توفي الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد في إحدى مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس صباح الأحد إثر مرض عضال، عن عمر ناهز 85 عامًا، انقسم العراقيون على الشخصية كما انقسموا على شخصية الراحل أحمد الجلبي رغم أن الأول شاعر والثاني سياسي، لكن مما لا شك فيه أن الاثنين وضع كل منهما بصمته في تاريخ العراق الحديث.
العراقيون الذين اعتادوا الانقسام على أبسط الأمور وأصعبها انقسموا بين مؤيد ومقدس للشاعر كونه رمزًا عراقيًا عروبيًا وشاعرًا تم احتسابه على سنة العراق لدعمه للحراك إبان التظاهرات في المحافظات السنية الست المنتفضة، وكانت قصيدة “الغضب” قد كتبها للمتظاهرين في ذلك الوقت وشاعر القادسية ومناهض للاحتلال الأمريكي، أما الفريق الآخر فقد وصل بهم الحال أن نقابة الأدباء العراقيين ترفض نعي الأستاذ عبد الرزاق عبد الواحد وتتهمه بأنه داعشي وبعثي صدامي! ولكونه يحسب من المعادين لنظام الحكم الحالي، والمضحك المبكي أن الشاعر لا شيعي ولا سني وإنما صابئي مندائي ومن أهالي محافظة ميسان!
عبد الواحد الذي أراد أن يكون مالئ الدنيا وشاغل الناس اتعبه الغرب وتقاذفته مدنها منذ قال قصيدته التي رددها الرئيس العراقي السابق صدام حسين:
أطلق لها السيف لا خوف ولا وجل .. أطلق لها السيف وليشهد لها زحل
أطلق لها السيف قد جاش العدو لها … فليس يثنيه إلا العاقل البطل
أسرج لها الخيل ولتطلق أعنتها … كما تشاء ففي أعرافها الأمل
دع الصواعق تدوي في الدجى حمما … حتى يبان الهدى والظلم ينخذل
والأمريكان على أسوار بغداد حيث بدأ الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 وحيث جفاه حكام الوطن الجدد وهجاهم فيقول:
لـكـمْ سُـجـونٌ، وَلـنــا أجــسَــادٌ .. لـكــمْ سـِـيــاطٌ، ولـنــا عِنادُ
لـكــمْ جــيــوشٌ، وَلـنــا دِماءٌ .. هــذي تـُـبَادُ، تِـلـكَ لا تـُـبَادُ
لـكمْ سِلاحٌ مــا بـهِ عتادٌ .. لــنــا أيادٍ كـلـهــا عتادُ
كم مِنَ الشَـرْق (نـجَــادٌ) .. وَلـنـا بـصَـاقـُـنـا، عَـاشَ لكمْ نـجَــادُ
يـشــمّـكــمْ كــلــبٌ إذا دخـلـتـمـو خضرَاءَكـمْ .. يـا أيـهـا الصِـلادُ
وتـدخـلـونَ تـسـتـحـثـونَ الخطى .. خـيِّــرُكــمْ يــبــولُ أوْ يَكادُ
خـمـسُ سـنـيـنٍ والعـراقُ مثـلمـا بُـولِ .. البـعــيــرِ لـلـوَرَا يُــعــادُ
تـطــبـيـرُكـمْ، بـنى لـنـا بـيـوتـنـا .. ولـطــمُـكـمْ، مـشـربُـنـا والزادُ
كمْ حـليـفٌ، حُـلفـاءٌ، حُـلـَّـفٌ أحــذيــةٌ .. تـنـاقـصـوا أوْ زادوا
كـلّ الذي مَــرَّ لكـمْ، أجَـلْ لكـمْ مــاذا لـنـا؟؟ .. نحنُ لـنـا البــلادُ
ولكن ما قصة عبد الرزاق عبد الواحد مع صدام حسين؟
مع القادسية الثانية (هي الحرب العراقية الإيرانية بين عامي 1980-1988 التي سماها صدام حسين معركة القادسية الثانية) بزغ نجم عبد الرزاق عبد الواحد على المستوى الجماهيري بعد أن كان مجهولًا عند العراقيين عامة، ساعده في ذلك العراقيين يشاهدون جميعًا قناتين تلفزيونيتين فقط في تلك الفترة ولا ينكر أن قدرته الشعرية الفذة وخاصة في قصيدة التفعيلة لفتت انتباه صدام حسين إليه واستطاع أن يحظى بمنزلة مرموقة لديه، فأضفى على عبد الرزاق عبد الواحد لقب شاعر القادسية ثم لقب بشاعر أم المعارك (وهي التسمية التي أطلقها صدام حسين على حرب عام 2003 مع الأمريكيين والتحالف الدولي).
عبد الرزاق عبد الواحد تفجرت كلماته غضبًا في قصائده؛ ففي عام 1981 كتب قصيدته “روعتم الموت”، عن معركة الخفاجية مع إيران، يقول في مطلعها:
يمضي الزمان وتبقى هذه العبر
وهؤلاء الذين استنفروا دمهم
كأنما هم إلى إعراسهم نفروا
السابقون هبوب النار ماعصفت
والراكضون إليها حيث تنفجر
الوافقون عماليقا تحيط بهم
خيل المنايا ولا ورد ولا صدر
حتى يقول:
روعتم الموت حتى لم يدع دمكم
معابرا يلج الدخان والشرر
أرض الفراتين قد زادت بكم شرفا
جند الرسالة ما هانوا ولا انتظروا
وما سكتم على ضيم ولا لثم
غضب العروبة مثل السيل ينهمر
يا من تضيق رئات الموت واختنقت
لفرط ما كان عنق الموت يعتصر
أرعبتم الموت حتى ما نظرت بكم
قناطرا للمنايا فوقها عبروا
يفتخر عبد الرزاق عبد الواحد بأنه أعاد أرجوزة الحرب إلى الشعر وقلده بعد ذلك الشعراء.
متنبي سيف الدولة وصدام حسين وعبد الرزاق عبد الواحد
يعتبر عبد الرزاق عبد الواحد أن المتنبي أستاذه الأكبر الذي مشى على خطاه، ولأن المتنبي كان له سيف الدولة قائدًا يمدحه ويثني عليه كان لعبد الرزاق عبد الواحد صدام حسين الذي أطلق عليه عبد الرزاق عبد الواحد “سيف العرب”، فيقول حسب لقائه مع جريدة الشرق الأوسط العدد 8121 في 21 فبراير 2001 : “لقد كان المتنبي شاعر سيف الدولة وأسقط عليه كل أحلامه في البطولة، وأجمل ما في شعر المتنبي هي عناصر البطولة التي أسقطها على سيف الدولة، وأقسم لك أن أجمل ما في شعري هو عنصر البطولة الذي أسقطته على صدام حسين، لأنني اتخذته رمزًا للقائد العظيم وكتبت فيه ما أتمنى أن يكون عليه الإنسان العربي العظيم، وإذا كان هناك ما سيخلدني في المستقبل فهو هذه القصائد، لقد قلت في صدام شعرًا لم يقله المتنبي في سيف الدولة”، ويقول أيضًا في إحدى مقابلاته التلفزيونية: “قلت في صدام حسين ما لم يقله المتنبي في سيف الدولة ولكن هذا السيف قد كسر” يقصد بالسيف الذي كسر الرئيس العراقي السابق صدام حسين.
عبد الرزاق عبد الواحد والصابئة
يفتخر عبد الرزاق عبد الواحد بأنه اختارته اللجنة لوضع الصياغة النهائية للترجمة العربية لكتاب الصابئة المقدس الكنزاربا “الكنز العظيم”، كما استغل علاقته بصدام حسين لبناء أكبر معبد للصابئة في العالم.
والصابئة المندانيون طائفة دينية ترجع إلى النبي يحيى وقريبة جدًا من المسيحية يسكن أغلبها على شواطئ دجلة في وسط وجنوب العراق، وقد حاول صدام حسين أن يستخدم السجع في كتابته للكنزاربا وأدخل فيه بعض المقاطع والمصطلحات القرآنية؛ مما أثار حفيظة بعض المسلمين عليه.
عبد الرزاق عبد الواحد والغزل
أبدع عبد الرزاق عبد الواحد في شعر الغزل فيرتجز في قصيدته غزل عباسي:
أيـتـهـا الـمـدللة .. يا حلمًا ما أجمله
يا أنتِ يا أنثى .. بغيم ألف أنثى مُثقله
بألف شوق جامح .. وألف نجوى مغفله
قوامها ما أعدله .. ونضجها ما أكمله
سـنـبـلة فـارغة .. تغار منها السنبله
لله هذا الكفل الـ .. باذخ من ذا كَفَلَه؟
ومن أذاب خصره .. ومن أثار مرجله؟
كاد يشف وجهها .. حتى غدا ما أنبله
سبحانك اللهم في .. قمة هذي الزلزلة
أيــتــهـا الـمـدللـة … يا قمرًا ما أكمله
ويقول في 120 قصيدة حب:
كل شيء لديها نَدي
حين لامستها
أورقت في يدي!
صوتها .. مقلتاها
جيدها.. شفتاها
كلّ ما خبأتهُ السماوات
من مائها للغد
غيمةً
غيمةً
بين أعطافها أزهرت
فإذا ضحكت،
أو مشت،
أمطرت
يا لهذا النّدى!
ولكن حين طلبت منه مؤسسة مصرية لتكرمه قصيدة جديدة في الغزل رد عليهم عبد الرزاق عبد الواحد “أنتم تكرمون رجلاً تعلمون أنه تجاوز الثمانين، وأن وطنه مذبوح من الوريد للوريد، وأولاده وأحفاده مشردون بين أربع قارات، وهو لاجئ كل يوم في بلد، وتطلبون منه أن يكتب وهو في هذا العمر”.
عبد الرزاق عبد الواحد والجواهري
يسمي عبد الرزاق عبد الواحد الجواهري شاعر العرب الأكبر بشيخه وأستاذه الثاني بعد المتنبي وهو ينحى منحاه في ضخامة اللفظ وجزالة المعنى ولا يغيب الخلاف الرئيس بينهما ألا وهو الموقف من صدام حسين؛ ففي حين كان عبد الرزاق عبد الواحد يكيل لصدام حسين المدائح فيقول:
وهؤلاء الذين استنفروا دمهم
كأنما هم إلى أعراسهم نفروا
السابقون هبوب النار ما عصفت
والراكضون إليها حيثُ تنفجرُ
الواقفون عماليقا تحيط بهم
خيل المنايا ولا ورد ولا صدرُ
وكان صدام يسعى بينهم أسدًا
عن عارضيه مهب النار ينحسرُ
ويبدع عبد الرزاق عبد الواحد حين يرثي صدام حسين في 2004 فيقول:
لَستُ أرثیكَ.. لا یَجوزُ الرِّثاءُ
كیفَ یُرثى الجَلالُ والكِبریاءُ؟
لَستُ أرثیكَ یا كبیرَ المَعالي ھكذا وَقْفَة المَعالي تَشاءُ
ھكذا تَصعَدُ البُطولَة لِلَّه وَفیھا مِن مَجْد هِ لآلاءُ
ھكذ ا في مَدارِهِ یَستَقِرُّ النَجْمُ تَرتَجُّ حَولَه الأرجاءُ
وھوَ یَعلو .. تَبقى المَحاجِرُ غَرقى في سَناهُ وَكُلُّھا أنْداءُ
لَستُ أرثیك .. كیفَ یُرثى جنوحُ الروح لِلخُلْدِ وَھيَ ضَوءٌ وَماءُ
لا اختِلاجٌ بِھا، وَلا كَدَرٌ فیھا رَؤومٌ .. نَقیَّة .. عَصماءُ
ضَخْمَة .. فَرْط كِبْرِھا وَتُقاھا يستَوي المَوتُ عندَھا والبَقاءُ
بينما كان الجواهري يهجوه بأشنع العبارات حين سحب صدام حسين الجنسية العراقية من الجواهري فيقول:
سل مضجعيك يا ابن الزنا أأنت العراقي أم أنــــــــا
يا غادرا إن رمت تسألنـــي أجيبك من أنــــــــــــــا
فأنا العربي سيف عزمــــه لا ما أنثنـــــــــــــــــــا
وأنا الأباء وأنا العـــــــراق وسهله والمنحنــــــــــــــــى
وأنا البيان وأنا البديــــــــع به ترونق ضادنـــــــــــــــا
أدب رفيع غزا الدنــــــــــا عطر يفوح كنخلنــــــــــــــا
وأنا الوفاء وأنا المكـــــارم عرسها لي ديدنــــــــــــــــا
وأنا أنا قحطان منــــــــــي والعراق كما لنــــــــــــــــا
لولاك يا أبــــــــــن الخيس ما حل الخراب بارضنــــا
لولاك ما ذبحوا الولـــــــود من الوريد بروضنــــــــــا
لولاك ما عبث الطغـــــات بأرضنا وبعرضنــــــــــــا
أنا … من أنا
ويرثي عبدالرزاق عبدالواحد الجواهري بقصيدة رائعة صاغها على نسق جوهرة الجواهري في المعري:
فيقول:
شاعر السلطان والشعر للعراق
يقول عبد الرزاق عبد الواحد وهو يرد على من يتهمه بانه شاعر السلطان “أنا عراقي، وعندما أكتب أكتب للعراق، وقصائدي التي أفتتح بها مهرجان المربد كل عام مكتوبة للعراق، وفيها أوجاع العراق بأعمق ما يتصوره إنسان”، ويستشهد بقصيدته ذائعة الصيت “ياصبر أيوب “:
ولم يفارق الشعروالعراق عبد الرزاق عبد الواحد حتى في فراش الموت في باريس خرجت لنا قصيدة فكانت آخر كلماته فيها:
ويبقى عبد الرزاق عبد الواحد يحفر بشعره ليكون مالئ الدنيا وشاغل الناس.