تحتل فكرة “المنقذ” أو “المخلص” حيزاً مهماً في تفكير العديد من الشعوب على اختلاف عرقها ودينها ومذهبها والرقعة الجغرافية التي تحيا على امتدادها، وتنعكس في أدبياتها على شكل المهدي المنتظر أو الإمام الغائب أو عودة السيد المسيح عليه السلام..الخ.
ولئن كان لهذه الفكرة ما يدعمها من النصوص الدينية، فإن استغراق الشعوب بتفاصيل هذا “الغيب” وإضافتها للكثير مما لا أصل له في النصوص الدينية، وإعطاء هذه الأحداث أبعد وأكثر مما تحتمل في واقع حياتنا ليشير إلى قضية أبعد من مجرد الإيمان بالغيبيات أو الالتزام الديني، سيما وأننا نلاحظ أن الكتب المؤلفةعن هذه الظواهر/الأحداث ليست بالعدد الكبير في التاريخ الإنساني، الإسلامي مثالاً.
الملفت للنظر أن التركيز على الغيبيات وتقديمه على أحداث ومعطيات الحاضر كان صفة ملازمة للتأخر الحضاري، بينما كان بارزاً انشغال الشعب/الأمة بالعلوم والصناعات والتأليف في عصور التقدم العلمي والحضاري المختلفة.
يبدو ذلك – بدرجة أو بأخرى – كإحدى تجليات القصور والتخلف كمحاولة للهروب من الواقع ومسؤولياته، وقد شهد التاريخ ذلك بعدة أشكال وصور، كان أوضحها للعيان، ربما، الشطحات الصوفية والمبالغة في قدرات مشايخها إبان الحروب الصليبيةوهجمات التتار. تلك التي سماها الدكتور ماجد الكيلاني في كتابه “هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس” بظاهرة “الانتحار الاجتماعي”، والتي انتشرت بعد الهزائم العسكرية أمام الصليبيين من ناحية، والعجز عن الإصلاح السياسي والخوف من التعبير عن الرأي في وجه السلاطين الظلمة من ناحية أخرى.
في تاريخنا المعاصر أيضاً، عبرت بعض النخب العربية عن عجز واقعها بصور من التبعية، السياسية أحياناً والفكرية أحياناً أخرى، لتجارب الغير، وضخمت من إنجازاتهم على حساب الشعور بالضعف والعجز الذاتيَيْن. تمثل ذلك في التجارب السياسية للمكوّنَيْن غير العربيَيْن في المنطقة: إيران وتركيا. فقد حظيت الثورة الإيرانية منذ حدوثها عام 1979 بتغطية ومديح لم يتوفرا ربما لأي تجربة عربية بعد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وما زلنا نعاين حتى اليوم حالات الانجذاب والتضخيم والانحياز في مواقف الكثير من السياسيين ومقالات العديد من الصحافيين لها. ذلك الزخم الذي لم يخفت إلا مع بروز التجربة التركية الحالية وافتتان الكثيرين بمنجزاتها التي لا يمكن إنكارها، والتي يمكن لنا أن نرى فيها ملحوظتين مهمتين: الأولى انشغال كل التيارات تقريباً بها وتضخيمها ومحاولة إظهار مشاركتهمومشابهتهم لها في النهج، والثانية أن كثيراً من الأقلام التي كانت تخط مقالات التمجيد للثورة الإيرانية تحولت عنها إلى التجربة التركية دون عناء كبير.
لست ألمح هنا، أبداً، لوجود أقلام مأجورة (وهي حاضرة دائماً في المشهد الإعلامي لكل الشعوب)، بل أحاول رسم مشاهد الإعجاب المبالغ بها بسبب الشعور بتفوق الغيرالتي تسم الخطاب الإعلامي والسياسي في العالم العربي.
لا يبدو المواطن العربي في مشهد مختلف عن نخبه، فالواقع واحد رغم اختلاف مظاهره. بنظرة فاحصة متأنية، ستبدو الشعوب العربية وكأنها في بحث مستمر عن “بطل” مزعوم أو حالة نجاح متميزة، او حتى غير متميزة، حتى وكأنها تبدو جاهزة في كل حين لإصباغ صفة البطولة أو النجاح وصولاً إلى القداسة على ظواهر لا تستحق ذلك بالضرورة.
في هذا الإطار تبدو الأمثلة أكثر من أن تحصى؛ من المطرب الذي اعتزل الغناء فوضعه القوم مكان الفقيه، إلى الفنانة التي ارتدت الحجاب (بغض النظر عن مدى موافقته للحجاب الشرعي) فاتبعها الناس على أنها داعية، إلى مبالغة البعض فيتقييم أقوال ومواقف بعض منتسبي أو جرحى الثورات العربية، إلى تقديس كلمات قالها يوماً ما من منَّ الله عليه بالشهادة. في كل نموذج من هذه النماذج، وغيرها كثير، يرى الكثيرون أنفسهم في درجة أقل ممن ذكرنا، أولئك الذين يعتبرونهم لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا خلفهم، ملقين ثوب القداسة على أقوال وأفعال ليست بالضرورة صحيحة في وقتها، ولا مناسبة لوقتهم.
إن آفة الشعوب المتخلفة حضارياً المهزومة نفسياً أنها تشغل نفسها بالغيب على حساب الشهادة، والقادم البعيد على حساب الحاضر المعاش، والأحلام على حساب الواقع، والكلام على حساب العمل، فيما النصوص الدينية نفسها تحض على عكس ذلك تماماً.
نرى مثال ذلك في النص القرآني الذي يغيّب (عمداً) الكثير من التفاصيل بينما يحفل بالفائدة المتضمَّنة، وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة والحث على غرس الفسيلة، وفي قول أحد العلماء: “كل مسألة لا يبنى عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نـُهينا عنه شرعاً”.
إن تقديس غير المقدس والمبالغة في تقييم الأشخاص والأحداث والتجارب الأخرى في مقابل اليأس والإحباط وجلد الذات، لهي علامات واضحة على أزمة حضارية نتج عنهاهزيمة نفسية وشعور بالدونية. إننا نحتاج، وبشدة، إلى تصحيح البوصلة، بالتركيز على العمل أكثر من الكلام، ورفع الهمم ومعها المعنويات، زيادة للثقة بالنفس، التي لا تقوم حضارة ولا يكون إنجاز بدونها.