في أبريل 2014، بث كمال علام، المسؤول العسكري عن ولاية سيناء الموالية لدولة الإسلام في العراق والشام (داعش)، رسالة مسجلة موجهة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ناصحًا إياه ألا يرسل أية تعزيزات عسكرية لسيناء، وأن يرسل بدلًا من ذلك جيشه كله ليموت في الصحراء، وكانت رسالته ردًا على التعزيزات العسكرية التي أعلن النظام المصري إرسالها إلى هناك بعد هجوم نوعي على سبعة أهداف عسكرية وأمنية، والذي تبعه خلال شهرين هجوم آخر على 15 هدفًا مع استحواذ قصير على مدينة الشيخ زويد بالكامل، ثم هجمات أخرى على مدار هذا العام فاقت المائتين، ووصلت لإصابة أربعة جنود أمريكيين بعد تفجيرات بالقرب من المعسكر الشمالي لقوات المراقبة الدولية في سيناء، والتي تشرف على اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل.
يحار الكثيرون في أمر التمرد الجاري الآن بسيناء، فالجغرافيا فيها ليست وعرة أبدًا مقارنة بجبال أفغانستان على سبيل المثال، كما أن معظم الجبال فيها في الجنوب في حين يرتكز التمرد للشمال، أضف لذلك أن التعداد السكاني ضئيل للغاية ويتوزع على مساحة شاسعة نسبيًا (حوالي نصف مليون نسمة في مساحة تبلغ ستة أضعاف مساحة لبنان!)، في نفس الوقت الذي يتحدث فيه سكانها نفس اللغة الأصلية لبقية أهل مصر، على عكس الأكراد في تركيا مثلًا، بينما تتسم القبائل بغياب أي إطار جامع لها قد يعطيها قوة بوجه الجيش المصري؛ فالمواقف تختلف من قبيلة لأخرى وحتى داخل القبيلة الوحيدة، وإن كانت كافة القبائل المتواجدة بالشمال الشرقي قد انضم منها عدد للتمرد، فإننا لا يمكن أن نجزم بأن الغالبية هناك تدعم التمرد، وعلاوة على كل ذلك فإن التمرد السيناوي لا يحظى بدعم خارجي واضح، على غرار الدعم الجزائري لجبهة البوليساريو في الصحراء الغربية مثلًا (والتي تريد الاستقلال رسميًا عن المغرب،) فلماذا إذن يستمر فيها التمرد بل ويزداد قوة يومًا بعد يوم؟
جذور الأزمة في سيناء
تعود قصة سيناء إلى اكتمال الانسحاب الإسرائيلي منها عام 1982، حيث تولت الدولة المصرية منذئذ مهمة الأمن فيها بالكامل، واستندت رؤيتها للمنطقة كلها باعتبارها معقلًا لتهديدات محتملة للنظام، عوضًا عن رؤيتها كفرصة للتنمية والتواصل مع أهلها، فالسيناويون في نظر الدولة المصرية مشاريع مستقبلية لجواسيس أو إرهابيين أو مخبرين أو مهربين، لا مواطنين مصريين عاديين، وكما قال مسؤول رفيع بجهاز الشرطة المصري كُشِفَت تصريحاته في تسريبات ويكيليكس، فإن “البدوي الطيب الوحيد في سيناء، هو البدوي الميّت.”
تباعًا، انصبت جهود الدولة المصرية في إضعاف قبائل سيناء كمصدر قوة منافس للسلطة الحاكمة ليس إلا، لتؤدي لسياسات عدة منها حظر تملك الأراضي على أهل سيناء، وتعريضهم للتحقيقات والتفتيش الدقيق بين الحين والآخر، وتجاهل ملف التنمية في المنطقة تمامًا، وهي سياسات تعززت بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، إذ اعتقد النظام المصري أنذاك أن قبائل شمالي شرقي سيناء ضالعة مباشرة في إرسال الدعم للمسلحين الفلسطينيين بغزة.
زاد الطين بلة بعد تفجيرات طابا ونويبع عام 2004، والتي فشلت الاستخبارات في معرفة المسؤولين عنها لتقوم بحملة قمع موسعة بالتعاون مع قوات الأمن المركزي بشمال شرق سيناء، اعتقلت أثنائها ثلاثة آلاف من أهل المنطقة وعرضتهم لأساليب التعذيب المختلفة، “لقد قاموا بصعقنا كهربائيًا في مؤخراتنا لساعات حتى قبل الشروع في طرح الأسئلة، ثم استمر التعذيب طوال التحقيقات وبعدها، وهو ما دفع الكثير من الشباب بإعداد العدة للانتقام،” هكذا يقول أحد المعتقلين السابقين في حوار أجري معه عام 2012.
تلت تلك الأحداث تفجيرات شرم الشيخ عام 2005، والتي أعلن مسؤوليته عنها تنظيم التوحيد والجهاد الذي استوحى فكرته من تنظيم مصعب الزرقاوي في العراق، غير أن معظم قياداته ومقاتليه ظلوا من سكان سيناء، ومنهم مؤسس التنظيم نفسه خالد مساعد، وهو طبيب أسنان ينتمي لقبيلة السواركة الكبيرة والشهيرة وقتلته قوات الأمن المركزي عام 2005 في تبادل لإطلاق النار، وقد تلت تلك التفجيرات مجددًا حملة قمع واسعة اعتُقِل أثنائها الكثير من المشتبه بانتمائهم للتنظيم، بالإضافة إلى ذويهم ومعارفهم وجيرانهم، “لقد التقيناهم في السجن، ولم يعرف معظمهم أي شيء عن الأيديولوجيا أو الدين أو الشريعة، بل إن بعضهم كان أميًا وقمنا بتعليمه القراءة بأنفسنا،” هكذا يتحدث معتقل إسلامي سابق وضعته السلطات أنذاك مع “مجموعة سيناء” كما سميت عن المعتقلين من مقاتلي التنظيم.
نقطتا التحوّل: الثورة والانقلاب
بدأت الأجواء تتحول في سيناء بصورة مهّدت الطريق للمرحلة الحالية من العنف عام 2007، حين اندلع الصراع بين حماس وفتح في غزة، ليفر بعض الضباط السابقين التابعين لفتح إلى شمالي شرقي سيناء، ثم عام 2009 حين قامت حماس بحملة قمع للسلفيين في القطاع، ليفر جزء منهم أيضًا إلى نفس المنطقة، وهو ما أدى بشكل أو آخر إلى إعادة ترتيب الجهاديين لصفوفهم عام 2010 في أطر تنظيمية عدة، تمخضت عنها ما لا يقل عن خمسة تنظيمات، أبرزها تنظيم أنصار بيت المقدس باعتباره الأكثر نشاطًا وتسليحًا.
بين يونيو 2010 ويوليو 2013، انصبت أنشطة أنصار بيت المقدس على أهداف عسكرية ومدنية إسرائيلية، ثم اتجهت إلى استهداف أقسام الشرطة والمقرات الأمنية المصرية بعد اندلاع الثورة عام 2011، والتي فرت أثنائها قوات الأمن المصرية من رفح والشيخ زويد بالكامل في مطلع فبراير 2011 بتراجع النظام وقواه الأمنية حينئذ، وهو ما تبعته الدولة بحملتين عسكريتين؛ العملية نسر واحد من جانب المجلس العسكري بعد استقرار الأوضاع نسبيًا، والعملية نسر 2 أثناء رئاسة محمد مرسي، وقد فشلت الحملتان في قمع التمرد باتباعهما لنفس الأساليب التقليدية لما قبل الثورة.
بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013، تحوّلت الرؤية تمامًا في صفوف الجهاديين بسيناء، خاصة بعد مذبحتي رابعة والنهضة، فالتنظيم الذي ركز بالأساس على مواجهة إسرائيل، أصبح يتحدث منذئذ عن “مسلمي مصر” والدفاع عنهم بوجه “جيش الردة” كما أتى في عدد من التسجيلات، وببدء حملة عسكرية موسعة وعنيفة ضد التنظيم لم تفرق فيها السلطات بين أعضاء التنظيم وأهالي شمالي شرقي سيناء كلهم، كانت معظم أجنحة أنصار بيت المقدس قد أعلنت ولاءها لداعش بحلول نوفمبر 2014، رُغم اتباعها في البداية لتنظيم القاعدة بشكل غير مُعلَن وسيرها على تكتيكات القاعدة التي مزجت بين العنف وتقديم الخدمات الاجتماعية لنيل الدعم المحلي، وهي تكتيكات استمرت مع ولاء التنظيم الجديد لداعش.
سيناء بين كفاءة المسلحين وقمع الجيش
تُعَد قوة “ولاية سيناء” غير مسبوقة في تاريخ التمرد المسلح بمصر بمواردها وقدراتها التسليحية، وهي تستخدم نوعين أساسيّين من التكتيكات والعمليات الميدانية، ، أولها “الإرهاب الحضري” Urban Terrorism والذي يعتمد على القيام بعمليات في المدن باستخدام سيارات مفخخة وهجمات انتحارية واغتيالات، وثانيها حروب الميليشيات التي تتضمن وحدات متحركة صغيرة وخفيفة التسليح تضرب وتنسحب بسرعة لتصيب أهدافًا أمنية وعسكرية، لتفاجئها دون التعرض لنيران تلك القوات الثقيلة لفترة طويلة لا تقدر عليها.
منذ مطلع عام 2014، بدأ التنظيم في استخدام مدفعية ثقيلة وخفيفة، وصواريخ أرض-أرض موجهة وغير موجهة، وصواريخ أرض-جو موجهة، ورشاشات آلية ثقيلة، وقناصين، ليتمكن من تقديم غطاء لعملياته ومسلحيه أثناء القتال، ففي يناير 2014 مثلًا قام مسلحوه بإسقاط مروحة Mi-17 تابعة للجيش الميداني الثاني، مستخدمين صاروخ أرض-جو موجه بالأشعة تحت الحمراء، وكانت تلك أول مرة يقوم فيها فصيل مسلح داخل مصر بإسقاط مروحية عسكرية تابعة للدولة، ثم قام مسلحو التنظيم في أكتوبر 2014 بهجومين على نقطتي تفتيش في كرم القواديس ومدينة العريش، ليقتلوا أكثر من 30 جنديًا، ويدمروا دبابة باتون M60 وعربة مصفحة M11 أمريكيتي الصنع، كما استحوذوا على مجموعة كبيرة من الأسلحة عُرِضَت في تسجيل فيما بعد.
أخرج التنظيم المزيد مما في جعبته مطلع هذا العام حين نفذ هجومًا استهدف 11 هدفًا في العريش ورفح والشيخ زويد، وهو هجوم ضاهي في حجمه المواجهات التي وقعت بين القوات البريطانية والمتمردين المصريين في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وقد شمل الهجوم تدمير الكتيبة 101، مقر القوات العسكرية في شمالي شرقي سيناء، والمعروفة بين أهالي المنطقة بـ”جوانتانامو سيناء” نتيجة تعذيب فيها، ثم أتى هجوم أشد وأوسع في يوليو بضرب 15 هدفًا شارك فيه حوالي 300 مسلح، ليستمر القتال لأكثر من عشرين ساعة، وقد استخدم فيه التنظيم صواريخ موجهة ضد الطائرات، ليجبر طائرات الأباتشي التابعة للجيش على التراجع واستخدام طائرات إف-16 من ارتفاعات عالية، والتي أدت لتراجع المسلحين في النهاية.
على مدار تلك الأعوام القليلة، وصلت حصيلة القتلى من الجيش المصري إلى ما يزيد عن 700 جراء 400 هجوم قام بها المسلحون، والذين قُتِل منهم أكثر من ثلاثة آلاف طبقًا للإحصائيات الرسمية، غير أن هذا الرقم يخضع للنقد لأنه يحتوي على المئات من المدنيين المقتولين في قصف الجيش المصري، بالإضافة إلى من قتلوا تحت التعذيب، وهي أرقام توضح شدة المعركة بالنظر لكل ما سبقها في تاريخ صراع الدولة مع الجهاديين أو الإرهابيين، والذين تشتد قوتهم يوميًا لعوامل عدة، أبرزها انضمام قليلين من صفوف الجيش لهم، بما في ذلك القوات الخاصة، وانضمام مسلحين ممن تدربوا في ساحات أكثر عنفًا، مثل غزة وسوريا والعراق، وأخيرًا وهو الأهم استمرار الانضمام بين الشباب السيناوي الذي يتزايد غضبه ضد الجيش في نفس الوقت الذي تزداد فيه خبرته الميدانية مع بنائه لشبكات دعم لوجستية.
فشل متكرر لاستراتيجية الجيش المصري
حطام الطائرة الروسية في سيناء
السؤال الآن هو متى تتغير إذن الاستراتيجية المصرية؟ في الحقيقة يلفت الانتباه انعدام الكفاءة الشديدة في استراتيجية مكافحة الإرهاب لدى الجيش المصري، مقارنة بالكفاءة المتنامية يوميًا للمسلحين في سيناء، فالإدارة المصرية تعتمد على القمع والاستخبارات والدعايا، والقمع كما نعرف يزيد الأوضاع سوءًا في الشمال، لا سيما أساليب التعذيب والقتل المباشر خارج إطار القانون وهدم المنازل دون أدنى تمييز وتدمير المزارع، وهي أساليب تعزز من غضب الشباب وتميل بانحيازاتهم لصالح المسلحين، فالآلاف الثلاثة من “المسلحين” الذين قتلهم الجيش المصري، قتل منهم 438 في عشرة أيام بسبتمبر 2015، و232 في أربعة أيام بأغسطس 2015، و241 بيوليو 2015، وأكثر من 170 بأسبوع واحد من فبراير 2015، وهو ما يشي لنا بقتل عشوائي نتيجة القصف بالطبع، كما تقول لنا إحدى التقارير الحقوقية، والتي اتهمت الجيش بقتل 1347 خارج إطار القانون، واعتقال 11،906، وتهجير 27 ألفًا تقريبًا خلال العامين الماضيين، علاوة على تدمير ما لا يقل ععن 3255 مبنى دون إنذار.
فيما يخص الدعايا فإن الدولة المصرية قد أثبتت فشلًا ذريعًا في هذا المجال، وهو أمر قوض مصداقيتها تمامًا، على سبيل المثال أعلن النظام أكثر من مرة مقتل كمال علام القائد بولاية سيناء، غير أنه يطل بوجهه مرارًا وتكرارًا في تسجيلات التنظيم، وكل ذلك بالإضافة إلى التصريحات غير الدقيقة التي تطلقها القوات المسلحة عن عملياتها، وأرقام القتلى التي تضم مدنيين وتستخدم لإثبات كفاءة الجيش باعتبارها جزءًا من القتلى من المسلحين، وكل تلك المعلومات كما نعرف يقدم لها الطرف الآخر خطابًا مغايرًا في تسجيلات تصاحبها الصورة والفيديو، وهو ما يضعف من دعايا الدولة مجددًا، والتي لم تعد تتمتع بهيمنة كاملة على المعلومات في عصر الإنترنت، كما كانت في ستينيات القرن المنصرم.
فوق القمع الذي يواجهه أهل سيناء دون تفرقة والدعايا التي يعرفون كذب معظمها، يساهم أيضًا التشكيك المستمر من جانب الدولة في انعدام ثقتهم وابتعادهم عن الجيش، كما يروي أحد أهل الشيخ زويد عن جار له، “حين تذهب لإحدى نقاط التفتيش وتقول لهم أن أحدهم وضع قنبلة داخل بيتك، سيقولون لك أنك أنت من وضعها، وسيقومون باعتقالك أو ضربك،” وكل ذلك لا ينسف فقط أي أساس للتعاون بين القبائل وبين الدولة، بل ويزيد من الغضب المحلي، والذي قد يدفع البعض للانضمام لولاية سيناء فقط من أجل الانتقام، “الكثير من الشباب يحمل السلاح اليوم في سيناء دون أن ينتمي لأي تنظيم،” هكذا يقول يحيى عقيل، نائب برلماني سابق عن شمال سيناء، وهو ما يثبته التسجيل الذي انتشر في أغسطس 2013 لجنازة أحد المسلحين ضمت المئات من الشباب يشيعونه، وهو مشهد من الصعب رؤيته في سيناء لو كان المقتول من الجيش المصري.
***
بمواجهة الشباب القبلي الغاضب أو المشحون أيديولوجيًا، توجد مجموعة شباب بسيط ونحيل تنحدر من الريف المصري، وهي مجموعة ضعيفة التدريب، وغالبًا ما تكون من المجندين في أشهر تجنيدهم الأخيرة التي تلقوا فيها بالكاد أية تدريبات حقيقية عن مواجهة الإرهاب، والذين يلقون حتفهم كضحايا لحرب لا يعلمون عنها شيئًا بين توجيهات قياداتهم من ناحية، وإخوانهم في الوطن الغاضبين في سيناء على الناحية الأخرى، وهي حرب تظل مستمرة ما لم تقرر إحدى القيادات العاقلة أن توقف عجلة العنف العشوائي، وتلتفت لرفع مهنية الجنود بالجيش المصري، وبلورة استراتيجية مغايرة تمامًا لاحتواء العنف، وهي استراتيجية عليها أن تفتح الحوار مع سيناء وأهلها قبل التشكيك فيهم، كما سيتحتم عليها أن تأتي في إطار مصالحة وطنية أوسع؛ فما يجري في سيناء لا ينفصل أبدًا عما يجري في الدلتا والصعيد مهما اختلف عنه في طبيعته.
هذا المقال منقول بتصرف من مقال د. عمر عاشور في مجلة فورين أفيرز