بعد مضي خمسة أسابيع على تولي الرئيس السابق لحزب “نداء تونس” الباجي قايد السبسي منصبه كرئيسٍ للجمهورية جمع أحد مكاتب القصر الرئاسي بقرطاج مستشاره السياسي محسن مرزوق بمجموعة من قيادات حزب الوطنيين الديمقراطيين و دار حديث بين المجتمعين حول المشهد السياسي في تونس وحول الشكل المستقبلي للتحالفات بين الأحزاب و قبل أن ينهي مرزوق اجتماعه بضيوفه قال لهم : ” في حزب النداء هناك فراغات كثيرة حاولوا افتكاكها قبل أن تفتك منكم النهضة ( يقصد حركة النهضة) الحزب بأكمله “
وصلت تفاصيل هذه الاجتماع الى قيادة حركة النهضة و طبعا وصلت قبل ذلك الى قيادات في حزب النداء كانت تنظر بعين الريبة لمواقف مرزوق و تصريحاته و تراقب باهتمام طموحه السياسي الجامح و الذّي ربما يكون السبب المباشر في استقالته من منصبه كمستشار سياسي للرئيس التونسي ليتفرّغ لمنصب الأمين العام لحزب النداء ليدير بنفسه حرب المواقع داخل الحزب …حرب يبدو أنها كتبت على الحزب منذ تأسيسه
وضعت انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011 شخصيات وقوى ليبرالية و تقدمية عدة بعيدا عن مواقع القرار و جعلت منها قاصرة عن التأثير المباشر في الشأن العام كما أقصت هذه الانتخابات المنظومة القديمة برمّتها من المشهد … استعاضت المجموعة الأولى عن ضعف وزنها السياسي بأدوار متقدمة في الإعلام و النقابات والإدارة أما المنظومة القديمة فقد لعبت دور الدافع و المحرّك لهذه الشخصيات و القوى حتى تتولى قيادة الحراك السياسي و الإعلامي المناهض لحكم الإسلاميين بعد هذه الانتخابات.
كانت المنظومة القديمة ترغب بشدة في العودة الى الحكم بعد أن أقصتها الثورة وهو الأمر الذي لن يمكن له أن يتحقق دون إبعاد الإسلاميين من السلطة و لتحقيق ذلك احتاج النظام القديم لوجوه جديدة يعود من خلالها و يتقاسم معها – ظرفيا على الأقل- هذا الهدف…في الأن نفسه كانت قوى و شخصيات يسارية ليبرالية و تقدمية تَعْتَبِرُ الإسلاميين خصما لدودا لا مناص من إزاحته…و على قاعدة هذا الهدف تبلور تحالف موضوعي بين هذه القوى و بين المنظومة القديمة تحالف بدأ رسميا منذ يونيو/حزيران 2012 تاريخ تأسيس حزب نداء تونس الّذي ضم وجوها من حزب الرئيس المخلوع بن علي الى جانب شخصيات عرفت بنضالها النقابي و الحقوقي و قد كان لهذه الشخصيات النصيب الأكبر من المواقع داخل الحزب و الحظ الأوفر في الظهور الإعلامي و الجماهيري و على وقع أزمة سياسية محورها شرعية المجلس الوطني التأسيسي تطور منطق التحالف بين مختلف القوى المعارضة للإسلاميين من تقدميين و يساريين و قوميين و ليبراليين من جهة و المنظومة القديمة من جهة اخرى ليتجاوز التحالف الواقع داخل حزب نداء تونس فيأخذ أشكالا مختلفة حيث ظهر بعد سنة من تأسيس حزب النداء تحالف الاتحاد من أجل تونس ثم ظهرت بعد أشهر من ذلك جبهة الانقاذ التي ضمت أحزابا و تنظيمات مدنية فاق عددها الخمسين و طبعا في القلب من هذه الأطراف مجتمعة المنظومة القديمة بكل ما لها من ثقل مالي و إعلامي و قدرة على التعبئة
ما حصل منذ يونيو 2012 الى حدود الانتخابات التشريعية الأخيرة ان فكرة التقارب مع هذا الشكل الجديد للنظام القديم بهدف ازاحة الإسلاميين من الحكم و من المشهد السياسي برمّته كانت طاغية على جانب واسع من الطبقة السياسية…طاغية حتى على عتاة المعارضين لبن علي قبل الثورة و قد مثل حزب النداء عامل جذب قوي للكثير من هذه القوى التي كانت لها مطامع في الركوب على ما للنظام القديم من إمكانيات…لكن للنظام القديم حساباته ايضا و مع بروز هذه الحسابات و الأولويات بدأ الملتفون حول حزب النداء بالابتعاد …بدأ الأمر بتفكك جبهة الانقاذ وصولا الى انقسام تحالف “الاتحاد من اجل تونس” و هو الذي كان بعض رموزه يمنون أنفسهم بدخول الانتخابات التشريعية في قائمات مشتركة مع حزب النداء أو أن يكون أحدهم مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية إلا أن النداء كان واثقا تمام الثقة بقدرته على حسم المسألة وحيدا فحافظ على مكونيه الرئيسيين و نفض عن جانبيه كل الشخصيات و القوى التي اصطفت وراءه و أمامه في محطات سياسية سابقة و استأثر تقريبا بكل القاعدة الانتخابية المناهضة أو الغاضبة على الإسلاميين تحت مبدأ التصويت المفيد كما استأثر النظام القديم داخل حزب النداء نفسه بمواقع قيادية هامة و بنصيب كبير من المقاعد في البرلمان
نجح هذا الالتقاء بين مجموعتين داخل حزب النداء في ابعاد الإسلاميين عن قيادة المرحلة السياسية التي اعقبت تشريعية 2014 وهو الّذي كان الهدف المعلن عند تأسيس حزب النداء و باستثناء هذا الهدف لم يكون هناك بين هاذين المكونين رابط فكري او ايديولوجي او اي مشترك سياسي أو نضالي عميق فلكل حساباته و لكل رؤيته لتوجهات الحزب و خياراته و أولوياته و الأكيد أن غياب هذه اللحمة الفكرية و السياسية عن حزب النداء و اختزال مهمته لدى البعض في تحجيم دور الإسلاميين و في إقصاءهم من المشهد لدى البعض الآخر هو السبب الرئيسي للتصدّع الّذي عرفه الحزب مؤخرا و هو ربما نفس الأمر الذي جعل عددا من المحللين و المراقبين يصفون هذا الحزب عند تأسيسه و خاصة الأن بعد انفجار الأزمة بين مكوناته المختلفة بالحزب الهجين الذي جمع متناقضات كثيرة
بغياب دور المحكّم الذي كان يلعبه رئيس الحزب السابق الباجي قائد السبسي بدأت هذه التناقضات تطل برأسها أشهرا بعد تولي حزب النداء السلطة حتى ظهر داخله تياران الأول بقيادة نائب رئيس الحزب حافظ قائد السبسي المكلّف بالهياكل والثاني بقيادة الأمين العام للحزب محسن مرزوق حيث تجاذبت الهيئة التأسيسية للحزب و مكتبه التنفيذي الصلاحيات و اختلفا حول كيفية و تاريخ إجراء مؤتمر الحزب فمجموعة السبسي الإبن بما لها من عمق و تأثير داخل قواعد الحزب تريد مؤتمرا انتخابيا تنبثق عنه قيادة جديدة بينما تريد مجموعة محسن مرزوق هذا المؤتمر مضمونيا لا يفضي الى تغيير على مستوى قيادة الحزب بما يحفظ لها تواصل نفوذها داخل الحزب و خلف المجموعة الأولى تقف المنظومة القديمة بعمقها التجمّعي و المالي و تدعم المجموعة الثانية الروافد التقدّمية و النقابية داخل الحزب مع وجود عدة استثناءات في الجانبين و هو ما يعني أن الصراع بين المجموعتين ليس أكثر من صراع حول إعادة التموقع داخل الحزب
الصراع الدائر منذ أسابيع بين المجموعتين أخذ شكلا حرجا فالتراشق بالتهم و السباب و التخوين و الوصم بالعمالة و بالارتزاق لفائدة هذا الطرف أو ذاك تكرر أكثر من مرة الى الحد الذي جعل محسوبين على المجموعتين يتبدلان العنف الشديد في مشهد ميلشياوي غداة اجتماع مدينة الحمامات الأخير كما أن الأغرب و الأخطر من هذا التطوّر الدراماتيكي في الخلاف… نوعية الاتهامات التي يتبادلها الطرفان وحسب ما يبدو فإنه لا أحد يريد أن ينتبه أن شِقا في الحزب يتهم شقا آخر بتسخير أجهزة الدولة للتنصت عليه أما النيابة العمومية التونسية فتغط في سبات عميق …تغط في سبات أعمق كل من دائرة المحاسبات و الهيئة العليا المستقلة للانتخابات و كل الجهات الرسمية المعنية بمراقبة مصاريف الأحزاب و الجمعيات التي لم تصدر بلاغا او بيانا او إشارة انشغال حول اتهام طرف للطرف الأخر بتلقي تمويلات أجنبية عبر جمعيات مدنية الأمر الذي يمنعه القانون التونسي بشكل عام و قانون الانتخابات بشكل خاص.
لا يُعْرَفُ على وجه الدقة في اي اتجاه يمكن لحرب المواقع داخل “النداء” أن تسير لكن تفاصيل معلومة عن تركيبة الحزب من الممكن أن تؤشر على شكل التحوّل الذي يسير على طريقه إذ أن حصر الخلاف بين مجموعتين فقط ليس بالأمر الدقيق فروافد الحزب المختلفة من الممكن أن تتحول بدورها الى مجموعات تختلف باختلاف مرجعياتها بيد أن امكانية انقسامه تطرح على الواقع التونسي اشكالات و أسئلة صعبة حول شكل التحالفات السياسية المقبلة داخل قبة البرلمان و حول مصير الحكومة الحالية بتآكل الأطراف التي تدعمها و حول مصير الاستقرار النسبي الذي تميزت به التجربة التونسية عن باقي التجارب في المنطقة العربية و حول موقع الإسلاميين بوصفهم ثاني حزب في البلاد من تحالف مرتقب بين كتلة الجبهة الشعبية و كتلة منشقّة عن حزب النداء تشتركان في رفضهما اي مشترك بينهما و بين الإسلاميين و حول المخاوف من أن يُصَدِّرَ الحزب الحاكم مشكلاته التنظيمية الداخلية الى الحكومة و الى مؤسسات الدولة فتصبح أداة من أدوات إدارة هذا الصراع
لعل من مفارقات الوضع الراهن أن الحكومة التونسية التي هي حكومة حزب “النداء” تحظى حاليا بدعم و إسناد الحزب الثاني في البلاد “حركة النهضة” أكثر من حزب النداء نفسه رغم ما قام به هذا الأخير قبل الانتخابات من شيطنة و تشويه و محاربة للحركة…لعلها كذلك من المفارقات أن يَتَّهِمَ قياديو حزب النداء بعضهم البعض بمثل ما كانوا يتهمون به خصومهم قبل الانتخابات فتنتشر فجأة الوثائق و المراسلات السرية على فضاءات التواصل الاجتماعي لإدانة هذا الطرف أو ذاك
خروج الخلافات الأخيرة داخل حزب النداء الى العلن بشكل فج احدث ارتياحا لدى البعض لما رأوا فيه من تفكك للقوى المضادة للثورة و انتصارا رمزيا للثورة إلا أن التطوّر السريع للأمور يمكن أن يأتي بما لا يحمد عقباه و عندئذ ستكون الثورة لا قدر الله الخاسر الأكبر