بعد النجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية بحصوله على نسبة 49% في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في مطلع نوفمبر الجاري عاد الحديث مجددا حول السياسة الخارجية التركية وإمكانية حدوث التغيير فيها خاصة وأن النتيجة التي حققها الحزب في يونيو حزيران الماضي فتحت الباب أمام توقعات التراجع ونقص الثقة في اتخاذ قرارات مصيرية بشأن السياسة الخارجية ولكن عودة الحزب لمسار تشكيل الحكومة بمفرده جعلت هذه التوقعات هي التي تتراجع إلى الوراء قليلا.
في الحقيقة كان سيناريو حكومة ائتلافية في تركيا طريقا يحمل الكثير من الألغام على جميع المستويات وهذا مع وجود ثلاثة أحزاب كان من الممكن لحزب العدالة أن يتحالف معها نظريا، وبالتالي فقد ظهرت تخوفات من التغيير باتجاه التراجع في السياسة الخارجية التركية تجاه قضايا الشرق الأوسط و تحديدا في الملف السوري والعراقي وفي الموقف من الربيع العربي بشكل عام خاصة وأن كافة الأحزاب المعارضة لا تميل إلى التقارب أو الانخراط مع منطقة الشرق الأوسط المضطرب فبعضها يميل إلى العزلة وبعضها يميل إلى خيار الإرادة الدولية والمجتمع الدولي أو المعسكر الغربي بعبارة أخرى كما كانت تركيا في ظل الحرب الباردة.
ومع ما سبق كان التغيير في السياسة الخارجية التركية في الفترة السابقة تغييرا في الشكل والأسلوب وليس في الجوهر والمضمون فبقي الموقف من النظام السوري ومن اللاجئين السوريين على حاله وكذلك الحال الموقف من اسرائيل، لكن الساسة الأتراك انتهجوا الدبلوماسية الهادئة في ظل انشغالهم الكبير بالأمور الداخلية فرأينا تناقصا في حجم الانتقادات الموجهة للنظام المصري وللحكومة الاسرائيلية وميلا إلى التوافق مع واشنطن تكلل بفتح قاعدة “انجرليك” أمام قوات التحالف. وحتى مع روسيا التي دخلت طائراتها المجال الجوي التركي حافظت أنقرة على رباطة جأشها بالرغم من اعتبار ذلك استهانة بالأمن القومي التركي الذي يحظى باهتمام بالغ.
إن تركيا دولة ثقيلة في الإقليم وهي تتحرك وفق حجمها وهذا قد يفسر البطء في التغيير وفي الحركة أحيانا وهذا الثقل مرتبط بتشابك العلاقات فلدينا علاقاتها المتشابكة مع واشنطن والناتو والاتحاد الأوروبي اللذين تربطها معهم اتفاقيات سياسية وأمنية وعسكرية والعلاقة مع روسيا وإيران اللتان تستورد منهما الغاز الطبيعي وتربطها بهما اتفاقيات تجارية وعلاقاتها مع الدول والشعوب العربية التي تقع في مكان مهم من استراتيجية الدولة التركية.
من زاوية أخرى فإن الملفات التي تنخرط فيها تركيا في المنطقة وتحديدا ما يتعلق بسوريا والعراق هي ملفات تتداخل فيها المصالح الدولية ولعلك تجد كما كبيرا من الدول ذات الأجندات المتباينة والمتنافسة لذا فإن لكل حركة حسابات وأوزان كفيلة بتعقيد المشهد وديمومته على حاله ما لم يكن هناك حركة من أحد الأطراف مغامرة ومحفزة للآخرين .
كما أن حالة شبه الثبات في المواقف والمصالح والعلاقات والايديولوجيات بالرغم من بقاء احتمالات التغير تجعل التنبؤ بوجود تغييرات كبيرة في المدى المنظور غير مرجحة، فعلى سبيل المثال مهما تزايدت جلسات المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوربي وحتى لو تم تنفيذ بعض التسهيلات فإن هناك عوائق كثيرة تشير أن طريق تركيا نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي صعب جدا.
ترى تركيا أن ما حصل من تراجع لبعض سياستها مثل سياسة تصفير المشكلات مع الجيران هو تراجع مؤقت وأنها ليست السبب في ذلك فدول مثل سوريا والعراق تعاني من مشاكل داخلية كبيرة وبالتالي فإنه عندما تتناول بعض المقالات النقدية سياسة تصفير المشكلات مع الجيران والتي انتهجتها تركيا مع جيرانها ونجح أحمد داود أوغلو بتطبيقها حتى وقت ما، فأصلح العلاقات مع الجيران ومنهم سوريا التي كانت تعتبر عدوا وكذلك أرمينيا التي بينها وبين تركيا ملف ضخم هو ادعاءات قيام الاتراك بمذابح جماعية ضد الأرمن في الحرب العالمية الأولى. فإن هذه المقالات تقول بأن هذه السياسة فشلت حيث لا يوجد سفير تركي في سوريا أو اسرائيل، وفي الحقيقة تتناسى هذه المقالات أن هذه الدول إن صح لنا التعبير بمصطلح الدولة لا تملك سيادة على أراضيها كما الحال مع سيطرة داعش في العراق وتقصف شعوبها بالبراميل كما هو الحال في سوريا، وأن اسرائيل هي دولة احتلال غاصبة ومن الطبيعي أن يكون هناك خلاف معها وهذا هو الأصل وليس الاستثناء.
وحتى لا يبدو الأمر كأنه دفاع عن السياسة التركية بقدر ما هو قراءة لواقعها فالسياسة الخارجية التركية تبدو مفتقرة إلى المبادرة تحديدا في الملف السوري وتقوم كثيرا باتباع سياسة رد الفعل التي تكون بطيئة وغير فعالة أحيانا، ولعل الثقة التي أخذها حزب العدالة تعطيه مزيدا من الثقة والتشجيع على المبادرة لكن تركيا تحتاج إلى تشجيع خارجي كما حصلت على التشجيع الداخلي وهذا ربما تحصل على جزء منه بطريقة متبادلة من السعودية ومن بوادر تغيير في الملامح السياسية في المنطقة ولكن يبقى حصول هذا تحديا يحتاج الكثير للتحقق ولهذا فإن التغيير على المستوى المنظور في السياسة الخارجية ليس مرجحا ولكن قد تعود تركيا إلى استخدام أسلوب النقد الشديد الذي يعري السياسات الديكتاتورية في المنطقة وستستمر في مواقفها الداعمة للمظلومين على الأغلب وهو الحد الادنى المطلوب من تركيا التي تواجه الكثير والكثير من الملفات الخارجية المعقدة وقبل الختام ينبغي التذكير أيضا أن هناك الكثير أيضا من التعقيدات الداخلية لم يتم الانتهاء منها بعد.