا متكاملًا تتبناه البشرية، بل إنه يكون حين ذلك مجرد أفكار مبعثرة وتنظيرات لا يمكن تطبيقها على الواقع، ولو حاولنا أن نصف النظام العالمي الحالي فهو:
أولًا، نظام سياسي قائم على فكرة الدولة الوستفالية، والدولة الوستفالية مصطلح يطلق نسبة إلى معاهدة وستفاليا، التي صدرت عام 1648، وأسست لنموذج الدولة الحديثة التي تفرض سيادتها التامة على أقاليمها الجغرافية، ويتحكم قادتها في سياساتها الداخلية والخارجية، بعد ذلك دخلت بعض الأفكار الأخرى إلى فكرة الدولة الوستفالية، أهمها طبعًا القومية والعلمانية، والقومية هي اشتراك شعب معين في اللغة والتاريخ والمصير المشترك وفي أحيان كثيرة الدين، أما العلمانية فهي إنهاء سيطرة رجال الدين المسيحيين على الدولة، وبالطبع كانت معاهدة وستفاليا نذيرًا لانتهاء عصر الإمبراطوريات والإقطاعيات وغيرها من أشكال الدول الأخرى، وبداية لمرحلة جديدة من التاريخ.
ثانيًا، نظام اقتصادي مبني على الحرية الاقتصادية الكاملة “الليبرالية الاقتصادية” أو التي تُدعى بالرأسمالية، وهي تفرض حرية سوق تامة، وتحررًا من سيطرة السياسة على الاقتصاد، وهذا ما جعل الاقتصاد يتغول على السياسة بل ويتفوق عليها ويتحكم بها، فالشركات المتعددة الجنسيات أصبحت اليوم بمثابة حكومات داخل الدول، وأصبحت تؤثر على القرار السياسي والعسكري لدول العالم العظمى فضلًا عن الدول النامية والصغيرة، وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بدأت سيطرة فكرة الاستهلاك على العالم الغربي ثم لاحقًا على العالم كله، وهذا ما جعل هذه الشركات تتضخم وتتوسع بهذا الشكل لأول مرة في التاريخ، فماذا يعني أن تقوم شركة تقنية بتحديث نظام التشغيل في هواتفها لتزيد أرباحها مليارات الدولارات وتصبح أكبر شركة في التاريخ؟!
هذا التوحش في الاستهلاك حقيقةً أدى إلى مستوى مهول من الدَين، والولايات المتحدة، أكبر مثال للدولة الرأسمالية في العالم، أصبح مقدار الدَين فيها مرتفعًا وتخطى حاجز الـ10 تريليونات دولار في عام 2008؛ مما استدعى القائمين على “ساعة الدَين العام”، وهي شاشة في نيويورك تُظهر مقدار الدَين الأمريكي، لزيادة خانة كاملة بعد أن كانوا يظنون أنه من المستحيل أن يتجاوز الدَين الأمريكي 10 مليارات دولار حين صنعوا الشاشة عام 1989! وفي خلال سبع سنوات ارتفع الدَين الأمريكي العام اليوم إلى 18 تريليون دولار!
ثالثًا، نظام ثقافي مبني على فكرة العولمة، والعولمة هي مصطلح خادع ومنمق للأمركة، نسبةً لأمريكا، وهذه الأمركة حقيقة هي التي تجعل أسلوب الحياة الأمريكي هو المسيطر على غالبية شعوب الأرض، والحلم الأمريكي والهجرة إلى أمريكا هو الحلم الذي يدغدغ أحلام جميع شعوب هذا الكوكب، فالثقافة أمريكية والفن أمريكي وحتى أسلوب الحياة والطعام والعلاقات الاجتماعية كلها أصبحت على الطريقة الأمريكية في أغلب أنحاء المعمورة، ومما ساعد على هذه الفكرة ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات التي مهدت لظهور مصطلح “القرية الصغيرة” وسهّل تواصل الأفراد والمجتمعات، فعلى سبيل المثال لولا العولمة لم أكن لأسمع حقيقة عن “الهمبرغر” مثلًا ولم يكن يهمني ذلك من الأساس!
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن الإعلام لعب دورًا مهمًا في توجيه الشعوب نحو تبني ثقافة الأمركة، ولم يكن هذا ليتم طبعًا بغير توجيه غير مباشر من الحكومات والإمبراطوريات الاقتصادية.
إذن تكاملت هذه الأفكار الثلاث مع بعضها البعض لتشكّل النظام العالمي الذي نعيش في ظله اليوم، وفي الحقيقة فإننا “شعوب المشرق” كنا متأخرين في تطبيق النظام العالمي الحالي في كثير من جوانبه؛ وهذا لخصوصية ووضع دولنا، فأمتنا عاشت منذ نشأتها في صراع مباشر على قيادة العالم مع الغرب، فبعد قرون من سيطرة الدولة الإغريقية ثم الرومانية الغربية والشرقية ثم البيزنطية على العالم، اعتقد الأوروبيون أنهم سادة العالم وأن الصدارة دائمًا لهم ليأتي المسلمون ويسحبوا البساط من تحتهم لأكثر من 13 قرنًا، وهذا الصراع بالطبع خلق تنافرًا كبيرًا وملحوظًا بين الأمتين وأخّر تبنينا للنظام العالمي، فدولنا لم تتجاوز مرحلة الدولة الإمبراطورية إلا بعد حوالي 3 قرون من صدور معاهدة وستفاليا، وقد حدث هذا بعد سقوط الخلافة الإسلامية في إسطنبول، والتي لم تعد “بشكلها الإمبراطوري” مناسبة للعصر الحالي ولا صالحة له، ولو تم تحديث فكرة الخلافة مثلًا على شكل اتحاد بين الدول الإسلامية حينها لبقيت حتى اليوم لولا جهود الدول الاستعمارية الحثيثة في القضاء عليها، وعدم وجود أطروحات فكرية وسياسية تتبنى ذلك حينها.
أما بالنسبة إلى النظام الاقتصادي، فالحقيقة أن دولنا عاشت فترة اضطراب طويلة إثر ترنح العالم ثنائي القطبية ما بين عام 1946 وحتى عام 1990، فقد شهدت هذه العقود الأربعة توترًا شديدًا في العالم إثر تأرجحه بين النظريتين الرأسمالية والشيوعية، وقد تأثرت بالطبع الدول العربية كثيرًا بذلك، فقد عاشت 5 دول عربية كبرى تجارب اشتراكية أدت إلى تدهور الاقتصاد العربي بشكل كبير، بعد ذلك ومع مطلع القرن الجديد تخلى الجميع عن النظرية الاشتراكية وتم تبني النظرية الرأسمالية، والحقيقة أن تطبيق الرأسمالية في بلادنا كان مشوهًا، إذ إنه اقتصر على الجزء الاستهلاكي من الرأسمالية دون الجزء الإنتاجي، وأصبحت دولنا خلال عدة عقود من أكبر الأسواق المستهلكة في العالم دون إنتاج حقيقي يُذكر، ولولا قطاع صناعة النفط لأضحى الوضع مأساويًا.
على سبيل المثال يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية كلها نفس المقدار الذي يبلغه الناتج المحلي الإجمالي لليابان، مع أن عدد سكان اليابان يبلغ ربع عدد سكان الدول العربية، ومساحتها 3% من مساحة الدول العربية، ومواردها لا تُذكر بجانب موارد الدول العربية! وبالنسبة للدول الإسلامية فهناك النموذج التركي والنموذج الماليزي وهما الأبرز في النجاح الاقتصادي للدول الإسلامية، ولكن يجب التأكيد هنا على أن نجاح الدولتين في تحقيق تطورًا اقتصاديًا هو نجاح للنظام الرأسمالي إذ إن الدولتين لم تتبنيا سوى السياسة الرأسمالية ولم تعملا سوى في إطارها.
وبالنسبة للنظام الثقافي فالحقيقة أننا كنا متأخرين أكثر في قبول النمط الثقافي الأمريكي من النمطين السياسي والاقتصادي، كما أننا تأخرنا مقارنةً بغيرنا من الشعوب التي تقبلت الثقافة الأمريكية بسرعة أكبر منا بكثير، وحتى عندما قبلنا الثقافة الأمريكية فإن قبولنا لها كان جزئيًا، ولم ينسحب هذا على كل الأنماط الثقافية التي غزت العالم، وبلغة أسهل؛ لم نتأمرك نحن العرب والمسلمين تمامًا! وهذا يعود إلى تقليديتنا وتشبثنا بموروثنا الديني والثقافي كثيرًا، وتتراوح نسب التغريب والأمركة في شعوبنا بين دولة وأخرى تراوحًا كبيرًا، كما تتراوح حتى بين طبقات المجتمع في الشعب الواحد، وهذا إن دل فإنما يدل على أن العولمة كانت ومازالت تحديًا كبيرًا لشعوبنا، ومازالت قطاعات كبيرة من شعوبنا ترفضها بالمجمل وإن تعايشت معها فترة من الزمان، وهذا مصداق للنظرية القائلة بأن أصحاب الحضارات القديمة “كأمتنا” من الصعب عليهم أن يتقبلوا العولمة، ولعل هذه النقطة تبعث على التفاؤل كونها باعثًا ومحفزًا قويًا لنهضة فكرية وحضارية جديدة لأمتنا.
بعد عرض للنظام العالمي الحالي، ومدى علاقة أمتنا ودولنا به، سأكتفي في الجزء الأول من هذا المقال بهذا القدر، وسوف أتحدث في الجزء الثاني والأخير بإذن الله عن تلمّس الطريق نحو نظام عالمي جديد.