ليلة صاخبة في باريس بكل المقاييس، ففي هذا التوقيت بالذات تكون الملاهي الليلية والمطاعم في فرنسا عادة مكتظة بالمرتادين ليل الجمعة والسبت، في عطلة نهاية الأسبوع التقليدية لدى الأوروبيين، وفي هذه الليلة بالذات لم يكن يخطر ببال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الذي كان يستمتع رفقة أكثر من ثمانين ألف متفرج فرنسي بمشاهدة مباراة منتخب بلاده التي جمعته بنظيره الألماني في مباراة ودية على ملعب ستاد دو فرانس في العاصمة باريس، ولو للحظة أن لذة انتصار “منتخب الديكة” بهدفين مقابل صفر ستصبح مأتمًا عند بعض العائلات الفرنسية بعد الهجمات الدموية التي استهدفت مناطق سياحية متفرقة من العاصمة الفرنسية.
لم ينتش الفرنسيون بالفوز لاعبين ومواطنين، كما لم يتمكن هولاند ووزير داخليته الذي رافقه لمشاهدة المباراة للاطمئنان على استعدادات المنتخب الفرنسي وتحفيز لاعبيه على تقديم عرض قوي أمام حامل لقب كأس العالم لطمأنة الجماهير الرياضية الفرنسية على قدرة منتخب بلادها على المنافسة بقوة على لقب كأس الأمم الأوروبية التي ستقام في فرنسا 2016، من الاحتفال والاستمتاع مع اللاعبين والحاضرين الذين يقدر عددهم بنحو 80 ألفًا بلذة الفوز على منتخب المانشافت بعد دوي انفجار هائل خارج الملعب تطلب من حرسه الخاص إخراجه من الملعب “لدواع أمنية” كما استوجب كذلك منع الشرطة الفرنسية للجماهير الحاضرة من الخروج.
هجمات متزامنة في مناطق متفرقة من العاصمة باريس سقط جراءها قتلى وجرحى بالمئات، فقد نقلت وكالة فرانس برس عن مصدر قريب من التحقيقات أن 120 شخصًا على الأقل قتلوا، وأصيب أكثر من 200 بينهم 80 إصابتهم خطيرة في الهجمات الإرهابية التي استهدفت ستة مواقع منها مطعم “باريس لو بيتيت كامبوديا” على مفترق طرق رو بيشات ورو آلبيرت، ومسرح باتاكلان على مفترق رو فونتاين وزوي بالإضافة إلى “لابيلا” بمفترق طرق رو دي شارون وجادة ريبابليك، حسب ما أعلن عنه المدعي العام الفرنسي، فرانسوا مولينز.
يعجز العقل عن تصديق ما حدث، فكيف لعاصمة الأنوار التي تضرب بها الأمثال في الأمن والأمان والقبلة الأولى للسياح في العالم أن تعجز عن كشف مخطط متزامن ضرب مربعًا سياحيًا أمنيًا في دقائق معدودة وقد تنوعت طرق القتل التي استعملها المهاجمون مستخدمين الأحزمة الناسفة والرشاشات، فوفقًا لما نقلته وكالة “الأسوشييتد برس” عن مسؤولين في الشرطة الفرنسية فإنه تم احتجاز نحو 100 رهينة في مسرح “باتاكلان” الذي أكد شهود عيان هربوا منه عند حدوث الهجوم أنه تحول إلى بحيرة من الدماء، مشيرين الى أن المهاجمين دخلوا المكان وفتحوا أسلحة أوتوماتيكية رشاشة باتجاه الحشود، ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد كبير من الحاضرين في الحفلة التي ينتظرها عشاق موسيقى الميتال الصاخبة من الباريسيين اللذين كانوا متشوقين للاستمتاع بعروض “نسور الموت” الفرقة الأمريكية القادمة من كاليفورنيا والشهيرة بموسيقاها وأغانيها الصاخبة دون أن يدري هؤلاء الباريسيون أن مسرح “باتاكلان” الذي آواهم كان واحدًا من أصل ستة مواقع استهدفها نسور موت حقيقيون في ليلة كانت أعلى صخبًا من الموسيقى الشهيرة.
لقد تحدثت بعض الأوساط الإعلامية الفرنسية عن كارثة 11 سبتمبر جديدة بنكهة باريسية كُتبت تفاصيلها هذه المرة برًّا لا جوًا، فقد استهدف المهاجمون مناطق سياحية تقليدية في باريس في هجمات غير مسبوقة في تاريخ فرنسا، فمسرح “باتاكلان” القريب من مكاتب مجلة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة، التي تعرضت إلى هجوم دموي في مطلع العام الحالي لم يكن بالمكان العادي الذي سهل على المهاجمين اختراق سياجه والدخول إليه والقيام بتصفية كل من اعترضهم بداخله ثم القيام بتفجير أنفسهم.
العملية الأخيرة توحي بأن تطورًا كبيرًا قد حدث فعلاً في عمليات الجماعة التي نفذت وخططت والتي من المرجح أن تكون بصماتها جهادية إما بفرعها “القاعدي” وإما “الداعشي”، رغم أننا نرجح بصمات تنظيم الدولة الإسلامية وذلك لتوافر الأدلة على ذلك خاصة بعد الاتهام المباشر الذي وجهه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى التنظيم بوقوفه وراء العملية التي خطط لها خارج وداخل فرنسا التي شهدت يوم الحادثة إجراءات أمنية مشددة على ملعب المباراة ومناطق حيوية أخرى داخل العاصمة تحسبًا لأي هجمات إرهابية خاصة بعد أن تلقت السلطات الفرنسية إنذارًا بوجود قنبلة في مقر إقامة المنتخب الألماني؛ مما دفع كل الوفد الألماني إلى الخروج من أحد فنادق الدائرة 17 في باريس وتغيير مكان الإقامة.
كذلك من الأدلة على وقوف تنظيم الدولة وراء الحادثة ما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية عن شهود عيان أن منفذي هجمات باريس رددوا في مسرح “باتاكلان” قبل ارتكاب المجزرة “أنها مسؤولية هولاند الذي لا يجدر به التدخل في سوريا”، في إشارة إلى القصف الجوي الذي تتعرض له مناطق سيطرة تنظيم الدولة داخل سوريا من الطائرات الفرنسية التي أعلنت فرنسا رسميًا تنفيذ أولى غاراتها في 27 من شهر سبتمبر الماضي بناء على معلومات استخبارية، جمعتها المقاتلات الفرنسية، خلال طلعاتها الاستكشافية، التي استمرت أسبوعين، وجاء في بيان صادر عن قصر الإيليزيه وقتها “أبدى بلدنا عزمه في مكافحة تهديد تنظيم داعش الإرهابي، سننفذ الغارات الجوية في كل حالة يتعرض فيها أمننا القومي للخطر”.
بعد إسقاطه لطائرة الركاب الروسية في سيناء واستهدافه لمعقل حزب الله اللبناني في الضاحية الجنوبية في بيروت في أقل من 10 أيام، ربما يكون تنظيم الدولة الإسلامية قد ثلّت بهجوم العاصمة الفرنسية باريس المتزامن، محقّقا بذلك هدفه ببث الرعب في الدول التي تقاتله لإرغام شعوبها على الضغط على حكوماتها لسحب مقاتلاتها التي ضيقت الخناق عليه وأفقدته السيطرة على العديد من مناطق داخل سوريا والعراق وقتلت وجرحت منه الآلاف.
لم تكن خطوة مفاجئة أن تنقل التنظيمات الجهادية حربها من الشرق الأوسط إلى داخل أوروبا في فترة لاحقة لم يحدد توقيتها بدقة عند دوائر الاستخبارات الأجنبية وربما حتى عند القيادات الأمنية والعسكرية الجهادية لأن عامل السرعة والمفاجأة والمباغتة رهان للجهاديين في حربهم المفتوحة واللامتوازية ضد خصومهم الأشداء، وقد كان منتظرًا أن تشهد أوروبا عمليات دموية كبرى وخاصة فرنسا بسبب دخولها في المستنقع السوري؛ فقد قال وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لودريان في تصريحات صحفية الأربعاء 16 سبتمبر الماضي “إن في أراضي سوريا يجري تدريب مقاتلين تكمن مهمتهم في شن ضربات ليس في سوريا بل في أوروبا، ولاسيما في فرنسا”.
إعلان التنظيم مسؤوليته عن الحادث قبل ساعات يجيب عن كل هذه التساؤلات ويضع الجميع في خندق إعادة الحسابات مرة ثانية.