آسف للعودة إلى التنازع الحاد بين شقي حزب نداء تونس، فالتطورات الداخلية المتسارعة التي يشهدها الحزب تفرض علينا، نحن المحللين للحياة السياسية التونسية، أن نستمر في ملاحقتها واستشراف تداعياتها الخطيرة على مستقبل المسار الانتقالي في البلاد. وكما توقع صاحب هذه السطور، فإن انقسام الحزب إلى شطرين أصبح شبه مؤكد، وفق ما علمه من بعض قادته. إذ في كل يوم تزداد الفجوة بين الجناحين، فجوة سياسية و، أيضاً، فجوة أكثر عمقاً على مستوى العلاقات الشخصية. انعدمت الثقة وتعمقت الكتلوية بشكل قاتل. بلغ اتهام المتخاصمين بعضهم درجة إلصاق تهم التآمر ودعم الإرهاب والتعامل مع المخابرات الأميركية وغيرها. وزادت الطين بلة تصريحات الرئيس، الباجي قايد السبسي، التي لم تكن في مصلحة ما يسمى جناح محسن مرزوق، ما جعل كثيرين يعتبرونه إنحازاً لمصلحة نجله حافظ الذي يقود الشق الآخر.
ستكشف التطورات المقبلة، بوضوح أكثر، حجم القوى الفعلية بين جناحي الصراع. لكن، بدا واضحاً أن حكومة الحبيب الصيد لن تتضرر من استقالة 32 نائباً من كتلة “نداء تونس” واتجاهها حالياً نحو درس إمكانية تشكيل كتلة برلمانية مستقلة، فالحكومة ستبقى تتمتع بأغلبية مريحة تحميها من أي محاولة لإسقاطها، حتى الذين غادروا كتلة “النداء” أعلن كثيرون منهم أنهم سيواصلون دعمهم الحكومة القائمة.
تعود الكرة، الآن، إلى مرمى حركة النهضة التي يعتقد بعضهم أنها تتمتع برعاية خفية، إذ كلما واجهتها عاصفة من داخلها، أو من خارجها، إلا وفتح لها من غير تخطيط سابق باب سري، ليوفر لها من جديد حضوراً قوياً على الساحة الوطنية. وإذا أصر النواب المنسحبون من كتلة “نداء تونس” على موقفهم، فستصبح حركة النهضة الحزب الأول في البلاد. وفي هذه الحالة، ستتضخم المفارقة القائمة، إذ كيف يمكن أن يرضى أكبر حزب في البلاد، أن يكون ممثلاً بوزير يتيم في الحكومة. وقد بدأت المسألة تتجاوز إشكالية التمثيل العددي داخل حكومة الصيد، فبعض قادة الحركة يدعون، اليوم، صراحة إلى الاقتداء بحزب العدالة والتنمية في تركيا الذي قرّر، أخيراً، أن ينزل إلى الانتخابات بقوة، ليفتك الأغلبية، ويعود إلى الحكم بمفرده، حتى لا يبقى تحت رحمة الأحزاب الصغيرة. وهذا يعني أن هناك من داخل حركة النهضة من بدأ يضجر من لعبة التحالف الهش مع أحزاب أخرى داخل حكومة ائتلافية. إذ بقدر ما كانت هذه الصيغة مثيرة للتونسيين، ولغيرهم، وتوحي بتدريب سياسييهم على الحوكمة الجماعية والشراكة في قيادة البلاد، إلا أنها، في المقابل، قد كشفت في فترة وجيزة عن عيوب كثيرة جعلت البلاد تفتقر إلى حكومة قوية وفاعلة وقادرة على تحقيق الاستقرار السياسي.
يتساءل النهضويون إلى متى ستبقى حركتهم مفروضاً عليها أن تحجّم نفسها بنفسها، وأن تراعي مصالح أطراف أخرى، صغيرة أو مأزومة في داخلها، وأن تبقى، على الرغم من ذلك، متهمة بالتغول ومشكوكاً في نياتها من الجميع أو من أغلبيتهم. في حين يؤمن جزء كبير من أبنائها، أنها قادرة على أن تتحمل مسؤولياتها، وأن تحكم بمفردها.
صحيح، تعتبر الحالة التي عليها حركة النهضة في تونس شاذة وغريبة. ومع ذلك، هي ضرورية جداً في هذه المرحلة الهشة التي يمر بها المسار الانتقالي.
لو قررت “النهضة” أن تتخلى عن الجميع، وأن تستغل الأوضاع التي عليها حزب نداء تونس وضعف أحزاب المعارضة، وأن تقلب الطاولة على الجميع، وتتجه نحو تشكيل حكومة أحادية، بعد إجراء انتخابات جديدة سابقة لأوانها، لوجدت نفسها معزولة، وفي حالة مواجهة مع الجميع. ليس هذا فقط، بل قد يقودها هذا السيناريو إلى إجهاض الجهود التي بذلتها، ولا تزال تراكمها، من أجل دعم ثقة القوى الدولية والإقليمية فيها، وفي سياستها القائمة على التريث وعدم الانفراد بالحكم.
هناك فروق كثيرة بين التجربتين التركية والتونسية، فلا تسرعوا الخطى، ولا تخطئوا الحسابات، أو تخلطوا الأوراق.
نُشر المقال لأول مرة في صحيفة العربي الجديد، وبالانجليزية في موقع ميدل إيست مونيتور