لم يكد يمر عام على هجمات شارلي إيبدو التي تحل ذكراها الأولى في يناير القادم، والتي اعتبرت وقت وقوعها الحادث الإرهابي الأشد وطأة في فرنسا ماديًا ومعنويًا، حتى وقعت هجمات وتفجيرات الأمس في باريس، والتي تفوق في حجمها وأهدافها كل ما رأته فرنسا سابقًا، بل وأوروبا كلها، فالهجمات هذه المرة في أماكن متفرقة بالعاصمة منها مطعمين وقاعة حفلات موسيقية واستاد فرنسا لكرة القدم حيث كانت تجري مباراة بين فرنسا وألمانيا، وقد وقعت في ليلة السبت، وهي بداية عطلة نهاية الأسبوع حيث تزداد كثافة النزهات الليلية والسهر في المطاعم، وحضور الحفلات الموسيقية.
الهجوم الأبرز، والذي وقع فيه حوالي 118 قتيلاً وفق تقارير الشرطة الرسمية، هو الهجوم على قاعة باتاكلان الموسيقية في قلب باريس، والتي أطلق فيها شخصان على الأقل الرصاص من رشاشات كلاشينكوف وفق شهود عيان لمدة تزيد على العشر دقائق، بشكل أتاح لهم تفريغ الرصاص تمامًا بل وإعادة ملئه، قبل أن تنجح الشرطة في الدخول وقتل منفذي الهجوم، ولكن بعد مقتل كافة الرهائن ممن أتوا لحضور إحدى الحفلات الموسيقية بالقاعة، وقد وقع بالتزامن هجومين انتحاريين وتفجير بالقرب من ستاد فرنسا، لتمتلئ ساحة الملعب بالمشجعين بعد سماع دوى الانفجار، علاوة على هجمات على مطعمين في محيط قاعة باتاكلان.
مواقع الهجمات في باريس بالأمس
صورة من الحفل الموسيقي وُضِعَت على موقع إنستاغرام قبل بدء الهجوم
حجم الهجمات غير المسبوق دفع السلطات في فرنسا لإعلان حظر التجول لأول مرة منذ عام 1944، حين كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها، وإغلاق الحدود الفرنسية حتى لا يتسنى لمنفذي الهجمات الهرب، ووقف حركة القطارات من إلى وباريس مباشرة لكيلا تزداد مهمة البحث عن المجرمين صعوبة واتساعًا بطول فرنسا كلها وتظل مقتصرة على العاصمة، علاوة على إعلان حالة الطوارئ في ظروف تفوق في دمويتها وعنفها الصدامات التي وقعت في التسعينيات بسبب الحرب بين الدولة والإسلاميين في الجزائر، كما كتب لورين جوفرين محرر صحيفة ليبراسيون الفرنسية.
الفرنسي نفسه هو المستهدف بشكل واضح هذه المرة وبدون أية مبررات حتى الآن، وليس مجرد نخبة من الكتاب ورسامي الكاريكاتير الملحدين والمسيئين للإسلام كما في السابق، مما اعتبره البعض حجة مناسبة للهجوم على مقر شارلي إيبدو، ولا حتى صرح من صروح الدولة الفرنسية أو الرأسمالية الغربية عامة على غرار برجي مركز التجارة العالمي في الولايات المتحدة اللذين استُهدِفا في الحادي عشر من سبتمبر، إنها مجرد قاعة باتاكلان الموسيقية القريبة من متحف اللوفر حيث يقبع تراث يعود لما قبل الدولة والرأسمالية وربما مفهوم الغرب الحديث نفسه، والذي يعتقد من قاموا بالهجوم ربما بأنه في صراع حضاري مع الإسلام كما يحلو للمدافعين عن هذا النوع من الفكر الإرهابي أن يقولوا دومًا.
شرطي فرنسي في محيط إحدى الهجمات بالأمس
استاد فرنسا بعد الهجوم
داعش، إن ثبت أنها منفذ الهجوم كما هو مرجّح بعد هجوم في بيروت بالأمس وإسقاط الطائرة الروسية في سيناء منذ أسابيع وهجوم أنقرة في أكتوبر، تريد توسيع نطاق الحرب بشكل واضح، وهو أمر ليس بجديد، فهي تبذل الغالي والنفيس من أجل إثبات سردية العداء بين الإسلام والغرب ولو بتحقيقها بيديها على الأرض كما قال أحد المحللين، وسيكون خطأ فادحًا من جانب الحكومات الغربية أن تسير على خطى بوش وتدخل في صراع عسكري جديد، في تحقيق لما تريده داعش على الأرجح، وفي تكرار لخطوات فاشلة تقوم بها الكثير من الحكومات في الحقيقة كرد على أية هجمات إرهابية، بدلًا من التدقيق في أسباب كل ما يجري بين المنطقة العربية وأوروبا منذ أربع سنوات وحتى الآن، والصراعات التي أججتها السياسات الغربية التقليدية “المحاربة للإرهاب” في الواقع كما تثبت أحداث الأمس، والتلكؤ الذي اتسمت به سياساتها مع اندلاع الثورات العربية خوفًا منها على مصالحها بشكل أدى لإطالة الصراع، ووقوع مصالحها في كل الأحوال تحت النيران، بل ووصول النيران لعقر دارها، ليستهدف المدنيين مرة أخرى في الغرب كما يفعل دومًا في الشرق.
***
بين الشامتين من “أعداء الغرب” الذين يعتقدون بأن إراقة دماء المدنيين في باريس ضغط مناسب على الحكومة الفرنسية لتغيير سياساتها في تنحية لأية اعتبارات إنسانية، (وهي مسألة مشكوك في صحتها أصلًا نتيجة التعاطف الذي يحدث عادة بعد تلك الهجمات مع نفس تلك السياسات كنوع من التضامن والثبات وعدم الخضوع للإرهاب) وبين مفكري “الإسلام المعتدل” كما يسمى ممن سيطلقون العنان لرسالاتهم المعتادة والجوفاء والآلية عن سماحة الإسلام، دون النظر للاعتبارات السياسية الواضحة لكل ما يجري وعدم ارتباطه بالضرورة بسماحة أو دموية الإسلام، تبدو الرسالة الوحيدة مما جرى بالأمس، ويجري في الحقيقة منذ أشهر طويلة بلجوء الآلاف من السوريين إلى أوروبا، هو أن البحر لا يفصل بما فيه الكفاية بين باريس وحلب، وأن أي أزمة هنا تعني أزمة هناك، وأن حل الأزمة هنا هو المخرج الوحيد لحماية المدنيين؛ ومدنيي باريس وحلب وبيروت وأنقرة هنا سواء، وأنه في عالم يزداد تشابكًا ويتحول بالفعل لقرية صغيرة كما أرادت له حكومات الغرب يومًا ما، تأتي مسؤوليات جديدة للتعامل مع صراعات تبدو بعيدة جغرافيًا، ولكنها يمكن أن تحدث أثرها على بعد آلاف الكيلومترات في ظرف ساعات قليلة.
الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند يصل لموقع إحدى الهجمات
الرسالة نفسها سيتلقاها على الأرجح اللاجئون السوريون، والذين لاحقتهم نيران الصراع السوري شمالًا بينما اعتقدوا أن الوصول بأمان لشواطئ أوروبا الجنوبية وقاهم صداع الأزمة السورية للأبد، تمامًا كما اعتقد بعض ساسة أوروبا أن فتح الباب اللاجئين في استعراض إنساني أمر كافٍ لحل “أزمة اللاجئين،” ليثبت ما جرى في باريس أن أحدًا لا يمكنه أن يتفادى السياسة، لا الإنسانيون ممن رفعوا اللافتات لاستقبال اللاجئين في فيينا، ولا علماء ومفكري الإسلام ممن يطوفون العالم حديثًا في مؤتمرات ومحافل شتى عن الحوار ونبذ العنف، فالصراعات كما يثبت الواقع تحدث، وفي عالم اليوم فإنها لا تجلب اللاجئين فقط إلى أوروبا بل والرصاص أيضًا، وهي صراعات لا يمكن حلها باللافتات أو الكلمات الهادئة، بل يلزمها اشتباك سياسي تتحمل معه كافة الأطراف مسؤوليتها السياسية والتاريخية كذلك.
الأمر الوحيد المُحزِن كما جرت العادة هو أن المدنيين هم من يدفع الثمن من دمائهم قبل أن تتلقى الحكومات الرسالة، وفي هذه الحالة فإن الحزن يتضاعف في حالة اللاجئين السوريين الذين هربوا من الدمار في سوريا، لتأتيهم نفس النيران في باريس، وتقع على كاهلهم في نفس الوقت للمفارقة تُهَم بعض الأوروبيين بأنهم هم منفذي الهجمات، والذين لا يدركون ربما بأنهم ما لجئوا إلا هربًا من مثيلاتها في المشرق.