توقعات
(1) مع تشعب التكنولوجيات القائمة وحدوث تطورات جديدة تمنح وصولًا أفضل إلى الفضاء؛ فإن أطر الحرب الباردة للتبادل السلمي للفضاء القريب من الأرض سوف تتآكل، وسف تتآكل فاعلية القوانين الحالية المنظمة لشؤون الفضاء.
(2) الاعتماد على النظم الفضائية، مثل الأقمار الصناعية، وتدهور الأنظمة القائمة سوف تجعل عسكرة الفضاء أمرًا لا مفر منه، ويبدو أن اعتماد الولايات المتحدة على الشبكات الإلكترونية للعمليات العسكرية والاستخباراتية هي نقطة الضعف الرئيسية التي يمكن أن تستغلها بعض البلدان مثل الصين.
(3) التنافس على الموارد في النظام الشمسي سوف يؤدي حتمًا إلى صراع عسكري.
تحليل
بالنسبة لمعظم المخططين الإستراتيجيين، لا يمثل الفضاء سوى أرضًا مرتفعة في نهاية المطاف، بنفس الطريقة التي منحت بها السيطرة على السماء بعدًا جديدًا للقتال في حروب كبرى خلال القرن العشرين، فإن الاستغلال العسكري للفضاء ربما يكون السمة المميزة للقرن الحادي والعشرين.
دفعت تكنولوجيا الصواريخ الألمانية أول الأنظمة غير المأهولة (بدون بشر) إلى الفضاء خلال المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، سافرت هذه الأنظمة ما وراء خط كرمان (مصطلح علمي يشير إلى الخط الفاصل الأكثر قبولًا بين العلماء ما بين الأرض والفضاء) بحوالي 100 كيلو متر (62 ميلًا)، منذ أواخر الخمسينات وصاعدًا، فإن القدرة الروتينية على إطلاق أنظمة مأهولة وغير مأهولة إلى المدار قد بشرت بعهد جديد من المنافسة بين الكتلة السوفياتية والغرب، بقيادة الولايات المتحدة، ومع تقدم الحرب الباردة، فإن الاستفادة من البيئة القريبة من الأرض شكلت جانبًا إستراتيجيًّا جديدًا للصراع، وأضاف ميدانًا جديدًا إلى المعركة التي تتنافس فيها القوى العالمية.
في المواجهة بين قوى ما بعد الحرب، كانت الصواريخ البالستية العابرة للقارات هي الأسلحة الوحيدة المتاحة لدخول الفضاء، وقد تم شحنها خارج الغلاف الجوي للأرض قبل أن يتم نشر الرؤوس التي تحملها بواسطة حاملات مثبتة على الأهداف الخاصة بها، لم تكن هناك أنظمة دفاعية قائمة يمكن أن تتمركز في الفضاء أو قريبة بما فيه الكفاية لضمان التأكد من القوة التدميرية للصواريخ البالستية أو حمولتها القاتلة، وكذا فإن عمليات تطوير وتنظيم وصيانة الأسلحة والقواعد الفضائية لم تكن ذات إجراءات محددة، كما أن الاتفاقات التي تحدد ما يمكن فعله في الفضاء المجاور للأرض لم تكن في هذا التوقيت موضعًا للجدل والخلاف.
كان يؤمل أن هذه الاتفاقات سوف تعالج بعض المخاوف السائدة في ذلك الوقت، بما في ذلك المخاوف بشأن التفجيرات النووية في الفضاء وحول الحطام العائد إلى الأرض، واستندت اللوائح التي توسطت فيها الأمم المتحدة على التقنيات والقدرات والتوقعات المتوفرة إبان الحرب الباردة، لذا فإن قوانين الفضاء الناشئة كانت غامضة بشكل كبير، ولذلك، فإن القانون الدولي القائم يعتبر فقط أدنى نقطة يصل إليها الجسم في مداره (الطريقة التي تنطلق بها المركبات الفضائية والتي تجعلها تدور حول الكرة الأرضية كلها عند الصعود للفضاء مثلت مشكلة كبرى؛ لذا فقد استقر قانون الفضاء أن الجسم طالما لا يزال مستمرًّا في الدوران فإنه يقف ضمن الفضاء الدولي، أما الجسم الذي يستقر في مكان ثابت فإنه يقع ضمن فضاء محلي)، كانت المشكلة غامضة قانونيًّا وتكتنفها العديد من النقاط الرمادية التي يمكن النفاذ منها لتحقيق مكاسب.
ومع ذلك، ومع تحسن التكنولوجيا وتطور الضرورات الإستراتيجية للبلدان، فقد صارت مسألة الهيمنة على الفضاء تؤخذ بالاعتبار، وقد تم توجيه انتقادات شديدة لمبادرة الدفاع الإستراتيجي (SDI)، التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان في عام 1983، ولكنها أثبتت أن التطور المنطقي للدفاع الصاروخي لا بد أن يشمل أيضًا المنصات المدارية كما يشمل النظم القائمة على الأرض، (هدفت المبادرة إلى تدمير قدرات الصواريخ العابرة للقارات والرؤوس الحربية في الجو وهو نظام دفاعي تقني ضد الأسلحة النووية)، وعلى الرغم من أن المبادرة، المعروفة باسمها الأكثر شعبية “حرب النجوم”، لم تؤت ثمارها، فإن الولايات المتحدة لا تزال تحقق التفوق العسكري العالمي في السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي.
في سعيها نحو تحقيق الهيمنة العسكرية، اعتمدت الولايات المتحدة بشكل متزايد على البنية التحتية الفضائية في شن الحرب، وبينما تمسكت واشنطن بحظر تثبيت الأسلحة الهجومية، بما في ذلك أنظمة القتل الحركية ومنصات توجيه الطاقة والأقمار الصناعية الحاملة للصواريخ في الفضاء.
بشكل كامل فإن الولايات المتحدة تثّبت جزءًا كبيرًا من قدرات شبكاتها الإلكترونية في الفضاء مما مكنها من التدخل في الصراعات في جميع أنحاء العالم، كانت الأقمار الصناعية العسكرية العمود الفقري لشبكة مركزية للعمليات تضم هياكل القيادة، السيطرة، الاتصالات، الكمبيوتر، الاستخبارات، والمراقبة والاستطلاع، وتعرف باسم (C4ISR)، وتزامن تطور (C4ISR) مع ظهور الذخائر الموجهة بدقة وثورة الطائرات بدون طيار مما يتيح حرية حركة البيانات في نفس اللحظة، كل شيء بداية من نظام تحديد المواقع (GPS) إلى رصد الإنذار المبكر، تتبع الطقس، الاتصالات التكتيكية والإستراتيجية، وجمع المعلومات الاستخبارية يتم تسهيله بواسطة شبكة أمريكية عملاقة من الأقمار الصناعية العسكرية.
ومع ذلك، فإن الجيش الأمريكي ليس هو المشغل الوحيد للبنية التحتية الفضائية، قائمة البلدان ذات البرامج الفضائية المتقدمة تشمل أيضًا الصين، روسيا، إسرائيل، اليابان، وبعض أعضاء حلف شمال الأطلسي، وجميعها تعتمد على بعض القدرات الفضائية العسكرية، وهذا الاتجاه آخذ في الازدياد، وبقدر ما تقود الولايات المتحدة هذا المجال واعتمادها المتزايد على أنظمتها الفضائية، فإن عددًا كبيرًا من هذه الأنظمة هي أنظمة هشة ولا يمكن الدفاع عنها.
هذا الضعف لا يغفل المراقبة المستمرة لهذه الأنظمة من قِبل المنافسين للولايات المتحدة؛ من خلال إيجاد وسيلة لتعطيل النظم الفضائية، يمكن للخصم أن يوقف الاتصال داخل الشبكة متعددة الأجسام للنظم العسكرية الأمريكية ويغرقها في ظلام معلوماتي قبل أن يوجه لها ضربة بدنية حاسمة دون أن يقوم بأي انتهاك لمعاهدة الفضاء الحالية.
التهديدات الناشئة
المثال الأكبر على هذا الخطر الذي يهدد النظم المدارية للولايات المتحدة الأمريكية يأتي من الصين، وقد أثارت تجارب الصواريخ المضادة للأقمار الصناعية الصينية التي نفذت على مدى السنوات القليلة الماضية انتباه البنتاغون، على الرغم من محدودية فعالية الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية الأرضية، بالأخص فيما يتعلق بالتتبع ومتطلبات الدقة نظرًا لسرعة وحجم وارتفاع الأقمار الصناعية، فإن هذه التكنولوجيا تتطور بسرعة، وبالنسبة للبلدان التي مازالت تتطور عسكريًّا، فإن هناك حوافز قوية لتطوير تكنولوجيا مضادة للأقمار الصناعية على أمل أن بإمكانها تحييد أو تعطيل واحد من أعظم المزايا التي تمتلكها الولايات المتحدة وهي البنية التحتية لمشروع (C4ISR).
معظم البلدان الأخرى ليس لديها نفس نقاط الضعف مثل الولايات المتحدة، الأمر الذي يجعل من الصعب على واشنطن فرض بيئة مشابهة لبيئة الردع الإقليمي التي عملت بشكل جيد خلال سباق التسلح النووي، وبعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة ليس بإمكانها أن تستخدم التهديد بتعطيل البنية التحتية للدول الأخرى القائمة على الاتصالات الفضائية نظرًا لأن هذه الدول لا تعتمد أساسًا على هذه التكنولوجيا، حتى قيادة فضاء الولايات المتحدة تواجه معضلة: كيف يمكنها تغطية شبكة تعد مكشوفة إلى حد كبير وغير قابلة للدفاع عنها؟
ربما بسبب المخاوف من اختبارات مضادة للأقمار الصناعية أجرتها الصين في 30 أكتوبر، فإن وزارة الدفاع الأمريكية قد بدأت في الآونة الأخيرة الحديث عن “مراقبة الفضاء”، ويشير التحول في لغة الخطاب إلى تغيير محتمل في نهج وزارة الدفاع الأمريكية، واشنطن تدرك أن أخذ زمام المبادرة يتطلب منها تجاوز حدود معاهدة الفضاء الخارجي، ولن تكون هذه الخطوة هي الأولى من نوعها؛ ريغان أظهر رغبة في تجاوز المعاهدة من خلال برنامج حرب النجوم على الرغم من كونه توقف في نهاية المطاف بسبب عدم وجود الإرادة السياسية والقدرة التكنولوجية.
سباق الفضاء
في حين تعمل واشنطن على تأمين تقنيتها المدارية، إلا أنها تدرك أيضًا أن المنافسين يحاولون اللحاق بالركب، هذا لا يعني أن الجيش الأمريكي كان مهملًا في تطوير وتوسيع قدراته، تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية المضمار في ميدان الدفاع ضد الصواريخ البالستية وكثير من النظم تم تطويرها لتعمل خارج الغلاف الجوي للأرض، كما تهيمن الولايات المتحدة على البنية التحتية للتتبع الفضائي؛ وتعني القدرة على رؤية النظم الفضائية للدول الأخرى من المنظورين الدفاعي والهجومي، النظام الأرضي للدفاع الأمريكي (GMD) لديه القدرة على الوصول إلى الفضاء ومهاجمة الصواريخ العابرة للقارات في منتصف مسار الرحلة.
أحد مكونات نظام (GMD) هو ما يُعرف باسم مركبة القتل العابرة للغلاف الجوي (Exoatmospheric) التي تنفصل عن حاملها في الفضاء لتحرر قذيفة موجهة، هذه التكنولوجيا لا تنتهك معاهدات الفضاء القائمة ولكنها تعكس الطريقة التي يفكر بها المخططون العسكريون والصناعات الدفاعية التي تخدمهم.
ربما تكون طرق التنظيم والتنفيذ غير واضحة ولكن هذا هو الاتجاه؛ تعمل الجيوش في جميع أنحاء العالم على توسيع قدراتها لذلك فإنها تزيد من اعتمادها على النظم الفضائية، وهكذا فسوف تتم عسكرة الفضاء على نحو متزايد، السعي نحو توسيع الهيمنة على الفضاء سوف يتسبب في تآكل فاعلية هياكل المعاهدات الحالية والمنصوص عليها منذ عقود، حاليًا، كل البنية التحتيّة العسكرية الفضائية تدعم العمليات الأرضية ولكن الاعتبارات طويلة الأجل حول استغلال الموارد بشكل أوسع في النظام الشمسي لا بد أن تصير محلًا للجدل في المناقشات الحالية، حينما يصير استكشاف الفضاء وجمع الموارد له أمرًا مجديًا من الناحية الاقتصادية فإن المنافسة سوف تشتد لا محالة.
يخبرنا التاريخ أن الفرص لامتلاك هذه الموارد نادرًا ما تسير بسلاسة أو دون نزاع، على الرغم من أن تجربة التعدين في أعماق البحار تخبرنا أن المنافسة السلمية قد تكون أمرًا ممكنًا، ومع ذلك، وبشكل عام، فقد أدى التنافس على الأرض إلى صراع دائم ومواجهات عسكرية، لذا فإنه من المنطقي أن التنافس على الموارد في أي مكان آخر يمكن أن يؤدي حتمًا إلى المزيد من الصراع ويمكن أن تتطلب القدرة على إبراز القوة العسكرية هناك بشكل أو بآخر، يمكننا أن ننظر إلى القطب الشمالي للمقارنة؛ ليس هناك سوابق واضحة للملكية، وهناك موارد معدنية متوفرة في الوقت الحاضر، وهناك عدد قليل من الدول فقط لديها الدراية التكنولوجية لاستكشاف واستغلال مثل هذه البيئة غير المضيافة، تمسكت جميع الدول بمزاعمها بالفعل وبدأت المواقف العسكرية، ومع تحول القدرة على التقاط ثروات النظام الشمسي إلى حقيقة واقعية فمن المحتمل جدًا أن نزاعات مماثلة ستنشب في بيئة الفضاء.
المصدر: ستراتفور – ترجمة ساسة بوست