يعاني السُّنة في العراق، منذ الغزو الأمريكي عام 2003، تهميشًا واضحًا، ولم يقتصر ذلك على الجانب السياسي وإنما تعداه إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية؛ فقد قادت الأحزاب والجماعات الشيعية، بدعمٍ مطلقٍ من إيران يقابله تقاعس عربي وإقليمي ودولي، حملة منظمة تهدف إلى القضاء على أهل السنة، فقاموا بتنفيذ عمليات اغتيالٍ وتهجير واعتقالٍ منظمة، ثم لم يكتفوا بذلك، بل عمدوا إلى محاولة تغيير ثقافة السكان عن طريق تغيير المناهج الدراسية في المدارس والجامعات، بما يضمن بناء جيل محملٍ بالعقائد والأفكار الإمامية الإثنا عشرية.
قابل هذا العمل المنظم من قِبل الجماعات والأحزاب الشيعية ضعف وتشرذم واضح اعترى أهل السنة في العراق، وقد وصلت الأمور ذروتها عندما سيطر “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) على معظم المناطق العربية السنية في شمال العراق وغربه، حيث أصدر السيستاني فتوى “الجهاد الكفائي” التي تشكـَّل على إثرها ما يسمى “الحشد الشعبي”، لتتشكل بذلك ميليشيا شيعية خارجة عن سلطة الدولة وخاضعة للسلطة الشيعية الإيرانية.
الاحتلال الأمريكي
بدا الأمر منذ اليوم الأول للغزو وكأن قوى عراقية – ومعها أطراف خارجية – تعيد صياغة شكل البلد، وترسم خريطته المذهبية والسكانية والاجتماعية من جديد، بعد أن سُلم الملف العراقي لإيران التي قامت بدورها بتنفيذ خطة معدة مسبقًا تعتمد على الأحزاب والجماعات المسلحة الشيعية التي شكلتها ودعمتها في السابق (مثل: “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” الذي شـُكِّل في إيران عام 1982، و”قوات بدر” التابعة له التي شاركت إلى جانب القوات الإيرانية في حربها مع العراق)، وقد سهَّل المهمة الإيرانية قيام الحاكم المدني الأمريكي “بول بريمر” بحل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، ليتسنى إعادة تكوين العراق وتشكيله بالصورة التي تخدم الأهداف التي احتـُل العراق من أجل تنفيذها.
ويذكر الدكتور نبيل خليفة في كتابه “استهداف أهل السنة”، أن “التركيز على العراق ذو مغزى جيو – إستراتيجي كبير، ليس لأنه الواجهة الشرقية للعالم العربي والحاجز أمام الثورة الإيرانية وحسب ، بل لأن مشروع المشرق يبدأ تنفيذه بإسقاط السلطة السنيّة في بغداد؛ بمعنى آخر إسقاط العراق كدولة عربية سنيّة، ونقله وانتقاله إلى السيطرة الشيعية على السلطة. وهذا في رأي الإستراتيجيين أهم تغيير جيو – إستراتيجي في المنطقة لأنه المدخل إلى تغيير ثلاثة أمور أساسيّة:
أولها: تغيير وجه “الشرق الأدنى” من دول الأكثرية السنية إلى دول “تحالف الأقليات الكونفدرالية” بحدوده الجديدة وبأعمدتها الأساسية الأربعة: الشيعة (وفيهم العلويون) اليهود الأكراد والمسيحيون.
ثانيها: تغيير هوية المشرق من هوية عربية إلى هوية إيرانية .
ثالثها: تغيير انتماء المشرق من انتماء إلى “العالم السنّوي” إلى انتماء إلى “العالم الشيعوي”.
ولتحقيق هذا التغيير، يتم استخدام فكر إستراتيجي متفوّق تنظيمًا وتخطيطًا وتسلحًا في الجانب الأقلوي، وعلى يد داعميه الإقليميين والدوليين؛ لأنه الوسيلة الوحيدة لكسر التفوّق التاريخي – الديمغرافي – السلطوي لأهل السنة، الذين يعانون من أمرين:
الأول: الافتقار إلى إستراتيجيّة فاعلة ومناسبة للمرحلة التي يمرّ بها العالم الإسلامي والشعوب الإسلامية.
الثاني: الافتقار إلى “فكر سياسي حداثي ومعاصر”.
أحسنَ شيعة العراق استغلال الفرصة التي قدمت لهم من قِبل الأمريكيين بعد أن قاموا بإسقاط صدام حسين، وقد كان جورج بوش الأب – قبل عقد من احتلال العراق – دعم التمرد الشيعي الذي بدأ في جنوب العراق عام 1991، حين أدرك الأمريكان سهولة إقامة تحالف مع شيعة العراق، فامتد هذا التحالف من ذلك الحين حتى احتلال العراق، ومن هنا ظهر ما عرف باسم المكون أو “المثلث السني”، وهو كيان فرضته طبيعة “عراق ما بعد الغزو الأميركي”.
انشق الصف السني بعد الاحتلال الأمريكي إلى جماعتين؛ لأولى اختارت النهج السياسي وشاركت في مجلس الحكم، وكان المجلس يتكون من 25 عضوًا؛ 12 منهم من الشيعة، و5 من السنة، و5 من الأكراد، ومقعد واحد للتركمان ومثله للمسيحيين.
وبنظرة سريعة إلى هذا التقسيم يبدو السعي الواضح إلى تمكين الشيعة من زمام الحكم في العراق؛ إذ تم تقسيم كراسي مجلس الحكم اعتمادًا على الإحصائيات السكانية المغلوطة التي تدعي أكثرية الشيعة في العراق، مع أن أهل السنة هم الأغلبية وفقًا، للإحصاء الذي أجري عام 1997 (آخر استطلاع رسمي لعدد السكان في العراق)، وتبين فيه أن نسبة السنة في العراق يساوي 56.5% ونسبة الشيعة تساوي 39.5%.
أما الجماعة الثانية فقد اختارت العمل المسلح ضد القوات الأمريكية والقوات العراقية التي تشكلت بعد الاحتلال، على حدٍّ سواء.
وما زاد ترنح الدور السني وضعفه، العداء وعدم التنسيق الذي كان يخيم على العمل السني، ولم تكتف الأحزاب والفصائل السنية بالمناكفات الإعلامية ومحاولة استمالة الرأي العام السني، بل تعدى ذلك إلى الاستهداف المباشر لبعض قادة ورموز العمل السياسي السني.
على الجانب الآخر، استغل الشيعة الثقة الممنوحة لهم من قِبل الأمريكيين، التي تشكلت عن طريق التحالفات والاتفاقات المبرمة سابقًا بينهم، وقد قوبلت هذه الثقة بفتوى أصدرها المرجع الأعلى “علي السيستاني”، حرّم فيها مجابهة ومقاومة الاحتلال الأمريكي، فتوطدت العلاقة أكثر بين الشيعة والأمريكيين، وقد انعكس ذلك على بناء العراق الجديد بقيادة عسكرية ومؤسساتية شيعية.
وبهذا التحالف المسبق الذي شُـكِّل بين الأمريكيين والشيعة المدعومين من إيران هيمن الشيعة على مفاصل الدولة العراقية، لتبدأ مرحلة إقصاء أهل السنة وتهميشهم.
النفوذ الإيراني في العراق
وفرت أمريكا باحتلالها للعراق عام 2003 فرصة تاريخية لإيران لتحويل علاقتها مع العراق، التي كانت سابقًا واحدة من أشد أعدائها، فقد استغلت إيران الحدود الطويلة التي يسهل اختراقها مع العراق، وعلاقاتها الوطيدة مع سياسيين عراقيين رئيسيين، وأحزاب وجماعات مسلحة عراقية، فضلًا عن قوتها الناعمة المتمثلة في المجالات: الاقتصادية والدينية والإعلامية؛ لتوسيع نفوذها، ومن ثم ترسيخ مكانتها في العراق، بشكل يتعدى النفوذ إلى الحكم والسيطرة.
سعت إيران إلى التأثير في سياسات العراق من خلال العمل مع الأحزاب الشيعية لخلق دولة ضعيفة يهيمن عليها الشيعة، وتتقبل النفوذ الإيراني، فقد شجعت حلفاءها المقربين: “المجلس الأعلى الإسلامي العراقي” وميليشياته “منظمة بدر”، و”حزب الدعوة الإسلامي”، وكذلك “الصدريون”، مؤخرًا للمشاركة في الحياة السياسية والمساعدة على تشكيل المؤسسات العراقية، ويقابل هذه التحالفات والنفوذ نأي الدول العربية المجاورة للعراق بنفسها عن التدخل وإنقاذ نفسها من التمدد الإيراني قبل إنقاذ العراق.
ويكمن هدف طهران من توحيد الأحزاب الشيعية في العراق أن تتمكن من ترجمة ثقل الشيعة الديموغرافي إلى نفوذ سياسي، وبذلك تعزز من سيطرتها على الحكومة، وتحقيقًا لهذه الغاية حاولت إيران التأثير في نتائج الانتخابات البرلمانية عامي 2005 و2010، وكذلك انتخابات 2009 الإقليمية؛ من خلال تمويل مرشحيها المفضلين، وتقديم المشورة لهم، وتشجيع حلفاءها الشيعة على خوض الانتخابات تحت قائمة موحدة لمنع تقسيم أصوات الشيعة، وقد قام وكلاء إيران الدينيون، أمثال السيستاني، بإصدار الفتاوى الموجبة للمشاركة الكثيفة في الانتخابات، كما سعت إلى الحفاظ على علاقاتها الجيدة بصفة تقليدية مع الأحزاب الكردية الرئيسة؛ لتأمين نفوذها في أجزاء من شمال العراق.
وتمارس طهران نفوذها من خلال سفارتها في بغداد، وقنصلياتها في: البصرة وكربلاء وأربيل والسليمانية، كما أن سفيرَيها الاثنين اللذين عُينا بعد عام 2003 كانا قد خدما في “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري الإسلامي” (المسؤول عن العمليات السرية في الخارج)، وذلك يؤكد الدور الذي تقوم به أجهزة الأمن الإيرانية في صياغة وتنفيذ السياسة الإيرانية في العراق، وقد استخدمت هذه الأجهزة الأمنية أحيانًا عملاء من “حزب الله” اللبناني يتحدثون العربية لتسهيل دعم الجماعات المسلحة الشيعية.
عملت إيران على نسج أنشطة القوة الناعمة في منهجها الحكومي الشامل بما يعكس نفوذها في العراق، وتحقيقًا لهذه الغاية، فقد اتخذت تدابير وقائية، واتبعت سياسات تجارية لا تحقق مصلحة العراق، وحاولت السيطرة على المرجعية الشيعية فوق الوطنية التي مقرها في النجف، كما حاولت التأثير في الرأي العام العراقي من خلال أنشطة المعلومات.
وفي الجانب الاقتصادي، عززت إيران روابطها التجارية والاقتصادية مع العراق للحصول على مكاسب مالية وتحقيق القدرة على التأثير في جارتها، وقد قامت إيران بإغراق العراق بمنتجات وسلع استهلاكية رخيصة ومدعومة، وقد أدى ذلك إلى تقويض القطاعات الزراعية والتصنيعية العراقية، كما قامت إيران ببناء عددٍ من السدود، وتحويل الأنهار التي تغذي المجرى المائي لشط العرب، وهوما أثر سلبيًا على قطاع الزراعة العراقية في الجنوب، وأعاق جهود إحياء الأهوار.
العراق ساحة انطلاق تصدير الثورة
لقد كان أحد أهداف إيران الرئيسة منذ الثورة الإيرانية تأمين سيادة أيديولوجيتها “الرسمية” في المجتمعات الشيعية في جميع أنحاء العالم؛ من خلال إنشاء المدارس والمعاهد الدينية الشيعية، ودعم علماء الشيعة في مختلف الدول الإسلامية.
وقد اختارت إيران العراق لأنها قد أمنت السيطرة عليه عن طريق السياسيين والأحزاب والميليشيات الشيعية التي أنشأتها ودعمتها، بالإضافة إلى سهولة اختراقه، كما كان للموقع الجغرافي العراقي القريب من إيران كبير الأثر في تسهيل هذه المهمة.
وتستخدم إيران وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي في زرع أيديولوجيتها والترويج لمشاريعها لكي تتمكن من بناء قاعدة انطلاق لها تخولها تصدير الثورة، ويقابل هذا النفوذ والتمدد ضعفًا في النفوذ السعودي والعربي بشكلٍ عام.
مستقبل سنة العراق
بات مستقبل سنة العراق أكثر غموضًا وضبابية بعد دخول تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى العراق، وسيطرته على معظم المحافظات السنية، وقد أدى هذا الدخول إلى نزوح كثير من أهالي هذه المناطق إلى داخل العراق وخارجه، بالإضافة إلى معاناة من تبقَّى منهم اقتصاديًا وصحيًا.
استُغل دخول التنظيم إلى هذه المناطق من قِبل الشيعة؛ فسارع المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني إلى إصدار فتوى الجهاد الكفائي، التي شُكل على ضوئها ما يعرف بـ “الحشد الشعبي”، الذي بات القوة الأكثر نفوذًا في العراق اليوم.
وبتجزئة الأزمة يتبين أن مستقبل السنة في خطر؛ لعدة أسباب:
1- فقدان السنة الثقل السياسي الذي يمكنهم من إدارة واستحصال الحقوق، فلا يملك السنة مرجعية سياسية أو دينية أو حتى اجتماعية يلتفون حولها.
2- يعاني السنة أزمة اقتصادية خطيرة بسبب دخول “تنظيم الدولة”؛ إذ أدى هذا الدخول إلى تعطـُّل التجارة وانتقال الأموال بشكلٍ كبير.
3- يعاني السنة غياب الاهتمام والدعم الدولي بشكلٍ عام، والعربي السني بشكلٍ خاص، إذ جُعِلت قضايا سُنة العراق قضايا هامشية غائبة عن جميع المحافل الرسمية العربية.
4- غياب قوة عربية أو إقليمية تواجه وتمنع التمدد والتغول الإيراني على حساب أهل السنة في العراق.
يمكن القول إن ما يقع اليوم على سنة العراق يرقى إلى أن يكون إبادة جماعية وتغييرًا لديمغرافية البلد، وهو ما سيسهل مهمة إيران فيما تسعى إليه.
يمكن تلخيص ما ستؤول إليه الأمور فيما يلي:
1- تشكيل إقليم عربي سني يكون فقيرًا لقلة الموارد في المناطق السنية، وبالمقابل سيتم تشكل إقليم شيعي تابع ومُدار من قبل إيران، قوي اقتصاديًا، وغني بالنفط والموارد، وبذلك سيكون هذا الإقليم منفذ إيران العسكري والاستخباراتي على دول الجوار.
2- بقاء الوضع على ما هو عليه سيؤدي أيضًا إلى سيطرة إيران (شبه) المطلقة على العراق.
يجدر بسنة العراق، وبمساعدة عربية وإقليمية، أن يقوموا بتشكيل بيت سني على غرار “البيت الشيعي”، يدار لوجستيًا من قِبل تحالف سعودي، وهو ما سيخلق حالة من توازن القوى التي سيمتد أثرها حتمًا إلى دول الجوار، خصوصًا إلى سوريا.
الخلاصة
على المتلقي، وصانع القرار، أن يدرك بأن دعم سنة العراق يمثل دعامة أساسية للحفاظ على أمن المنطقة وحل أزماتها وصراعاتها، فمن يدير الملف العراقي هو ذاته من يدير الملفات: السوري واللبناني واليمني، والوقوف في وجهه في العراق سيضعف أذرعه في باقي المناطق المتنفذ فيها.
وعلى السعودية خصوصًا أن تدرك أن العراق يمثل حدًا فاصلًا بينها وبين التمدد الثوري الإيراني، وأن تخليها عن سنة العراق وإحجامها عن التحرك لموازنة قوة إيران فيه، يعد انتحارًا سياسيًا وأمنيًا قد يكلفها الكثير على المديين: القريب والبعيد.
وتجدر الإشارة إلى أن الشيعة في العراق لا يمثلون قوة متجانسة بالمعنى الدقيق؛ إذ تتنافس الجماعات المختلفة ضمن الطائفة بعضها مع بعض على السلطة، وكانت قاعدة دعم الأحزاب الشيعية العائدة من المنفى، مثل: “المجلس الأعلى الإسلامي العراقي” (كان يعرف في السابق باسم “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” وقد تم تشكيله في إيران)، و”حزب الدعوة”، محدودة في العراق، وهو الذي دفعها إلى استغلال الطائفية والمخاوف الطائفية لخلق جمهور ناخبين وحاضنة اجتماعية جديدة، وقد شدّد خطاب هؤلاء القادة على حكم الأغلبية، ومنع الظلم والتمييز، والحيلولة دون ظهور دكتاتورية جديدة.
كانت الأطراف السياسية الشيعية الفاعلة الرئيسة مهتمة بتأمين التمثيل النسبي في قيادة الدولة وضمن مؤسّساتها، غير أن نوري المالكي تمكّن – وبنجاح منقطع النظير – من توطيد سلطته وسلطة مؤيّديه.
وفي العام 2008، قاد المالكي حملة عسكرية ضد “جيش المهدي” (وهو قوة عسكرية أنشأها مقتدى الصدر)، وكان جيش المهدي يسيطر على البصرة في حينها، وقد استطاع المالكي أن يجبر الصدر على سحب ميليشياته، وأعلن تجميد النشاط العسكري لـ “جيش المهدي”، ليعود إلى الساحة بعد دخول “تنظيم الدولة الإسلامية” وتمدده في العراق.
وقد عملت إيران على توحيد هذه الفصائل، وإن كان توحيدًا ظاهريًا؛ بهدف الحفاظ على سطوتها عن طريق تابعيها من شيعة العراق، وهذا بالضبط ما يفتقر له سنة العراق، فلا يوجد من يسعى لجمع كلمتهم أو يدافع عنهم.