انتفاضة القدس الثانية مكلفة وباهظة الثمن، وستكون مع الأيام مكلفة جدًا؛ فهي ليست شهداء يضحون بأرواحهم وأنفسهم في سبيل قضيتهم، ودفاعًا عن وطنهم، وذودًا عن حياض مسجدهم وشرف مسراهم وطهر قدسهم، وهي ليست جرحى ومصابين يرقدون في المستشفيات ويعانون أو يغادرونها بعاهات مستديمة أو بأمراض مستعصية، يطول فيها بقاؤهم ويتعذر علاجهم، ويندر دواؤهم، كما أنها ليست أسرى ومعتقلين، وسجونًا وتعذيبًا وقهرًا في السجون وخلف القضبان، وأحكامًا عالية وظروفًا اعتقالية قاسية، وهي ليست تضييقًا وحرمانًا، معاناةً وحصارًا، وتدميرًا للمنشئات العامة والبنى التحتية والمؤسسات الوطنية، وتخريبًا للاقتصاد الوطني، وإغلاقًا للجامعات والمعاهد والمؤسسات التعليمية، وتعطيلًا للدراسة والمسيرة التعليمية.
ضريبة الانتفاضة أيضًا غير ذلك كله، وهي أكبر مما يتحملها الفلسطينيون وحدهم، وأشد ثقلًا من أن يُتركوا لتحملها بأنفسهم، فهم لا يبخلون فيما يملكون، ولا يتأخرون عن العطاء فيما هو بين أيديهم، فتراهم يبذلون الدماء، ويقدمون الأرواح، ويفقدون الحرية، ولكن العدو الصهيوني قد أوجعهم كثيرًا وأثقل ظهورهم بأعباء مادية، ونفقات مالية لا يملكونها ولا يستطيعون توفيرها، ولا يجدون من يقف إلى جانبهم لمساعدتهم والتعاون معهم، كما أن أوضاعهم الاقتصادية لا تمكنهم من الصمود أو التقليل من آثار السياسات المادية الإسرائيلية السلبية ونتائجها المؤذية، في الوقت الذي تتأخر فيه السلطة الفلسطينية، رغم قلة إمكانياتها، عن القيام بواجبها والتصدي لمهماتها، أو الاعتراض على السياسة التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية، التي تعلم أنها ترهق الفلسطينيين وسلطتهم، وتتعب المقاومين وتعيي فصائلهم.
إنها سياسة هدم منازل المقاومين، منفذي ومنفذات عمليات الطعن والدهس والقتل، في الضفة الغربية والقدس الشرقية، فقد صادقت المحكمة العليا الإسرائيلية على قرارات وزير دفاع الكيان الصهيوني ورئيس أركان جيشه المعادي، المؤيدة من قِبل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وسمحت للجيش بتنفيذ عمليات الهدم والنسف، دون الرجوع إلى جهات ومرجعات أخرى، واعتبار أوامر الهدم ناجزة ومبرمة وغير قابلة للاستئناف، وذلك ضمن سلسلة قرارات وإجراءات عقابية اتخذتها الحكومة الإسرائيلية للحد من انتشار الانتفاضة، ومنع شبابها من القيام بأعمال طعن أو دهس أو قنص، مخافة هدم بيوتهم وتهجير أهلهم.
وعليه فقد بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في إجراء عمليات إحصاء ومسح ميدانية لبيوت ومنازل منفذي عمليات الطعن والدهس، تمهيدًا لتدميرها أو هدمها، وهو إجراء اعتاد عليه الفلسطينيون، وخبره الأهل في فلسطين على امتداد سنوات مقاومتهم الطويلة، ويعلمون أنه عقاب موجع، وإجراء قاسي، إلا أنه لا يردعهم عن المقاومة، ولا يمنعهم من القيام بعمليات عسكرية ضد جيش العدو ومستوطنيه.
الفلسطينيون لا يثقون في المحكمة العليا الإسرائيلية، إن هم قدموا التماسًا لها، أو اعترضوا أمامها على القرارات العسكرية القاضية بهدم بيوتهم، لأنها اعتادت دومًا أن ترد التماساتهم، وأن تؤيد القرارات العسكرية القاضية بهدم بيوت المنفذين، وفي أحسن الاحتمالات ترجئ تنفيذ الهدم، وتؤخر النسف لعدة أيام ليتمكن قاطنو المنازل من إخراج متاعهم وما يستطيعون نقله، رغم أن عمليات الهدم تتم غالبًا فجأة، وفي جوف الليل والناس نيام، فلا يتمكن أصحاب المنازل من إخراج حاجاتهم الخاصة، أو إنقاذ ممتلكاتهم الصغيرة لا الكبيرة، إلا النجاة بأنفسهم فقط، ذلك أن سلطات الاحتلال لا تمنحهم الوقت الكافي لذلك، كما لا تسمح لهم عمدًا بإخراج متاعهم، وذلك إمعانًا في الأذى والحسرة، وتعميقًا للعقاب الجماعي الذي تقصده.
الجديد هذه المرة أن عدد البيوت التي تنوي سلطات الاحتلال تدميرها كبير نسبيًا، بالنظر إلى محدودية الفترة التي لم تتم الشهر الثاني بعد، إذ إن عدد منفذي عمليات الطعن قد اقترب من الـ90 شهيدًا وشهيدة، وهذا يعني أن عدد البيوت التي ستُدمر سيكون مواز لعدد الشهداء، فضلًا عن أن بعض المنفذين قد اعتقلوا ولم يقتلوا، ما يعني أن عدد البيوت المهددة بالنسف يتجاوز الـ90 بيتًا، علمًا أن بعض المنفذين هم من سكان القدس، الأمر الذي يعني أن بيوتهم في المدينة المقدسة ستدمر، وأنها لن تعوض، ولن يسمح بإعادة بنائها من جديد، في ظل تعذر البدائل السكنية، إذ لا أبنية جديدة، ولا بيوت قديمة خالية ومهيأة للإيجار، وفي حال توفرها فإن أجرة تأجيرها عالية، والضرائب المفروضة على المستأجر والمالك باهظة جدًا.
هنا يبرز دور الأمة العربية والإسلامية، فهي إن كانت وشعوبها غير قادرة على المساهمة في الانتفاضة، وعاجزة عن الوصول إلى المسجد الأقصى للرباط فيه والدفاع عنه، ولا تستطيع القتال إلى جانب الفلسطينيين والدفاع عنهم، فإنها قادرة على مساندة مقاومتهم، ومساعدة أهلهم، وتعويضهم عما يصيبهم، والمساهمة في صمودهم، وترسيخ وجودهم وبقائهم، إذ إن غاية العدو الإسرائيلي من هدم البيوت ونسف المنازل، تهجير الفلسطينيين وإخراجهم من أرضهم، وهذا بالنسبة له حلم وغاية، لأنه أكثر من يعرف أن الذي يعطي للأرض هوية وللمقدسات قيمة، إنما هو الإنسان الذي يعمر الأرض ويسكن البلاد، فلا قيمة لوطن لا يسكنه أهله، ولا يقيم فيه أصحابه، وإن كان لهم فيه حجر وبناء، وآثار ومقدسات.
هذه دعوة جادة نوجهها إلى القادرين والغيارى في هذه الأمة، وهم ثلة كثيرة، وجماعة كبيرة، ونداء نرفعه بصوت عال إلى الصادقين في نواياهم، والمخلصين في جهودهم، والمؤمنين بحتمية انتصار هذه الأمة، نطالب ميسوري الحال منهم، ورجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال، ومن كل من يرغب في مساعدة الفلسطينيين وتثبيتهم على أرضهم، ودعم وجودهم في القدس، إلى سرعة التحرك وتلبية النداء، فالمقدسيون ينادونهم، والفلسطينيون يناشدونهم، وكلهم ينتظر دورهم ويتوقع عطاءهم، فلنستجب لهم ولا نخيب رجاءهم، ولنكن معهم وإلى جانبهم، رجالًا نقاتل، أو مقاومين نجهز، أو دعمًا نرسل، ومددًا نزود.