أجلس في مقعدي داخل قاعة السينما، وأحاول أن أثبّت نظارات السينما ثلاثية الأبعاد فوق نظارات الرؤية العاديّة، بينما ذهني يسبح في بحر من الأسئلة: كيف ستكون عودة ريدلي سكوت إلى الخيال العلمي؟ فيلم آخر عن الفضاء، ماذا سيضيف لما قدّمه Gravity و Interstellar؟ مات دايمون في المريخ ولافتة ضخمة تقول “عودوا به إلى بيته”، ألا يبدو أنّني رأيت ذلك مرّتين من قبل (راجع إنقاذ الضابط ريان، وإنترستلر)؟ بدأ بناء الفيلم يتشكّل في ذهني من آلاف الصور النمطية التي عوّدتنا عليها هوليود، وقبل أن أنقذ البطل، هبّت العاصفة المرّيخيّة على الشاشة، وانهار البناء النمطيّ رويدا رويدا. لشدّ ما أدهشني أنّ الفيلم الذي يبدو في ظاهره رواية نمطية جدا، يحطّم الكثير من الكليشيهات، ويصنع رؤية مثيرة لفنّ الخيال العلمي. ولأنّ كاتب الرواية التي قدّمها سكوت على الشاشة (أندي وير) مهندس برمجيات فاسمحوا لي أن أجاريه في أسلوبه الرياضيّ، و أقدّم لكم فيلم رجل المرّيخ (The Martian) انطلاقا من الكليشيهات التي تجاوزها.
1 ـ ناسا لا ترسل إلى الفضاء سوى مفتولي العضلات:
ربما تجاوزت بعض الأفلام الأخرى هذه الصورة النمطية للبطل في الفضاء، لكنّ البطل دوما يستعين بقدراته القتالية والعضلية للوصول إلى مبتغاه. بطل الفلم “مارك واتني” عالم نباتات ومهندس يجد نفسه وحيدا في المريخ بعدما رحل طاقم بعثة ناسا لاعتقادهم بموته. مهمّته أن يظلّ حيا حتّى مجيء البعثة القادمة، وهي مهمّة تحتاج إلى العلم أساسا. لقد كان مارك رجلا ذا بنية جسدية ممتازة، ولقد كان ذلك ضروريا لتحمّل الحياة لأكثر من عامين خارج الأرض، لكنّك لن تشعر به، إنّها مسألة ثانوية مقارنة بالعمل الذهنيّ الخارق الذي بذله للبقاء.
2 ـ المهوس بالتقنيات والعلوم هو رجل مملّ في الغالب
ربّما الأمر كذلك بالنسبة لرفاقك الذين تعرفهم، لكنّ الأمر يختلف حتما مع بطلنا. لقد واجه محنته بمرح كبير. وكان تعامله العلميّ مع العقبات التي تواجهه مثيرا إلى درجة حوّلت العمل إلى فيلم أكشن حقيقيّ. سوف تنتظر في شوق بروز البراعم من الأرض، سوف تراقب في وجل تجربة استخراج الماء من الهايدرازين، وسوف تفكّر في قلق في طريقة التخاطب عبر كاميرا لا تنقل إلى صورة بعد 20 دقيقة من إرسالها… مع مارك، تتحوّل الحقائق العلمية إلى شيء مسلّ، وتتحوّل العلوم التي تهكّمت طويلا من عدم حاجتك إليها إلى أشياء ملموسة يدهشك أنها من حولك وتبقيك حيا دون أن تشعر!
3 ـ سينما الخيال العلمي عند ريدلي سكوت، هي سينما الخوف والتشاؤم
يبدو ريدلي سكوت في الغالب متشائما حينما يتحدّث عن المستقبل أو عن الفضاء. فخارج الأرض، سوف نجد في الغالب مخلوقا أكثر تطوّرا، جهزته الطبيعة تماما لافتراسنا (Alien) أما على سطح الأرض، فستحدث حتما تلك الطفرة التي تمنح الآلات الذكية وعيا ذاتيا يجعلها معادية للكيان البشريّ… كما أنّ الحديث عن المريخ في مدوّنة السينما الأمريكية، ليس حديثا لطيفا. لكنّ سكوت ومن ورائه الكاتب آندي وير يقطعان مع هذه الصورة النمطية، فيبدو المريخ أكثر واقعية، وبساطة، وأقلّ غموضا، بينما تتحلّى الشخصيات بطابع مرحٍ يضفي على الفيلم شعورا عارما بالتفاؤل رغم حضور الموت الدائم. لم يكن حبّ قائدة البعثة ميليسا لويس لموسيقى الديسكو المرحة أمرا اعتباطيّا، إنها الموسيقى التي ستكسر وحدة البطل، والفراغ الذي يفترض أن تحدثه عزلة أحدهم في كوكب المريخ. ريدلي سكوت ذلك الكهل الانكليزيّ الوقور، تجاوز صورته النمطية نفسها من خلال هذا الطابع المرح للفيلم، بل الكوميديّ أحيانا، لنجد أنفسنا أمام فيلم يقدّم رؤية شديدة الواقعية لمستقبل الغزو الفضائيّ. لم يحاول الكاتب استنباط تقنيات أو آلات غريبة لا نعرفها، بل حاول فقط تخيل شكل الأدوات التي نملكها اليوم في شكل أكثر تطورا، في شكلها المفترض بعد 10 سنوات من الآن. ربّما اضطرّ أحيانا لتجاوز منطقه للضرورة الروائية (العلبة العازلة للإشعاعات النووية يفترض أن تكون شيئا لا نعرفه، يسمح بوقايته من السرطان) لكنّه في العموم قدّم تصوّرا عقلانيا إلى حدّ بعيد للمستعمرات الأولى للإنسان خارج الأرض. هذا التصور العقلانيّ يعيد إلى الأذهان فكرة جول فيرن عن الخيال العلمي، أو فنّ عقلنة الخيال. إن “رجل المريخ” أشبه برؤى تبشيريّة لغد الإنسان.
4 ـ الخيال العلميّ هو تجاوز للحقيقة العلمية
في حين تتجه أغلب أفلام الخيال العلمي إلى تجاوز العلم عبر العلم نفسه، يأتي رجل المريخ ليعقلن الخيال، أو ليمنح العلمَ الخيال المناسب لتقدمه. لقد تأسست سينما الرحلات الفضائية على قدرة الإنسان اللامحدودة على التنقل في أرجاء الكون، دون أن تشرح لنا أو تبحث في مدى إمكانية هذا الطرح. في فيلم إنترستلر ظلّ أحد الرواد 23 سنة بانتظار رفاقه، دون أن يشرح لنا أحدهم ماذا أكل خلال تلك الفترة. ولا أية طاقة سمحت للسفينة بالقيام برحلتها بين النجوم. في فيلم رجل المريخ، تصرّ الأرقام على تثبيت حضورها الدائم في رحلة البطل. من خلال الرزنامة الدقيقة التي تذكّرنا برزنامة روبنسون كروزو، ومن خلال الحسابات الدقيقة التي أقحمنا فيها الكاتب لمعرفة قدرة السفينة هرمز (رسول الآلهة في الميثولوجيا اليونانية) على العودة إلى المريخ، بل إن واقعية التصوّر للموارد المتاحة، كانت محرّكا هامّا للخطّ الدراميّ.
لقد اعتبر الكثيرون أن رجل المريخ هو مزيج من أبولو 13 (بطولة توم هانكس) و الملقى بعيدا (Cast Away لنفس الممثل). لكنني أخالفهم الرأي، وأعتبر أن العمل هو أشبه بروبنسون كروزو في نسخته الفضائية. ومثلما كانت الرواية الانكليزية نوعًا ما من الوعي الخفيّ بمحيط الإنسان الخارجيّ، وبمجال معرفته المتمدّد، فإنّ رجل المريخ لا تختلف كثيرا وإن اتّسع المجال إلى حدّ يناسب الألفية الجديدة. هل يمكن بموجب ذلك الحديث عن “خيال” علمي؟
إن تنوّع الأعمال المنضوية تحت هذا الصنف الأدبيّ، يجعل السؤال مشكلة فعلية. خصوصا وأن هذا الفيلم يبدو “واقعيا” إلى درجة كبيرة. بل إنّه لا يخفي واقعيته قطّ، فالبطل ينتشل من أعماق الكوكب القاحل، تاريخ الصراع البشريّ مع المريخ، من خلال روبوت “Pathfinder” الذي أطلقته ناسا في تسعينات القرن الماضي. تلك اللفتة العبقريّة، تجعل من صراع مارك واتني، امتدادا لما تحقق بالفعل، وتختزنه ذاكرتنا لا ذاكرة كتبنا. فهل يمكن القول إن الفيلم “علميّ” وليس “خياليّا”؟
إنني أفضل العودة دوما إلى رائد الخيال العلميّ، الفرنسي جول فيرن، فهو حين قدّم تصوّراته المستقبلية، لم يكن يبحث عن استغلال بعض الحقائق العلمية لتقديم مشهد خياليّ. بل هو سمح لخياله بالجنوح وسط الممكن العلميّ، ليقدّم مشاهدا قد تكون يوما ما واقعية. وأعتقد أن هذا ما قدّمه سكوت و وير بالفعل.
رغم كل ذلك، يجب التذكير بوقوع الكاتب في نفس المشكلة التي وقع فيها نولان في إنترستلر، حيث إن العاصفة التي تسببت في إصابة البطل وبقائه على المريخ، لا يفترض أن تُحدث له جرحا ولو صغيرا لضعف الضغط الجوّي في المريخ. وهو ذات الضعف الذي استغله الكاتب في ما بعد لإطلاق بطله في مكوك لا سقف فيه. أجل كان الكاتب يعلم تماما لا منطقية فكرته، بل وصرّح أنه كان بإمكانه افتعال انفجار أو خلل تقنيّ لكنّه فضّل الاعتماد على الطبيعة لتركيز الصراع بين مارك والمريخ. فكرة جيّدة لكنّ ذلك لا يمنع من كونها نقطة ضعف رهيبة في العمل!
5 ـ هناك دوما شخص سيء لتكتمل الدراما
حتّى حينما تواجه الأرض كارثة طبيعية، أو حينما يحاول الجميع إنقاذ شخص ما، يجب أن يكون هناك شخصية معرقلة، صاحب قرار في الإدارة، لا يحبّ ما يحدث ويريد أن يغير الأمور لصالحه. يبدو أن مدير ناسا هو من يلعب هذا الدور، لكننا مخطئون. كلّ شخص في الفيلم يحاول أن ينظر إلى الأمور من الزاوية التي تناسب طبيعة عمله. المشرف على البعثة ميتش هندرسون (Sean Bean) يهتم أكثر بإنقاذ الجميع بمن فيهم مارك. المدير، بحكم طبيعة علمه، يحاول تخفيف الأضرار قدر ما أمكن. المسؤولة عن التواصل مع الإعلام، تفكر دوما في ردود فعل الرأي العام. وهكذا. أحيانا تتناسق المواقف وأحيانا تتضادّ. يمكن أن نقول إن تمرّد الطاقم أمرٌ نمطيٌّ جدا في الأفلام الهوليوديّة، لكن مرّة أخرى يقدّم المشهد في شكل معقلن جدا.
لقد بدت ناسا في بعض الأعمال الأخرى منظمة تعتمد على رجل واحد تقريبا (عد إلى إنترستلر). لكن في هذا الفيلم تظهر الوكالة في شكلها المعقلن الواقعيّ، عمل جماعيّ، و خليط كبير من البشر من مختلف الأعراق والاختصاصات. يجعلنا الفيلم نقترب أكثر من أولئك الأشخاص العجيبين الذين يهتفون كلّما انطلق صاروخ ما. يجعلنا نفهم ماذا يفعلون، وأي إرهاق يسبّبه العمل على شاشاتهم.
6 ـ الفضاء هو عالم أمريكيّ خالص
أفلام الفضاء عموما فرصة للشوفينية الأمريكية لاستعراض مواهبها. لحسن الحظّ، فكاتب هذا الفيلم عقلانيّ إلى حدّ تجاوز تلك الصورة المهترئة. في مكاتب الوكالة، نجد هنديا مشرفا على رحلات مكوكية، وامرأة شقراء تدرس صور الأقمار الصناعية، ورجلا آسيويّا مشرفا على أحد مراكز التصنيع، وفتى أسود عبقريّ يأتي بحلّ حاسم لإنقاذ البطل.
بل إن الكاتب يهرع إلى وكالة الفضاء الصينيّة لطلب المساعدة، رغم امكانية استعمال مكوك أمريكي (لو أنه لم يفجّره). لقد اختار الكاتب مرة أخرى طريق الواقعية والاعتراف بالمشهد الفضائيّ الذي يقدّم الصينيّين كتنين جديد يجوب الفضاء الخارجيّ. لقد اختار مرة أخرى التصوّر الأنسب والأكثر منطقية لفضاء الغد. وكذلك الخيال العلميّ الحق.
7 ـ الكاتب غير راض عن الفيلم
يحدث هذا كثيرا، ليس إلى درجة الكليشيه، ولكنّه يتكرّر خصوصا مع المخرجين الكبار. لكن الكاتب عبر عن سعادته التامة بما قدّمه الفيلم. يجب التنويه بأن الكتاب يحتوي على مشاكل أكثر بكثير، ولقد اختار المخرج اختصارها إلى ساعتين وربع فقط. فهل كان العمل السينمائيّ جيدا؟
شاهدت الفيلم بتقنية الأبعاد الثلاثة، وشاهدته دونها، ولم ألحظ فارقا لافتا. لكنّ الصورة تشي بالعمل المتقن والحرفية الكبيرة لمخرج بحجم ريدلي سكوت (وتشي أيضا بحجم الأموال التي أنفقتها 20th Century). كما كان آداء الممثلين في مستوى أسمائهم الرّنانة. عموما كان العمل السينمائيّ لائقا بأحد أكثر الأعمال الأدبية رواجا هذه السنة، لكن لا يمكن الحديث عن عمل سينمائيّ مذهل. الحقيقة أن سكوت بدا قنوعا جدا وخاليا من الطموح في الفيلم. لنتخيّل فقط، أن المخرج فكّر في مسألة اختلاف الجاذبية بين الأرض والمريخ (بحيث يكون الإنسان أخف بكثير مما هو عليه على الأرض)، وحاول إيجاد الطريقة المناسبة لتصوير الفيلم بإضافة هذه اللمسة الوحيدة. ألا يمكن أن يكون بذلك المرشح الوحيد للأوسكار؟
إن رجل المريخ يمثّل تصوّرا جديدا لإنسان الغد. هو رجل صار مجاله المعرفيّ أكبر من عالمه الضيق، وأقدر على النظر بعيدا في أرجاء الكون. ليس رجلا أبيض، ولا أسود، ولا هنديّ ولا مسيحيّ، ولا ذكر أو أنثى. إنه إنسان العولمة الجديد، وهو إنسان لا يبدو أنه يحمل ملامح عربية للأسف. هذا لا يدعونا للغضب بقدرما يدعونا للقلق!