السؤال الأول: كيف يمكن لهذا التنظيم أن يصل إلى ما وصل إليه من قوّة ومن مناطق تحت سيطرته لو لم يكن مدعومًا من قوّة كبرى مثل أمريكا؟
الجواب: أولًا؛ من يدقق في الكيفية التي وصل إليها في السيطرة على الموصل والأراضي العراقية الأخرى عليه أن يفسّرها من خلال انهيار الجيش العراقي وانسحابه من الموصل وتلك المناطق بلا قتال، فالجواب هنا ينطلق من ضعف الجيش العراقي وانهياره وليس من قوّة “تنظيم الدولة الإسلامية”، إذ كان قوّة صغيرة جدًا جدًا قبل سيطرته على تلك المناطق، فقد قوي وتضاعف في العراق وسورية بعد تلك السيطرة وليس قبلها.
ثانيًا: الافتراض بأن أمريكا وراء ذلك يتطلب الإثبات بأنها مسيطرة على الأوضاع في العراق وسورية، وذلك ليكون بمقدورها أن تحمل تنظيمًا تريده ليصبح على تلك القوّة والسيطرة، وهذا الافتراض خاطئ وليس له ما يُعزّزه، ولو من بعيد، سواء أكان في العراق أم في سورية، فأمريكا خرجت من العراق بعد احتلاله مُكرهة ومن دون أن تلوي على شيء وهي أصلًا خارج سورية، فكيف يمكن لفاقِدِ الشيء (السلطة المفترضة) أن يعطيه، ومتى أمريكا تعطي من سيطرتها لأحد؟
السؤال الثاني: هل يُعقل أن يبرز تنظيم خلال ثلاث سنوات، ويصل إلى ما وصل إليه من قوّة وسيطرة من دون دعم خارجي؟
الجواب: يجب أن تُقرَأ هذه الظاهرة في أسباب انتقالها إلى ما وصلته من قوّة وسيطرة وليس من خلال العقل والمنطق، وإنما من خلال الوقائع، فالوقائع هي التي تقرّر ما يُعقل وما لا يُعقل، وليس ما يُعقل وما لا يُعقل هو الذي يقرّر الوقائع، لذلك دعوا موضوع ما يُعقل أو لا يُعقل جانبًا، ولو مؤقتًا، وحاولوا تفسير الوقائع من خلال قراءتها، هذا من الناحية المنهجية.
إن تمكُّن تنظيم داعش من التقدم بهذه السرعة، وانشقاقه عن تنظيم القاعدة وتشكّله على هذه الصورة أصلًا، يجب أن تُقرَأ من خلال ما يسود من موازين قوى وانقسامات وصراعات وظروف: أولًا سقوط الدولة القطرية في العراق على يد الاحتلال الأمريكي، ثم بسبب حلّ الجيش ومحاولة إعادة تركيب الدولة من جديد ابتداءً من الصفر، وثالثًا ما توّلد من انقسامات عميقة ما بين المكوّنات العراقية، الأمر الذي شكل موازين قوى سمحت لتنظيم داعش مع استفحال الفساد الذي ساد في الدولة العراقية قيد التكوين، ولا سيما في الجيش، كما تعمّق الصراع الذي اتخذ طابعًا مذهبيًا، بأن يقفز بهذه السرعة إلى تلك القوّة والسيطرة إلى جانب توّفر ميزات ذاتية مثل التجرّؤ على المغامرة والمخاطرة والممارسة المتوحشة بلا ضوابط.
وبالمناسبة لولا انهيار الدولة ولولا الانقسامات المذهبية لكان مصير داعش كمصير حركة جهيمان العتيبي (اقتحمت الحرم المكي عام 1979) الشبيهة التي تحرّكت في ظروف أخرى، وفي ظل دولة قوّية وميزان قوى إقليميًا – عالميًا متماسكًا فلم تصمد أسبوعًا في المواجهة لينتهي أمرها فورًا.
وبالمناسبة أيضًا ليس هنالك سابقة في تاريخ القوى العظمى، ولا سيما أمريكا، أن استطاعت من وراء ستار أو من خلال الاختراق المخابراتي، أن تقوم بدعم ظاهرة مثل ظاهرة داعش ومكّنت لها وهي تُناصبها العداء المُعلن وتترك طائراتها تقصفها وتغتال قياداتها، (نائب “الخليفة” أبو بكر البغدادي اغتيل بعد أقل من شهر من إعلان “دولة الخلافة”، وفي حملة قصف أخرى بعدها استُهدِف البغدادي نفسه، ويُقال إنه جُرحَ فيها، فنحن أمام عداوة جديّة وليست هزلًا).
وبكلمة ما دام السؤال اعتمد على منطق “هل يُعقل”؟ فعليه أن يعدّل معياره لما يُعقل ولا يُعقل، فَيعقل ما هو واقع، أو ما أصبح واقعًا، فمرجعية العقل لا تحلّ محل الوقائع بل تؤسّس عليها.
سؤال: لو قصدت أمريكا أن تقضي على داعش فعلًا لأرسلت قوات اجتاحتها، ولكنها تستخدمها لغرض في نفس يعقوب، فهي تحاربها بقدر، أو بنصف حرب؟
الجواب: بالفعل كان في الماضي بمقدور أمريكا أن ترسل القوات وتخوض الحروب البريّة ضد أعدائها أو خصومها، ولكنها اليوم غير قادرة بعد تجاربها الفاشلة في العراق وأفغانستان، وبعد أن لم يعد باستطاعتها واستطاعة الرأي العام الأمريكي استقبال جثامين جنود أمريكيين من حرب، ولو كانوا بالعشرات فكيف بالمئات والآلاف؛ لذا فإن فرضية الاكتساح غير واردة ليس بسبب انعدام الرغبة وإنما بسبب الخوف من الفشل وعدم احتمال المخاسر البشرية، ومن ثم من يقيس أمريكا اليوم على ما كانت عليه في القرن العشرين أو حتى في مرحلة جورج بوش الابن الفاشلة، يخطئ في فهمها في المرحلة الراهنة، ويغلط في تقدير الموقف واحتساب موازين القوى العالمية والإقليمية، فأمريكا فقدت ما تتمتع به من سطوة وسيطرة ودور قيادي، وقد جاء التدخل العسكري الروسي الأخير وامتلاكه لزمام المبادرة السياسية بحثًا عن حل سياسي في سورية ليشكل دليلًا قاطعًا على ما لحق بأمريكا من ضعف في ميزان القوى.
أما القول إنها تحارب القاعدة أو داعش نصف حرب، أو بقدر محدود لا تتجاوزه، فتفسير ذلك يكمن في مدى قدرتها في ميزان القوى العام وليس في أنها قادرة على حرب شاملة ولكنها تريدها نصف حرب لغرض في نفس يعقوب.
وبالمناسبة كانت أمريكا في صدد عدم التدخل في العراق عسكريًا حتى بعد سيطرة داعش على الموصل، وأما ما دفعها للتدخل العسكري فالخطر الذي شكلته داعش على الكيان الكردي في العراق بعد توجهها نحو أربيل وتراجع البشمركة أمامها، ولكن مع ذلك حصرته بالتدخل من خلال الطيران وبعض الخبراء فقط، وهذا من أضعف ألوان التدخل، لأن الحسم يكون على الأرض وليس من الجو.
إن هذا الفهم لميزان القوى ودور أمريكا فيه يجب ألاّ يحجب التناقض والصراع والعداوة بين أمريكا والقاعدة وداعش من جهة أو يقبل بنظرية أن هذه القوى صنيعة أمريكية من جهة ثانية، ولكن من جهة ثالثة يجب ألاّ يعمى هذا الفهم عن سياسات أمريكية ضمن الضعف والعجز تذهب لاستغلال صراعات داعش مع قوى أخرى وتستخدمها، بصورة غير مباشرة، ضدّها، فهنالك من تعاديهم أمريكا وتعتبرهم أشدّ خطرًا عليها من داعش والقاعدة.
وهنا تدخل السياسة في التعقيد والتحليل المرّكب بعيدًا من التبسيط الذي حمله السؤال أعلاه، فعلى سبيل المثال تعتبر أمريكا إيران وحزب الله وسورية وحماس وحركة الجهاد أشدّ عداوة، ناهيك عن روسيا والصين وقوى أخرى كثيرة في العالم، وذلك بالرغم من أن استراتيجيتها المعلنة تعتبر “الإرهاب” هو العدو رقم 1 وقد ترجمته في مرحلة بتسليط الضوء على القاعدة وفي أخرى على داعش وفي أخرى على كل من يُقاوِم الكيان الصهيوني أو تعتبره الصهيونية العالمية عدوًا؛ الأمر الذي جعل هذه الإستراتيجية متخبطة مرتبكة وملتبسة والأهم أدّى بها إلى تجاهل ما تشكّله روسيا والصين كدولتين كبرَيَيْن من تهديد لسيطرتها على ميزان القوى العالمي عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا.
سؤال: لو أسقطنا جدلًا بأن داعش ليست صنيعة أحد وإنما صنيعة نفسها فكيف يفسّر صعودها السريع هذا واتسّاع رقعة سيطرتها، وما تلقته من دعم، بصورة أو بأخرى من قِبل دول كثيرة؟
الجواب: إلى جانب ما تتمتع به من سمات ذاتية مثل التجرّؤ على المغامرة والمخاطرة وما يمارس من سياسات قتل وتمثيل وتنكيل بهدف إخافة خصومها ودبّ الرعب في قلوبهم (وهذا يفسّر حرصها على توزيع ذلك من خلال الصوت والصورة وعلى أوسع مدى)، فإن موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية ساعدتها، بصورة موضوعية، وذلك من خلال ما تتسّم به تلك الموازين من سيولة وفوضى وصراع وانقسامات وارتباكات في صفوف الدول الكبرى والإقليمية، وهذا البعد لا تفيد منه داعش فقط بل قوى كثيرة أفادت منه وما تزال تفيد منه وقد تضاعفت قدراتها وقوتها مثلًا روسيا كما نشهد الآن.
أفادت داعش، بداية، من انهيار الدولة العراقية الذي تمّ عبر الاحتلال الأمريكي، ثم انتقال الوضع الداخلي إلى مرحلة الانقسامات الطائفية والعشائرية والجهوية، واستفحال الفساد في الدولة قيد التكوين؛ مما أفشل بناء دولة قوية والانتقال إلى إجماع وطني متماسك، فضلًا عما أتاحه، أو يتيحه، ذلك من تدخلات إقليمية ودولية.
ما حدث من انقسامات وصراعات دولية وإقليمية وعربية وداخلية دفع قوى كثيرة وفي أوقات ومراحل مختلفة إلى تسهيل انتقال المقاتلين من عدة دول إلى سورية فالعراق والانضمام إلى داعش وغيرها من التنظيمات، وذلك بهدف ضرب النظام في سورية من دون أن يحسب جيدًا ما يحمله ذلك من مخاطر كالتي حدثت مثلًا القوّة والسيطرة اللتين تمتعت بهما داعش، وهو ما ينطبق على الدول التي دعمتها، بصورة غير مباشرة، وربما مباشرة، بالمال والسلاح أو شراء النفط الذي سيطرت عليه في العراق وسورية.
هنا وجب التفريق بين تفسير ما تلقته داعش من تسهيلات أو أموال أو سلاح راحت تعتبر من ورائه مسخرين وهي تضمر لهم الذبح بعد حين من جهة وبين اعتباره دليلًا لعمالتها لهذا الطرف أو ذاك كما يحاول البعض اتهامها به من جهة أخرى، حقًا إن داعش تلقت دعمًا من عدّة دول، ولكن ما من واحدة يمكن اعتبار رسن داعش بيدها، فهي قوّة متفلتة.
فالذين اتهموها بالعمالة لهذا الطرف أو ذاك ممن دعمها في مرحلة ما، بشكل أو بآخر، وكان مراده استخدامها ضدّ أحد خصومه، وجدوا أنفسهم محرجين عندما اندلع القتال بين داعش وذلك الطرف الذي اتهمت بالعمالة له، أو اتهم بالتواطؤ معها، وهؤلاء لم يخرجوا من حرجهم عبر إعادة النظر في ما قدّموه من قراءة وإنما لجأوا إلى نسيان ما قالوه، وبعضهم حين ووجِهَ بهذا الحرج فسّره بالقول “انقلب السحر على الساحر”، وإذا سؤل كيف؟ ذهب إلى تأويلٍ أقدامَه من خشب.
والسؤال الذي يطلب تفسيرًا بعد الإجابات آنفة الذكر ما الفائدة من إبعاد القراءة التي تعتبر داعش صنيعة أمريكا وإعفاء أمريكا من المسؤولية عما تفعله داعش:
الجواب ببساطة أنك لا تستطيع أن تضع خطة متماسكة لمواجهة داعش والانتصار عليها ما لم تقرأها على حقيقتها، وما لم تعرف حقيقة علاقات كل دولة بها، وما لم تضع يدك على موازين القوى والظروف والفتن المذهبية التي سمحت لداعش بأن تنمو وتقوى وتتمكن إلى الحدّ الذي وصلت إليه: فكل حسابات تُبْنى على خطأ، وكل اتهام يُبْنى بقصد التحريض وتبسيط هدف الصراع بعيدًا عن الحقيقة سيكون مآلهما الفشل والحرج وعدم القدرة على المواجهة.
هذا دون الحديث عن أهمية قيم القسط والعدل مع العدو والخصم كما مع النفس والقريب باعتبار ذلك ليس من الإيمان ومن حميد الخلق فحسب وإنما أيضًا من الصواب في إدارة الصراع، ومن التقدير الصحيح للموقف الذي يؤدي إلى توفير أسباب النصر، ولكن مع إيجاد العذر لمن يخطئ في القراءة وتقدير الموقف في هذه المرحلة التاريخية الجديدة عما كان عليه الحال منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى 2010، فهي مرحلة محيّرة للألباب وخارج ما كان مألوفًا ومن المسلمات.
وختامًا، وبكلمة، عندما تُربَط داعش براعٍ لها أو بقادرٍ على توجيهها، ولا ترى أسبابًا كالانقسامات الطائفية أو كالفساد في مؤسسة الجيش الذي يحاربها فسوف تبني استراتيجية الرد على مواجهة داعمها وراعيها، وليس على معالجة الانقسامات أو الفساد اللذين ينخران في جبهتك ولا يعززانها، ولا يسمحان بتشكل جبهة المواجهة الناجحة ضدّ داعش. ومن هنا فإن الإجابات عن الأسئلة أعلاه ليست ترفًا، وليست لأغراض البحث العلمي الصرف، وإنما من أجل تصحيح إستراتيجية المواجهة.