انطلاقا من الحوار الذي دار مؤخرا في أحد ساحات المواجهة بين الحاج الفلسطيني زياد أبو هليل والعسكري الاسرائيلي الخائف الذي اشتكى إليه أن شبانا فلسطينيين في مدينة الخليل يرشقونه بالحجارة، فما كان من الحاج أبو هليل إلا أن قال له “بهمّش” أي لا يهم، فليلقوا عليكم الحجارة والأحذية أيضا، ولسان حاله أنتم سلطة احتلال غاشم لا يهم أن يرشقكم الشباب بالحجارة. وبعد الحادثة التي تم توثيقها بالفيديو انتشر منذ عدة أيام وسم “# بهمش” على مواقع التواصل الاجتماعي ولعل في الانتشار الواسع والسريع لهذا الوسم دلالات ورسائل مهمة ينبغي التوقف عندها.
ولعلنا نتساءل في البداية أي وقاحة تلك التي تجعل جنديا احتلاليا مقتحما لمدينة فلسطينية بكل عنجهية يطلق النار والغاز المسيل على سكانها وشبابها ويروع أطفالها ونساءها ثم يشتكي لمواطن فلسطيني من ردة فعل طبيعية، ولكن العجب يزول عندما نعلم أن هذه هي سياسة حكومة الاحتلال التي تطالب دولا عربية بالتدخل لتهدئة الأوضاع في فلسطين ومنعها من الانفجار في وجه الاحتلال حيث طالب نتنياهو الأردن والسلطة الفلسطينية ومسئولين عرب آخرين بتهدئة مشاعر الفلسطينيين، لكننا لم نسمع حتى الآن مثل ما قاله المسن الفلسطيني أبوهليل من أي دولة عربية، ربما باستثناء الموقف القطري الذي عبر عنه أمير قطر والذي أكد التزامه بدعم حق الشعب الفلسطيني في انتفاضته للذود عن نفسه من ممارسات الاحتلال والذود عن مقدسات الامة.
في الحقيقة ليست هذه المرة الأولى التي يقول فيها الشعب الفلسطيني كلمته من خلال هذا المعنى المصاحب لكلمة ” بهمّش” لكن هذا التفاعل الكبير من الفلسطينيين والعرب مع هذا الوسم يشير إلى عدة رسائل لعلنا نقف هنا على بعض منها:
أولا: أن الشعب الفلسطيني سيستمر في مقاومته للاحتلال حتى في أحلك الظروف ومهما بدت الظروف العربية والاسلامية متشابكة وسوداوية وحتى لو تم حصاره والتضييق عليه سيقابل ذلك بمعنى هذه الكلمة البسيطة ” بهمش” التي هي تعبير عن إرادة كبيرة مفعمة بالأمل.
ثانيا : مهما قام الاحتلال الصهيوني بكل أنواع الممارسات من اعتقال للأطفال و هدم للمنازل ومصادرة للأراضي وترحيل للناس وزيادة الاستيطان وإغلاق المسجد الأقصى أمام المصلين فإن هذا لن يجدي نفعا، فقد هدم الاحتلال 1350 بيتا في الضفة الغربية منذ عام 2000 إلى عام 2014 وصادر 6000 دونم واقتلع 50 ألف شجرة زيتون وها هي الهبة مستمرة.
ثالثا: أن الشعب الفلسطيني مع ذلك لا يمكن أن يتحمل هذه الممارسات الاسرائيلية والصمت الدولي عليها وخاصة الاعتداء على المقدسات وهو مستعد لمواجهتها بكل ما يملك وأن الانتفاضة التي بدأها الشعب الفلسطيني سوف تستمر وأن الشعب يعبر فيها عن الحياة التي تسري في عروقه.
رابعا: أن التهديدات والتلويح بمزيد من القمع والإذلال والقتل والاعتقال لن يوقف مسيرة هذه الانتفاضة بل سيشعلها، وأن رسالة الشعب الفلسطيني من خلال ” بهمش” هي رسالة تحمل في طياتها بعد الصبر والعطاء كما تحمل بعد الرد والانتقام، فعندما يقوم الاحتلال بالقتل والقمع من أجل ثني الشعب الفلسطيني عن المطالبة بحقه ويهدده بالمزيد من القمع فإن الشعب الفلسطيني سيواجه هذا القمع وسيرد عليه.
خامسا: أن الفلسطيني الذي يواجه الأمثلة والنماذج الحية سواء الوطنية أو المتخاذلة من خلال كلمة ” بهمش” يفرق بين المعنيين فيرد على اعتقال الشيخ رائد صلاح من خلال كلمة ” بهمش” وعلى اعتقال الشيخ حسن يوسف من خلال كلمة ” بهمش” وعندما يرى من يوافق على وضع كاميرات المراقبة في داخل باحات المسجد الأقصى أو يصر على الاستمرار في التنسيق الأمني بالرغم من كل ما يحدث فإنه يواجه هذا أيضا بكلمة ” بهمش” وهذا يعني أن الشعب قد سجل الموقفين في ذاكرته وأن رسالته من خلال هذه الكلمة هو أن كل ما يجري لن يزيده إلا إصرارا على المواصلة في طريق حريته.
سادسا: أن الشعب الفلسطيني بات مدركا بشكل أكبر لطبيعة الصراع وللخطط الاسرائيلية التي تستهدف تركيعه وأنه يعلن عن مواجهتها مهما كانت مخططة ومحكمة ومهما حققت من نجاحات جزئية فإن مصيرها الفشل والاندثار، ولعل الانتفاضة الحالية هي اختبار لخطة السور الواقي التي نفذت في عام 2002 وما تبعها من خطط، حيث يمكن هنا أن نلتقط رسالة مفادها أن مقاومة الشعب الفلسطيني لديها من الافكار والسلوك ما يمكن أن يتجاوز كل التدابير والاجراءات.
سابعا: أن الشباب الفلسطيني الذي استخدم خلال العدوان على غزة في 2014 وسم “مسافة صفر” وها هو اليوم يستخدم وسم “بهمّش” بكثافة يحاول أن يظهر سخريته من ذلك الجندي الصهيوني المدجج بالسلاح والتكنولوجيا الفائقة والأجهزة الاستخبارية ثم يهرب مهرولا متعثرا من شاب فلسطيني لم يتسلح إلا بالإرادة مع حجر أو سكين صغير، أو ذلك الجندي الذي لا يستطيع أن يتسلق حائطا صغيرا أو ذلك الجندي الذي يسقطه أرضا إطار سيارة مهترئ دحرجه فتى فلسطيني، وهذه الصور تفيد مع هذا المعنى أنه لم يعد للجندي الصهيوني الجبان هيبة ولم يعد منه خشية وسوف تتنهد طويلا عندما تتذكر زمنا كان يطلب فيه من طفل فلسطيني بداخل سيارة ألا يؤشر مجرد إشارة بيده إلى جندي صهيوني يحتمي بجدار اسمنتي على أحد الحوا جز.
ثامنا: ومن الرسائل المهمة في ظل هذه الانتفاضة أن الشعب الفلسطيني جاهز لامتلاك زمام المبادرة عند عجز قيادة السلطة أو غيابها أو عند عدم قدرتها على حمل مطالب الشعب الحقيقية وجعلها في صدر الأجندة الدولية وأن الشعب الذي يدرك رمزية بعض الأمور مثل رفع العلم في الأمم المتحدة غير مقتنع بهذا فهو يريد انجازات حقيقية.
تاسعا: إن انتشار هذه الكلمة بشكل سريع من خلال استخدامها في عدد من الاناشيد الوطنية وبعض إعلانات العطور والملابس فضلا عن تناولها الكبير في مواقع التواصل الاجتماعي يدل على تقبل الشعب الفلسطيني لثقافة المقاومة واحساسه بمسئولية ما من أجل العمل على نشرها.
عاشرا: لعل كلمة ” بهمّش” تحمل في بعض سياقاتها عكس معناها أو بعدا سلبيا و تخديريا للكلمة من اللامبالاة وعدم الاهتمام أو الاحتياط وهو ما نحذر منه لكن المعنى المنتشر و الذي يترافق مع هذه الانتفاضة المتصاعدة هو المعنى الايجابي وهو يؤكد على الاهتمام الكامل من الشعب الفلسطيني بمقدساته وبحريته وبمستقبل أطفاله وأنه قد قام بحساب المعادلة بشكل جيد وتبين له أن كل ما يواجه من صعوبات وعقبات وتحديات وكل ما يقدم من تضحيات لا يهم أمام أهدافه السامية ومطالبه العادلة التي يواجه بها واحدة من أخس دول الاحتلال في العالم.
وفي الختام أتمنى أن يتخيل القارئ معي شابا فلسطينيا يتوشح كوفيته ويقف بتحدٍّ أمام جندي صهيوني قائلا له وهو يهز رأسه: “بهمّش”، إن احتمالات كثيرة قد تأتي في ذهن القارئ الكريم حول ما يمكن أن يفعله هذا الشاب ولكن كيف يكون الحال إذا تخيلت آلاف الشباب بل مئات الآلاف فإن علم الاحتمالات قد يعجز عن التنبؤ بما يمكن أن يقوم به الشباب الفلسطيني، لذا فإن حكومة الاحتلال لن تستطيع أن توقف النضال الفلسطيني ومهما فعلت سنقول لها ” بهمّش”.