رحلة الى الأرض المباركة فلسطين

جاء اليوم الموعود وحانت ساعة الحقيقة، ذلك الفجر الجميل من يوم الخامس من أبريل من العام 2012، انطلقت الحافلة إلى الحلم، وانطلقت معها روحي وأشجاني.
عمّ سأكتب؟! سأكتبُ عن قافلة، أميال من الابتسامات، عن المتضامنين، عن الأطباء، عن المهندسين، عن الشباب المتحمسين، عن زملائي القادة الكشفيين، عن أبناء لبنان، أبناء الأردن، مصر، جنوب أفريقيا، بريطانيا.
سأكتبُ: انطلقت القافلة إلى قلبي في غزة.
ما أبطأ خطاك أيها الباص! ألا تعلم بأن أحبابي بانتظاري، أحلامي قد أعياها الصبر، أفكاري تتقافز فوق المسافات، تسبقني إليهم.
مرت خمس ساعات كأنها خمسة أيام بلياليها، وصلنا سيناء، فبدأت أحس بحرّ اللقاء، صور الشهداء والجرحى والأسرى، ترتسم أمام ناظري، ما أقسى تلك الصورة الأليمة، لا تغيب مطلقًا عن خاطري، أراها ماثلة أمامي رأي العين، لعنة الله على تلك الصواريخ التي حوّلتهم – يوم تخرجهم – إلى أشلاء، ما أقسى صور البيوت المدمرة والمدارس المهدمة والعائلات المشردة.
مشافٍ تفتقر إلى الحد الأدنى من الأدوات الطبية ومن الأدوية، حصار فولاذي بشع يفرضه على غزة الأخ قبل العدو!
اقتربنا.. واقترب اللقاء، كلما اقتربنا ازداد خفقان القلب، وكأنه – كما أفكاري – يرغب بأن يقفز إليهم قبلي!
وصلنا العريش، فاستيقظت كل الحواسّ، دخلنا رفح المصرية، فتكاثرت الأسئلة: هل وصلنا حيث قلوبنا؟ هناك ما تزال تنتظر، كم بقي من بؤس الزمن؟ متى نصل؟ متى نصل؟
ها قد وصلنا، نشاهد من النافذة مشهدًا كنت أنتظره منذ زمن بعيد، مشهد لم أره إلا في نشرات الأخبار، مشهد لا تراه إلا وتستحوذ عليك ذكريات الحصار والبؤس والإجرام.
لافتة كتب عليها: “ميناء رفح البري”، آه منك أيها الميناء المشؤوم! آه، وألف ألف آه! الحمد لله، وصلنا معبر رفح، تَئِطّ الأرضُ بالتكبيرات كما الزلزال، يكبر الأمل، الأمل برؤية الأرض المباركة، برؤية الأحبة، الأبطال.
يفتح الباب الحديدي الكبير بهدوء، يدخل الباص، يُغلق الباب الحديدي الكبير، خلفنا بهدوء، وتبدأ رحلة أخرى من الانتظار، انتظار المجهول، انتظار أن يسمح لنا القائمون على الحدود بالعبور إلى غزة، يذهب المنظمون ويعودون، لا جديد، علينا أن ننتظر.
صلينا الظهر والعصر جماعة على الرصيف، التعب تسلق أجسادنا، ولا جديد، سياسة التيئيس وإحباط المعنويات تعمل بفاعلية، لكن الإصرار على العبور وكسر الحصار أكبر بكثير.
أُذِّن لصلاة المغرب، والشباب والمنظمون يزدادون إصرارًا على العبور وكسر المحظور، كسر ذلك الحاجز، الذي صنعه ذلك العميل المأمور، كم هي صعبة ساعات الانتظار، كم هو مؤلم ذلك الشعور، أن تعيش ما يعيشه إخوانك المحاصرون في غزة، أن تحسّ بشعور المرضى وهم يفترشون الطرقات، الجرحى وهم ينتظرون في عربات الإسعاف إسعافهم في العبور، شعور الطلاب وهم يأملون بأن يلتحقوا بما تبقى من موسم جامعي نازف.
تقافزت الصور والمشاعر، كما أفكارنا والقلوب، لساعات طوال، ونحن ننتظر الرأفة من ذلك السجان، أيعقل أن يكون ذلك السجان اللئيم عربيًا، مسلمًا! أيعقل أن يكون له قلب؟! أليس لديه عائلة وأطفال؟ ألا يحتاج أطفاله إلى الحليب، إلى الطعام، إلى الغذاء، إلى الدواء؟! كم قست قلوبكم أيها العابرون! والله ما بقي لكم من العروبة إلا بمقدار ما يمرق سهم إنسانيتكم من الرمية! أخلقتم بشرًا مثلنا؟ ما لي لا أراكم إلا جيفًا تسكن في قرفٍ هياكلكم؟! ماذا اقترف أهل غزة بأطفالهم وعجائزهم ونسائهم ومرضاهم وجرحاهم؟! ألأنهم قالوا: ربنا الله واستقاموا؟ أم لأنهم أرادوا التحرر من الاحتلال والعيش بكرامة؟
هنا فقط.. أدركتُ ما خفي عني من السرّ العظيم! الآن فقط عرفت السبب في هذا الحقد الدفين، لقد تماهى الجلاد بذلك القيح الناتئ من أبناء جلدتنا!
صلينا المغرب والعشاء بخشوع واختصار، هيئ إلينا وكأن صوتًا يُدوّي من بعيد، وَكأنّه صوت ينادي (من السماء): يا أهل الأرض، افتحوا المعبر للشرفاء، افتحوا الأبواب للقادمين من أميال بعيدة، لمن يحملون للأطفال أطنانًا من الابتسامات، افتحوا الباب لكاسري حدود الظلم، وهادمي جدران العزل.
فُتح المعبر، وفتحت معه صفحة من صفحات عمري لن يمحوها الزمان؛ وصلنا الأرض المباركة، نزلنا من الباص، سجدنا لله شكرًا، كأنها سجدتنا الأولى، قبّلنا ثرى فلسطين، استنشقنا هواءها، استُقبلنا استقبال الأبطال الفاتحين، ونحن في قرارة أنفسنا، بإزائهم، عبيد أذلاء مقصرون.
دخلنا غزة .. الحلم، فتذكرت اتصالًا في منتصف الليل .. وهاهو ذا تحقق.