لم تعلق روسيا بعد رسميًا على الأقوال المرجحة بسقوط الطائرة الروسية في سيناء جراء قنبلة وُضعت داخلها من قِبَل أحد الركاب، غير أن ما قامت به يشي بأنها معترفة ضمنيًا بهذا السيناريو رغم اعتراضها عليه في البداية؛ فقد أعلنت موسكو وقف كل رحلاتها إلى مصر، وإجلاء كافة السائحين الروس منها مع نقل أمتعتهم في طيارة منفصلة، لتسير على نفس السياسات التي أعلنتها بريطانيا قبلها بأيام، والتي كانت أول من يطلق التصريحات الرسمية، أثناء زيارة السيسي في لندن، بخصوص سيناريو تفجير الطائرة.
مع تبنّي ولاية سيناء، أو تنظيم أنصار بيت المقدس كما عرّف نفسه سابقًا، لتلك العملية، يبدو لنا وأن ما جرى متصل نوعًا ما بما يجري على الأرض في سوريا، فإسقاط طائرة روسية، وما يستتبعه ذلك من وضع النظام المصري تحت ضغط والإضرار بقطاع السياحة فيه، وهو أمر متوقع من عملية كهذه، يصب تمامًا في أهداف التنظيم بل ويضرب له عصفورين بحجر؛ فنظام السيسي عدوه الرئيسي على الأرض، أما روسيا فإن العملية تأتي ردًا على ما تقوم به في سوريا منذ أسابيع.
في حديثه لمؤتمر جمع محللين وسياسيين دوليين الشهر الماضي، قال بوتين متحدثًا عن عملياته العسكرية في سوريا، أن ما يجري هناك ضربة استباقية، “لقد علمتني شوارع لينينجراد منذ خمسين عامًا شيئًا واحدًا، وهو أنه إذا رأيت المعركة وقد أصبحت حتمية، فعليك أن تضرب أولًا،” هكذا صرّح بوتين، والذي يبدو وقد قرر أن يضرب أولًا في سوريا، لتواجهه معضلة جديدة لم يعمل حسابها ربما، وهي التصعيد من جانب من وصفهم بالإرهابيين بأساليبهم هم، وهو تصعيد إما سيدفعه لتشديد ضرباته العسكرية، وإما لطاولة الحوار، أيهما سيختار إذن؟
ضربة استباقية أم خطأ استراتيجي
يرى المسؤولون في واشنطن أن بوتين قطع أشواطًا أكثر مما تتحمله قوة روسيا في سوريا، وهو ما يفسر سياسة “المراقبة من بعيد” التي اتبعتها الولايات المتحدة حيال العملية الروسية، أو كما يقول مسؤول أمريكي رفيع، سياسة “لنشاهدهم وهم يفشلون من تلقاء أنفسهم،” والتي اعتقد معها البيت الأبيض أن روسيا ستواجه في النهاية واقع ضرورة خروج الأسد من السلطة، “لقد كانت تلك المرة الأولى التي يقاتل فيها الروس جوًا لتدعيم قوات النظام على الأرض، وقد بالغوا كثيرًا في كفاءته، فالواقع هو أنه إن لم تتدربا سويًا، سيكون أمرًا معقدًا جدًا تحقيق أي تنسيق أرضًا أو جوًا بينكما مهما كان.”
بالغ الروس إذن في حساباتهم عن كفاءة الجيش الروسي، وقللوا من قدر الفوضى الموجودة على الأرض في سوريا، ليرتكبوا خطأ استراتيجيًا فادحًا كما يقول المسؤول الأمريكي، والذي تعرف بلاده جيدًا معنى الفشل من هذا النوع بعد حروب شبيهة خاضتها واشنطن خلال العقود الماضية، وتعرف أيضًا حتمية التدريب مع قوات أي نظام آخر قبل اتخاذ قرار بالقتال معه، كما تفعل في حلف الناتو بشكل عام، ومع اليابان في شرق آسيا، ومع باكستان في جنوب ووسط آسيا.
على الناحية الأخرى، يعتقد البعض في موسكو أن مغامرة بوتين كانت استغلالًا لتذبذب الموقف الغربي وغياب أي نوع من الحسم يفرض الحل الأقرب لمصالح واشنطن أو بروكسل، وهو ما دفعه كما يقولون للدخول فجأة وتعديل الكفة لصالح الأسد في عملية عسكرية سريعة تُجبر الأطراف على الجلوس والتفاوض دون إخراج الأسد من أي اتفاق نهائي، وهو ما يعني أن العملية كانت تكتيكية ولم تكن جزءًا من استراتيجية واسعة على غرار تحركات الأمريكيين كما يقول ميخائيل زيغار، رئيس تحرير محطة راين الروسية، “بوتين شخص تكتيكي وليس استراتيجي، وسنوات حكمه كلها تثبت ذلك، وأهدافه تتغير باستمرار.”
أيضًا، يقول محللون في موسكو أن الهدف من وراء ذلك التحرك التكتيكي هو احتواء داعش، على الرُغم من عدم التعرض لها بشكل مباشر، فالنظام يضرب المعارضة بالأساس ليقتل الأمل الوحيد الذي يتمسك به الغرب ويدفعه للاستمرار في انتظار ما يؤول له الصراع، وهو ما يهدد روسيا القريبة من المنطقة على المدى البعيد نتيجة القوة المتزايدة لداعش، والتي تمتلك آلافًا من المسلمين القادمين من الشيشان وآسيا الوسطى وقد يوجهون أنظارهم ناحية روسيا بسهولة، مما يعني أنه كلما تأخر الحل كلما تعرضت روسيا للخطر، وإجبار الغرب على الحل يتأتي بإنهاء أية آمال للمعارضة السورية، وليس بضرب داعش مباشرة.
بوتين وخطر الإسلاميين
الحركات الإسلامية بالنسبة لبوتين خط أحمر وعدو لا يحتمل، “ابدأ في الحديث عن الإسلاميين لتجد عيني بوتين قد احتدتا فجأة، فموقفه الثابت هو أن تلك المشكلة لا تواجه إلا بقبضة من حديد،” هكذا يقول توني برنتون سفير بريطانيا السابق في موسكو، والذي حاول يومًا ما الضغط على بوتين ليجبر حليفه في أوزبكستان، نظام الديكتاتور إسلام كريموف، على وقف عجلة العنف ضد الإسلاميين الذين ذبح منهم المئات عام 2005، ليرد عليه بوتين أنذاك بجملة واضحة، ’نعم كريموف قد يكون شخصًا سيئًا، ولكن خطر الإسلاميين أكبر بكثير بالنسبة لنا‘”
قد يشير لنا ذلك بأن حادث الطائرة سيدفع بوتين على الأرجح لتشديد ضرباته في سوريا، ورُغم التزام موسكو الرسمي بعدم إرسال أية قوات برية هناك، إلا أن التواجد الروسي عن طريق مسؤولين عسكريين وبأسلحة روسية على الأرض قد يتزايد بوجه المعارضة السورية لتحقيق الهدف المرجو من إجبار الأطراف على التفاوض، وربما بوجه داعش مباشرة الآن، والتي قد يشي حادث الطائرة الذي قامت به برغبتها في التصعيد ومواجهة الروس وجهًا لوجه في سوريا.
سوريا إذن ليست مجرد حليف لروسيا، ولا مجرد قاعدة لوجودها العسكري في البحر المتوسط، فهناك أهداف أخرى من خلف تلك العملية كما أشار البعض، منها التأثير على معادلات الطاقة في المنطقة، التي تعد منافسًا للغاز الروسي، ولكن منها أيضًا القيام بما لم يستطعه بوش يومًا ما، وهو عدم الوصول لأية حلول وسط مع الإسلاميين، سواء أكانوا المتطرفين في داعش أو المعتدلين في المعارضة السورية، فالنظم المستقرة كنظامي الأسد وكريموف وغيرها أفضل من فوضى تجلب الإسلاميين، وهو ما يعني أن موسكو الآن الطرف الدولي الأشد عداوة للثورات العربية نتيجة مآلاتها الفوضوية الحتمية في ظل منظومة استعمارية لا يمكن أن تستمر إلا بأنظمة سياسية قمعية.
***
الأطراف الدولية المختلفة الآن لا تزال بانتظار ردود أفعال بوتين على النجاح المحدود جدًا لعمليته العسكرية أولًا، وعلى العملية الإرهابية التي استهدفت الطائرة في سيناء ثانيًا، فهل ستجبر تلك العوامل بوتين على ترجيح كفة المفاوضات بدلًا من الانزلاق لمعترك لا يمكن الخروج منه، كما حدث للأمريكيين في أفغانستان من قبل؟ أم أن حادث الطائرة سيزيده عندًا ويزيد ضرباته قوة في سوريا؟ وهل يمكن أن يكون هذا ما تريده داعش أصلًا؟ أن تستدرج الروس؟ قد يكون ذلك نتيجة إدراكها لأهداف بوتين في احتوائها وفرض حل مبكر يغلق باب المعركة الذي تستفيد منه، ولكنه قد يكون محاولة لإبعاد ضربات الأمريكيين عنها، اعتقادًا منها بأن دخول الروس على الخط يعني بالتبعية خروج الأمريكيين ومشاهدتهم من بعيد.
“لا يبدو أن سياسة السحق المستمر تلك ستحقق لروسيا ما تريد.. أما من ناحيتنا فنحن لن نعارضهم عسكريًا إذا ما دعموا الأسد، ونعم سنجلس ونشاهدهم بينما يسقطون، آملين أن يدفعهم ذلك للتحلي ببعض الشروط المنطقية والجلوس على طاولة المفاوضات،” هكذا يقول المسؤول الأمريكي الرفيع، وهو أمر إن كان الروس يدركونه الآن بالفعل فإنهم سيوقفون عجلة العنف تدريجيًا والجلوس للتفاوض بالفعل، لا سيما وأن الضربة العسكرية بحد ذاتها قد حققت لهم هدف الحضور بقوة في المفاوضات الدولية، دون أن تحقق أي نجاح عسكري على الأرض.
كل ما علينا إذن هو مراقبة المواقف الروسية في الأسابيع المقبلة فيما يخص الملف السوري، لنعرف المسار الذي سيسلكه بوتين، وهل سيميل لكفة تحقيق مصالحه الاستراتيجية والخروج بصفقة تبدو مناسبة الآن؟ أم سيميل لكفة سحق أعدائه تمامًا والتي فشل فيها كثيرون ممن سبقوه؟
هذا المقال منقول بتصرف من صحيفة غارديان البريطانية