ترجمة وتحرير نون بوست
ذُهل جميع المحللين وشركات الاستطلاعات من حصيلة التصويت التي اغتنمها حزب العدالة والتنمية البالغة 49.48% من الأصوات في انتخابات 1 نوفمبر، والتي خولته الحصول على 317 مقعدًا في البرلمان التركي، وأظهرت دون أدنى شك استمرار هيمنة الحزب على السياسة التركية بالمجمل.
عشية الانتخابات، سلّط الجميع أنظارهم على التوقعات الأخيرة لشركات استطلاعات الرأي، التي لم تستطع أي منها التنبؤ بأن حزب العدالة والتنمية كان على مشارف انتصار كبير؛ فوفقًا لاستطلاعات ما قبل الانتخابات، كانت حظوظ حزب العدالة والتنمية في الانتخابات تحوم دون تحقيق الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل حكومة الحزب الواحد، وباختصار، حتى شركات الاستطلاع التي كانت قادرة على التنبؤ بنتائج قريبة جدًا من محصلة انتخابات 7 يونيو، فشلت بالتنبؤ بنتائج انتخابات 1 نوفمبر، وبالمحصلة مُنيت جميع شركات استطلاعات الرأي بإخفاق ذريع، وعند هذه النقطة، من المهم أن نتساءل عمّا حدث بين يونيو ونوفمبر، وتسبب بهذا الفشل الهائل لشركات الاستطلاع.
منذ مارس 2013، سيطر حزب العدالة والتنمية على أغلبية المقاعد في البرلمان، ولكن بعد أن خسر الحزب الأغلبية في انتخابات يونيو للمرة الأولى، واجهت تركيا فجأة مشاكل عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي وبعض المشاكل الأمنية الضخمة؛ فأولًا، وقبل كل شيء، وبمجرد انهيار اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب العمال الكردستاني، شهدت تركيا انتكاسًا متجددًا ومفاجئًا في حملة العنف المستمرة بين الدولة التركية والأكراد منذ عقود، حيث أسفرت هجمات حزب العمال الكردستاني على القوات التركية في جنوب شرق تركيا عن مقتل عشرات الجنود الأتراك، ودعا بعض الخبراء تصاعد عنف حزب العمال الكردستاني بأنه ثورة واضحة المعالم ضد جمهورية تركيا، أفضت بالنتيجة إلى فرض حظر للتجول في بعض من أجزاء المدن الجنوبية الشرقية، وبالمختصر، كان هنالك شيء ما يحدث في جنوب شرق البلاد، ولم يستطع أحد، وخاصة مواطني غرب تركيا، استيعاب البعد الدقيق لتلك الأحداث على الإطلاق.
ثانيًا، يمكن افتراض أن أحد المعالم الرئيسية لبزوغ المناخ الأمني المتدهور في تركيا تمثل بهجمات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على البلاد؛ ففي فجر يوم الإثنين في أكتوبر الماضي، فجر انتحاريان من داعش نفسيهما في أنقرة مزهقين أرواح أكثر من 100 شخص وتاركين مئات الأشخاص الآخرين يعانون من جروح بليغة، وكان هذا الهجوم أكبر الهجمات الإرهابية في تاريخ البلاد، حتى أنه اضطر رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو إلى إعلان ثلاثة أيام من الحداد الوطني.
في ظل الظروف غير المستقرة التي كانت تركيا تمر بها، أكد حزب العدالة والتنمية بأن خلفية الأحداث الجديدة التي تتمثل بارتفاع عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، لا يمكن أن تستقر إلا من خلال إعادته للسيطرة المنفردة على السياسة التركية بأكملها، وكان هذا الرهان يمثل تحديًا حقيقيًا لحزب العدالة والتنمية، خاصة بعد نتيجة انتخابات يونيو، ولكن الحزب استطاع أن يُثبت بأنه لا يزال يسيطر على تركيا، سواء من خلال الهجمات العسكرية الناجحة ضد حزب العمال الكردستاني، أو من خلال الحملة الانتخابية الناجحة التي خاضها ضمن الانتخابات الوطنية الأخيرة، فضلًا عن سياسة الحزب الناجحة والحكيمة في ظل حكومة الانتخابات المؤقتة التي قادها داود أوغلو، وهو النجاح الذي تزامن مع فشل أحزاب المعارضة بتحليل السلوكيات السياسية للناخبين في بيئة الأزمة.
رغم أن وسائل الإعلام المحلية حاولت تصوير النتائج الفاشلة لمحادثات تشكيل الحكومة الائتلافية عقب انتخابات 7 يونيو، على أنها خطأ حزب العدالة والتنمية الذي عرقل هذه المحادثات، إلا أن الناخبين كانوا يعرفون حق المعرفة بأن المسؤول عن فشل هذه المحادثات هو حزب الحركة القومية (MHP) اليميني.
حزب الشعب الجمهوري (CHP) هو أكثر أحزاب المعارضة استقرارًا دون أدنى شك، حيث اعتمد موقفًا متعاونًا في كامل أوقات محادثات تشكيل الحكومة الائتلافية، ولكنه لم ينجح بالحصول على أكبر عدد من الأصوات إلا في ست مقاطعات فقط من أصل 81 في جميع أنحاء البلاد، ولم يكن قادرًا على زيادة عدد أصواته بشكل كبير في 1 نوفمبر، رغم أن الحزب أدار حملته الانتخابية بناء على وعود الإصلاح الاقتصادية.
من الناحية الثانية، أدى تصعيد حزب العمال الكردستاني للعنف ضد الحكومة التركية إلى فشل مساعي حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) الموالي للأكراد، حيث تلاشت أصواته في الانتخابات الأخيرة جنبًا إلى جنب مع خسارة حزب الحركة القومية لعدد كبير من الأصوات، ووجد الكثير من ناخبي هذين الحزبين بأن حزب العدالة والتنمية أكثر جاذبية هذه المرة، والصورة العامة لانتخابات 1 نوفمبر، تشير إلى أن حزب العدالة والتنمية نجح باغتنام مقاعد كلًا من حزبي الحركة القومية والشعوب الديمقراطي، حيث بقيت مقاعد حزب الشعب الجمهوري بدون تغيير مقارنة مع انتخابات يونيو.
حوصرت شركات استطلاعات الرأي بضجيج انتخابات 1 نوفمبر، ولم تستطع تحليل ما يبتغيه الناخبون حقًا، ولم تلمس مخاوفهم الرئيسية المتجذرة ضمن المشهد السياسي الحالي، وبالإضافة إلى ذلك، فشلت في تقييم تأثير مختلف العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية على تحديد اتجاه الأصوات؛ فالنتائج لا يمكن تفسيرها من خلال الميول التي تهيمن عليها الهويات الحزبية، لأن الأحزاب التي ناصرت باستمرار سياسات الهوية هُزمت وفشلت في الانتخابات الأخيرة، ويمكن تحليل ذلك وفق منطق أن هويات الأحزاب المعارضة تبلورت في انتخابات 1 نوفمبر، ففي الواقع، صوّت الناخبون التابعون لحزبي الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي، وهما الحزبان اللذان يستقطبان صراعات الهوية، لحزب العدالة والتنمية.
الناخبون كانوا يبحثون عن حزب قادر على أن يكون شريكًا رئيسيًا في الحلول التي يبتغيها الشعب، والغرائز السياسية للرئيس رجب طيب أردوغان أثبتت بأنه قادر على تلبية الاهتمامات والشواغل الرئيسية للناخبين، المتمثلة بإيجاد حلول لانعدام الأمن والاستقرار السياسي.
إذن، تحليل النتائج كان ينبغي أن ينطلق من القاعدة الاجتماعية والنفسانية للناخبين، وهو الأمر الذي فشلت جميع شركات الاستطلاع بتحليله بشكل شامل، مما أدى إلى إخفاقها بقياس التغيرات في نوايا الناخبين الفردية ما بين انتخابات 7 يونيو وانتخابات 1 نوفمبر.
استخدم حزب العدالة والتنمية الحملة العسكرية لتعزيز رصيده القومي التركي، ولذلك بزغ الحزب بشكل أقوى في الانتخابات الأخيرة، واليوم، وبعد أن كشفت النتائج عن عودة الحكومة الموحدة للحزب الواحد، يقف حزب العدالة والتنمية أمام تحديين كبيرين، الأول يتمثل بتنشيط عملية المصالحة التي تم إيقافها مع حزب العمال الكردستاني في المستقبل القريب، والآخر هو صياغة دستور جديد وإجراء تغييرات دستورية لتوسيع السلطة الرئاسية للهيمنة على المشهد السياسي التركي بشكل دائم.
إثارة حزب أردوغان، حزب العدالة والتنمية، لفرص إجراء التعديل الدستوري، من شأنه أن يمهد الطريق للانتقال إلى نظام رئاسي، ولكن الحزب يحتاج لأغلبية عظمى، تبلغ 330 صوتًا داخل البرلمان، حتى يستطيع تغيير الدستور، وهو ما يعني عمليًا، بأنه يستحيل على الحزب أن يفعل ذلك دون دعم أحد أحزاب المعارضة الرئيسية، وفي المستقبل القريب، وبعد تشكيل مجلس الوزراء، هذه الأمور ستكون القضايا الأساسية التي سيتم مناقشتها باستفاضة في البرلمان الجديد.
المصدر: ديلي صباح