حيرني كثيرًا السؤال الوجودي “البيضة ولا الفرخة؟” المتعلق بالفساد عمومًا، وخصوصًا في مصر، أسبابه وانطلاقته وتناميه، حتى صار أسلوب حياة، حتى صار العادي: الرشوة، الوسطة، محاباة المسؤولين، استغلال النفوذ، وبالتالي خشية أصحاب النفوذ، حديث ضابط الشرطة إليك بشيء من العنجهة أو الازورار دون أن يذكر أهلك بصفاتهم الكريمة يعتبر من كرم أخلاق سعادته، بينما لو حدثك هذا الضابط بابتسامة مثلاً، أو قال لك كلمة رقيقة، مثل “لا تقلق” أو “تحت أمرك” فهذا دليل على أمرين: إما أنك تحلم، أو أن هذا الكلام المعسول سوف يتبعه بما يقال بالمصري “قفا متين” يعيد الأمور إلى مسارها بما ذكرنا أعلاه.
في الواقع أنا لا أعرف كيف بدأ الفساد، فلا أستطيع أن أقول إن هذا الشعب فرط وتهاون مرة، فوجد الفساد ثغرة ليمر منها إلى حياة المصريين، ثم عملت الحكومات المتتابعة على تغييب عقولهم وقيمهم، كما أنني لا أستطيع الجزم بأن الحكومة هي التي بدأت الفساد بأن قهرت الناس على غير ما يرغبون فصاروا خاضعين أمام السلطة الفاسدة، حتى استشرى الفساد بالصورة التي نرى.
على كل، صار لدي عقيدة بأن الفساد هنا فساد له قطبين: القطب الفاعل أو المستفيد، وقطب رد الفعل، ورد الفعل تباين بين السلب والإيجاب، ففي البداية كان الناس مغلوبين على أمرهم مع قليل من المقاومة، ثم صار الجميع يدور في دائرة الفساد، الفساد صار قانونًا، على الجميع أن يعمله حتى يجمع لنفسه ما يقوى عليه، ومن قانون إلى ثقافة عامة.
وتغللت تلك الثقافة إلى أعماق أعماق عقولنا وخواطرنا، حيث لا يمكنك أن تحسن الظن بأحد، لا يمكنك تخيل غير ما هو واقع، ما يمكن تحصيله من حاجات الفرد الحي الأساسية من مأكل وملبس ومسكن بالطرق غير الشرعية والشرعية متاح في حالة أنك أنت القوي، أما إذا كان هناك من هو أقوى منك، فهو أولى منك بها.
أما ما تبقى من رفاهيات الحياة، فهو ما أعنيه بدولة الغلابة، مشكلة الفرد المصري الرئيسية، أنه “بيتصرف”، بمعنى؛ الكهرباء تنقطع معظم ساعات اليوم، يشتري المولدات، المياه لا تصل إلى حيث يسكن، يركب “موتور”، البنزين زاد ثمنه، نمشي شوية، اللحمة، بلاها لحمة، حاجات الإنسان الروحية مثل المرح وسط ألعاب الملاهي وزينة العيد وبهجة العيدية، لا يعجز المصري أمام هذه، فالغلابة لديهم مراجيحهم الخاصة وعيديتهم المتواضعة وملابسهم الرخيصة، ويأكلون اللحمة في العيد كما الأغنياء، والجميع يشعر بالسعادة.
أضف إلى ذلك تحويل أزماتهم ومشاكلهم إلى نكات وطرائف، فمثلاً مشكلة غرق الإسكندرية – وأنا من أهلها – قاتلة، أناس تفسد بضائع لهم بآلاف الجنيهات، وآخرون تغرق منازلهم، والأقل ضررًا في هؤلاء من يتعطل عن عمله أو دراسته والمحاصرون في بيوتهم، ناهيك عن المستشفيات، وصعق المارة بالكهرباء وكوارث لو كنا في بلد ممن تعنيهم أرواح الناس لتغيرت لهجتي عن الحديث في هذا الشأن.
لدي ملحوظتان هنا: الأولى هو إصرار الناس على السعي في الشوارع حتى مع تعرض أرواحهم للخطر، وإن دل ذلك على شيء فلا يدل إلا على أن بقاءهم في منازلهم أيضًا يعرضهم للخطر، بائع “غزل البنات” الذي رأينا صوره في الثورة على مدار الأربع سنوات الماضية، في قلب الاشتباكات وأعنفها وأشدها، والذي تواجد أيضًا في تلك الشوارع الغارقة، هو لا يعرف المكوث بالمنزل، يومه متوقف على هذا “المشوار” الذي يحيى عليه، ولولا هذا المشوار فهو ميت.
النقطة الثانية: بعض الأشخاص اشتروا نوعًا رخيصًا من الأسماك، اسمها “القراميط” وألقوها في المياه، وأقاموا مسابقة للصيد، البعض الآخر حظوا بالمتعة بنزولهم إلى الماء بالعوامات والقوارب والجيت سكي، هكذا المصري، ابن النكتة، المرح، خفيف الظل، هذا منهجة وهذه طريقته التي تبقيه حيًا، مما فصل الدولة عنه، لذلك فأنا لا أتعجب من تصريحات حكومية منفصلة عن الواقع، في أغلب الأحيان هي كوميدية ومثيرة للضحك، ربما أصاب المسؤولين مما أصاب أبناء هذه الأمة.
حتى أن أجهزة الأمن والمخابرات وعت إلى هذه النقطة، وانتهجت سياسة أحب أن أسميها “فش غلك”، وهي تعتمد على بعض الوجوه الإعلامية والفنية، كتاب وممثلون ومقدمو برامج وصحفيون، لا يعصون الحاكم ما أمرهم، ولكنهم يكتبون في معارضة الحاكم ووزراءه وحاشيته، ويسخرون منهم ويضحكون الناس.
فقط، تضحك وتضحك، ويتدفق المورفين إلى رأسك، فتشعر بالسعادة ويخف الألم وتنسى الغد والأمس واليوم ونفسك وأمك وأختك وأهلك، مخدرات، من نوع آخر، أفيون لا تقلع عنه، تسخر من نفسك، ومن صديقك، رفيق القهوة، وصديقتك الصابرة طويلاً طويلاً، من حالك المتعسر، من علقة القسم، من ثمن الشقة الذي لن تدفع الحكومة لأهلك جزءًا على ألف منه إذا ما ذهبت في حادث قطار زامن خلاف بين الحكومة وبعض المعارضين فانتشر الحادث في وسائل الإعلام، وتبقى الدولة، وتبقى أنت، كما أنت.