ترجمة وتحرير نون بوست
منذ أكثر من عقد من الزمان، انتشرت ادعاءات خطيرة للغاية حول مشاركة بريطانيا فيما يسمى بعمليات التسليم الاستثنائي، كناية عن عمليات الخطف، التي تتضمن التعذيب لاحقاً، للمشتبه في صلتهم بالإرهاب.
تورط الولايات المتحدة الصادم في حوادث التعذيب، هو أمر معروف على نطاق واسع، وذلك بفضل تقرير ديان فينشتاين من لجنة مجلس الشيوخ حول الانتهاكات الأمريكية، ولكن مع ذلك، فنحن لا نعرف إلا القليل نسبياً حول الانتهاكات البريطانية بهذا المجال، وهذا التعتيم يرجع لعدة أسباب، والسبب الذي يأتي في المقدمة، هو رفض ونفي الوزراء والمسؤولين البريطانيين باستمرار للمزاعم التي تشير إلى إضطلاع بريطانيا بأي شكل من الأشكال في عمليات التعذيب.
رفض ونفي المسؤولين البريطانيين للروايات التي تتحدث عن اشتراك بريطانيا بعمليات الترحيل السري كان شديداً للغاية، فمثلاً شدد جاك سترو في حديثه أمام البرلمان البريطاني قبل 10 سنوات، وهي الفترة التي كان يشغل فيها منصب وزير الخارجية، على عدم ضلوع بريطانيا بعمليات الترحيل من خلال قوله: “ما لم نؤمن جميعاً بنظرية المؤامرة، ونصدق بأن المسؤولين يكذبون، وإنني أكذب، وأن وراء هذه الاتهامات هناك نوع من أسرار الدولة التي تتآلف مع القوى الظلامية في الولايات المتحدة، واسمحوا لي بأن أقول أيضاً، بأنه ما لم نؤمن أيضاً بأن وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس تكذب، فلا مبرر ببساطة لتصديق المزاعم التي تقول بأن المملكة المتحدة قد شاركت بعمليات التسليم السري الاستئثنائي”.
سترو حينئذ، كان يستغل منصبه كوزير رفيع المستوى لإطلاق بيان قاطع للغاية حول عدم اضطلاع بريطانيا بأعمال الترحيل الاستثنائي، وهذا الإنكار التام يفسر مواجهة الحكومة البريطانية بأي أسئلة آنذاك حول الموضوع.
المال أيضاً كان عاملاً مهماً في هذا السياق، فالوزراء البريطانيون أصدروا أذونات لدفع مبالغ سخية للغاية للمواطنين البريطانيين أو المقيمين في بريطانيا الذين يدّعون بأن الدولة كانت متواطئة في تعذيبهم، وساعدت هذه المبالغ السخية في منع الادعاءات من الوصول إلى المحاكم، وهذا يعني بالتبعية بأن ادعاءات الممارسات القمعية التي مارستها بريطانيا لم تُسمع أو تظهر إلى العلن.
عند وصول ديفيد كاميرون إلى السلطة، وعد بإجراء تحقيق في مزاعم التعذيب، ولكن مع ذلك، سرعان ما دخلت هذه التحقيقات في غيبوبة عميقة، ولا يبدو حالياً بأن شهية الحكومة البريطانية مفتوحة لإعادة فتح الملفات مرة أخرى.
هذه الخلفية السرية أضافت زخماً هائلاً للقضية الهامة التي تُنظر هذا الأسبوع أمام المحكمة العليا البريطانية، والمتعلقة بالادعاء الذي رفعه المعارض السياسي الليبي السابق، عبد الحكيم بلحاج، ضد الحكومة البريطانية، حيث ادعى بلحاج بأن جهاز المخابرات السرية البريطانية (SIS)، لعب دوراً حاسماً في عملية “التسليم الاستثنائي” له ولزوجته، فاطمة، من تايلاند إلى ليبيا في عام 2004.
وفقاً لبلحاج، تمت العملية أثناء محاولته السفر وعائلته إلى بريطانيا بغية طلب اللجوء السياسي هناك، ولكن تم حينها احتجازهم قسراً، وتسليمهم سراً إلى المخابرات الليبية في طرابلس، حيث قضى بلحاج 6 سنوات في السجن تعرض خلالها لما يصفه “بالتعذيب الشديد للغاية”.
قابلتُ بلحاج بعد وقت قصير من سقوط القذافي في 2011، ولا أستطيع أن أنسى أبداً كيف حُفر ماضي الآلام التي تعرض لها سابقاً عميقاً في وجهه.
لسوء حظ السلطات البريطانية، دعوى بلحاج، حول اضطلاع بريطانيا بدور كبير في تسليمه إلى السلطات اللبيبة، مؤيدة بأدلة قوية ومترابطة جداً؛ فبعد وقت قصير من سقوط العقيد معمر القذافي في ليبيا، اكتشفت هيومن رايتس ووتش مراسلات جرت ما بين رئيس استخبارات القذافي، موسى كوسا، والسير مارك ألين، الذي كان حينها مسؤولاً رفيع المستوى في المكتب السادس للمخابرات البريطانية (MI6)، علماً أن نون بوست كتب موضوعاً مطولاً عن هذه الكشوفات تحت عنوان “المخابرات البريطانية: تسليم قادة المعارضة الليبية قوّى القاعدة”.
تُبين المراسلات التي تم الكشف عنها، بأن ضابط المكتب السادس للمخابرات البريطانية (MI6)، كان يهنئ نظيره الليبي بـ”الوصول الآمن” لعبد الحكيم بلحاج، حيث جاء في المراسلة: “هذا أقل ما يمكن أن نفعله لك ولليبيا للتعبير عن العلاقة الرائعة التي بنيناها خلال السنوات الأخيرة”.
عمد بلحاج وزوجته إلى رفع دعوى قضائية في وقت لاحق لتعويض الأضرار التي لحقت بهما، وهو الأمر الذي يخولهما القانون القيام به بشكل كامل، ووفقاً للتقارير، عرضت الحكومة البريطانية على بلحاج وزوجته وآخرين يزعمون بأنهم كانوا ضحايا لعمليات التسليم الاستثنائي، دفع مبالغ نقدية طائلة للتنازل عن الدعاوى, ولكن بلحاج وزوجته رفضا قبول هذا العرض، وأشارا إلى استعدادهما لإسقاط الدعوى مقابل جنيه استرليني واحد فقط، في حال استحصالهما على اعتذار رسمي من قِبل الحكومة البريطانية.
في البداية أصدر قاضي المحكمة العليا حكمه برفض إدعاء بلحاج وزوجته بالتعويض عن الأضرار في مواجهة الحكومة البريطانية، معولاً بذلك على الدفوع التي قدمتها الحكومة البريطانية حول عدم صحة مناقشة المحكمة لهذه القضايا لأن ذلك من شأنه أن يضر بالعلاقات البريطانية مع القوى الأجنبية.
ولكن بعد استئناف الحكم، أصدرت محكمة الاستئناف حكمها القاضي بفسخ القرار، واليوم تُنظر القضية أمام المحكمة البريطانية العليا، التي ستقرر في النهاية ما إذا كان سيسمح لعبد الحكيم بلحاج وفاطمة بلحاج برفع دعوى قضائية ضد الحكومة البريطانية.
النتائج المترتبة على هذا الحكم تبدو خطيرة للغاية على أرض الواقع؛ فمن المستبعد جداً أن يكون ضباط المخابرات البريطانية قد نفذوا سياسة التعذيب السرية بدون الاستحصال على موافقة صريحة ومسبقة وواضحة من وزراء الحكومة البريطانية؛ لذا فمن المحتمل أن ينتهي الأمر بأعضاء حكومة بلير، وهم المسؤولون الذين تمت في عهدهم عمليات التسليم الاستثنائي، بمواجهة عقوبة الحبس لمدد طويلة.
كما رأينا، كان جاك سترو، والذي كان وزيراً للخارجية في الوقت الذي تم فيه تسليم بلحاج وزوجته إلى ليبيا، قاطعاً بنفيه أمام اللجنة البرلمانية بأن المزاعم التي تقول بأن المملكة المتحدة شاركت في الترحيل الاستثنائي غير صحيحة، وهذا الارتباك قد يساعد في شرح السبب الذي يقف خلف نضال الحكومة البريطانية المستميت لمنع الدعاوى حول تواطؤ بريطانيا في عمليات التعذيب من الوصول إلى المحكمة.
في حال تم قبول ادعاءات بلحاج، سيصبح قادراً على توجيه اتهامات جنائية خطيرة بمواجهة الوزراء والمسؤولين الحكوميين البريطانيين، حيث سيفتح أمامه الباب لاتهامهم وفق القانون العام البريطاني بجرم الاختطاف والتعذيب كفاعلين أو متدخلين بموجب قانون العدالة الجنائية لعام 1988، والذي قد يدينهم بعقوبات قد تصل إلى حد السجن مدى الحياة.
في قضية الاختطاف، لا يمكن التمسك بدفوع الأمن القومي، أما في قضية التعذيب، وبموجب قانون عام 1988، يمكن أن يتمسك الجناة أو المتدخلون بدفع تنفيذ المرؤوس لأوامر رئيسه، كما يمكنهم التمسك بحجة أن التعذيب موضوع الدعوى كان قانونياً في البلاد التي حدث فيها حينها، ليبيا.
ولكن هل لكم أن تتصورا ما الذي يعنيه أن يتم فتح الباب لإطلاق أي من هذه الدفوع أمام محكمة مفتوحة؟ المسألة ستكون قطعاً أكثر حرجاً للمؤسسة البريطانية من التهم الأصلية التي ستوجه ضدهم، ولكن بالمحصلة جميع ما تقدم يعتمد إلى حد كبير على نتيجة القضية الماثلة حالياً أمام المحكمة العليا البريطانية.
المصدر: ميدل إيست آي